في أحد المقاهي الموجودة على ضفاف شارع "بن غوريون" في مدينة حيفا التقيناه، كان جالسًا في زاوية قريبة من ضجيج المارة والشارع، يرتشف فنجانًا من القهوة ويشعل سيجارة ينفث دخانها بهدوء. حين وصلنا إليه، استقبلنا بترحاب شديد راسمًا على محيّاه ابتسامة سعادة طالبًا منّا مشاركته الطاولة والحديث .

إنه صالح بكري (34 عامًا) ، ابن قرية البعنة ، وصاحب الموهبة التمثيلية المميزة التي أثبت من خلالها حضورًا واضحًا في الساحة المسرحيّة والسينمائية في البلاد وخارجها، فقد استطاع بكري أن يحصد عدة جوائز تقديرية لموهبته خلال وقت قصير، بالإضافة إلى مشاركته في عدة مهرجانات عالميّة، أبرزها مهرجان "كان" الدولي في فرنسا، والذي حصد خلاله جائزة الحكام عن فيلم "الزمن المتبقي". هذا، إضافة لحصوله على جائزة "أفضل ممثل" عن فيلم "زيارة الفرقة الموسيقيّة" في حفل جوائز "أوفير" (جوائز الأوسكار الإسرائيلي) عام 2007 حتى يصل العدد الكلي للجوائز التي حصدها الفيلم إلى ثماني جوائز في عدة مهرجانات مختلفة، إضافة إلى عدد من الأعمال والمشاريع الفنية الناجحة والمميزة .

"بكرا" : حدثنا بداية عن الفيلم الفرنسي- المغربي المشترك الذي انتهيت من تصويره مؤخرًا في جبال ألأطلس ..

صالح: "الفيلم يحمل عنوان (عين النساء)، وهو فيلم من إنتاج فرنسي – مغربي مشترك كما ذكرت. تتمحور قصة الفيلم حول قرية صغيرة لم تصل إليها المياه أو الكهرباء بعد، فتقرر نساء القرية جميعًا الإضراب عن ممارسة الجنس مع أزواجهن حتى يكف هؤلاء الرجال عن التكاسل والعودة للعمل من أجل تحسين حال القرية وتطويرها. ودوري في الفيلم هو دور شاب مثقف يميل إلى الأصوليّة. ولكنني أفضل ألاّ أتحدث عن تفاصيل أخرى حول الفيلم ليحكم عليه الجمهور والنقاد عند مشاهدته فقط".

"بكرا" : لهذا السبب إذًا كنت غائبًا عن أداء دورك في مسرحيّة "العذراء والموت" وقام بتأديته الممثل شريدي جبارين عوضًا عنك خلال الفترة الماضية ؟
صالح: "أجل، فقد كنت منهمكًا في تصوير (عين النساء) ولم أستطع التواجد على خشبة المسرح خلال عدد من العروض لمسرحيّة (العذراء والموت)، لكنني اليوم عدت إلى هذا العمل الرائع الذي أحبه جدًا وباشرت التمثيل في عروضه المستمرة حتى اليوم".

"بكرا": برأيك لماذا نجحت مسرحية "العذراء والموت" وحققت أصداء ايجابية واسعة رغم أن الحركة المسرحيّة والإقبال على المسرح يعدّ ضعيفًا في بلادنا؟
صالح: "هنالك عدة عوامل لنجاح العمل بهذا الشكل اللافت، حيث إن النص الذي قُدّم كان مكتوبًا بأسلوب متميز ويناقش قضية غاية في الأهمية، بالإضافة طبعًا إلى عنصر التشويق الذي يرافق المشاهد طوال مدة العرض. كما لا يمكننا أن نغفل أن الممثلين المشاركين في العمل هم أصحاب موهبة تمثيليّة من (الوزن الثقيل)، سواء كانت كلارا خوري التي تعد صديقة طفولتي ورفيقة الدراسة أو عامر حليحل الذي يمتلك كل أدوات الممثل المتمكن".
وتابع صالح: "وأعود لأشدد على أن قصة العمل التي تشابه واقعنا وترتبط ارتباطًا مباشرًا بالقضية الفلسطينيّة وصراعها مع الاحتلال العسكري والتطرق إلى قضية المرأة بشكل واضح ساهمت بنجاحه وبلفت أنظار الجمهور نحوه".

"بكرا": نجدك مهتمًا بقضايا المرأة، وينعكس اهتمامك هذا بصورة واضحة من خلال أعمالك ..

صالح (مبتسمًا): "إن قضية المرأة، بنظري، هي قضية إنسانية من الدرجة الأولى، واستشهد بـ(جون لينون) حين قال إن النساء هن زنوج العالم .. حيث إن المرأة في بلادنا مثلاً تقع تحت احتلال الدولة العسكرية، بالإضافة لوقوعها تحت سلطة الرجل (الذكر) أيضًا في ذات الوقت. لهذا تجدني متعاطفًا مع قضاياها، حيث إني كإنسان فلسطيني، أجد نفسي متعاطفًا مع كل المضطهدين على هذه الأرض. ولكن علي أيضًا أن أنوه إلى أن تعاطفي هذا لا يحدني كممثل، حيث من الممكن أن أقدم أدوارًا تناقض مع شخصيتي في الحياة الطبيعيّة - ما دام العمل مناسبًا".

"بكرا": أخبرنا إذًا عن اعتباراتك لقبول عمل فني أو رفضه ...

صالح: "إني اعتقد أن فكرة تقديم (الفن من أجل الفن)، ما هي إلا فكرة سطحية وتافهة. فنحن لا نستطيع الفصل بين المجتمع والسياسة مثلاً، لأن التركيبة الاجتماعية هي تركيبة سياسية بالأصل. وأنا أرى أن دور الفنان هو السعي من أجل تحقيق التغيير. لذا، فهناك عدد من الاعتبارات الفنية والسياسية التي تحول بين قبولي عملاً أو رفضه، ونادرًا ما أجد عملاً يناسبني ويستفزني كممثل فلسطيني. لذلك، فإنكم تلاحظون أني مقل بأعمالي نسبيًا".

"بكرا": لنتحدث قليلاً عن البيان الذي أصدرته لتعلن موقفًا رافضًا لاستخدام فيلمك "زيارة الفرقة الموسيقيّة" من أجل الترويج لفكرة أن إسرائيل هي دولة ديمقراطية ..

صالح: "لا بد من الاعتراف أولاً أن فيلم (زيارة الفرقة الموسيقية)، الذي قدمت خلاله شخصية أحد أعضاء فرقة موسيقية مصرية تزور البلاد وتعيش مواقف عديدة داخلها، هو فيلم مميز، وأنا أحبه جدًا لأنه فيلم إنساني من الدرجة الأولى. لكنه، ولأسفي الشديد، تعرض لاستغلال واضح من وزارة الخارجية الإسرائيليّة التي استخدمته من أجل الترويج لفكرة (ديمقراطية دولة إسرائيل). وقد شعرت عندها أنهم يتلاعبون بي وكأنني أحد أحجار لعبة الشطرنج، ويحركون الفيلم الذي شاركت بتمثيله وفق ما يتناسب وأهدافهم. لذا قمت بإصدار بيان يعلن رفضي لهذا الترويج الكاذب بشكل فوري، غير أن بقية أعضاء طاقم الفيلم لم يحركوا ساكنًا، ولم يسجلوا أي موقف واضح رافض لهذا الترويج الكاذب لديمقراطية إسرائيل على حساب العمل".

"بكرا": ما رأيك بفيلم "الزمن المتبقي" الذي كان لك دور بارز فيه، وأخرجه إيليا سليمان ..؟

صالح: "فيلم (الزمن المتبقي) كان دقيقًا جدًا باختيار ملابس الممثلين، ومتقن في تصميم شكل البيوت والشوارع وحتى شكل الناس في عام 1948. فقد كنت أحب أن أراقب المخرج المتميز إيليا سليمان الذي أعتبره مخرجًا ممتازًا، وهو يصمم اللوحة الخاصة بكل مشهد. فقد منحني هذا العمل الجميل أن أحيا عام 1948 لمدة شهر واحد خلال تصوير الفيلم".

"بكرا": لا يمكن أن نلتقي بك دون التطرق إلى السؤال عن مدى تأثير والدك الممثل والمخرج محمد بكري عليك ..

صالح: "رغم أني درستُ التمثيل في كلية (بيت تسفي) التي تخرجت منها عام 2000، إلا أني أعتبر والدي معلمي الأول. فقد تعلمت من خلاله أهمية الرسالة الفنية ومدى تأثير الفن على الناس، كما قدمت معه عملين كنت فيهما ممثلاً بينما تولى هو مهمة الإخراج، وهما: مسرحية (وحيد) التي قدمناها قبل 11 عامًا، ومسرحيّة (يوم من زماننا) للكاتب السوري الكبير سعد الله ونوس عام 2004. لكنني حتى الآن لا أزال أحلم أن أقف أمامه في عمل فني يجمعنا معا، وآمل من صميم قلبي أن تتحقق هذه الأمنية".

"بكرا": حدّثنا عن "محمد بكري" المخرج و"محمد بكري" الأب ..

صالح: "إن محمد بكري مخرج مختلف ومن نوع خاص جدًا. فهو يخلق روحًا جماعيّة ممتازة في العمل، وأنا شخصيًا لم أقابل أي مخرج فلسطيني سواه يمتلك هذه الميزة. وبرأيي، إنه وفي ظل الانقسامات السياسية والتدهور السياسي الذي تشهده منطقتنا، تعد سياسته هي الأفضل، لكون العمل الفني الجماعي أهم بكثير من العمل الفني الفردي.
أما عنه كأب، فإنني أعتبر نفسي محظوظًا جدًا لأني ولدت في عائلة تمنح هذا الكم الكبير من الحب والاهتمام لأبنائها، سواء من والدي أو والدتي اللذين أكن لهما كل ود ومحبة".

"بكرا": ما رأيك بمدى تفاعل الشعب الفلسطيني مع قضيّة فيلم "جنين .. جنين" الذي أخرجه والدك عام 2002، وما يزال يعاني من تأجيل جلسات المحكمة في القضية المرفوعة ضده حتى اليوم..؟

صالح: "صدقًا أقول إني لا أجد وقفة الشعب الفلسطيني مع أزمة (جنين..جنين) كافية. وذلك لأن أبناء شعبنا بشكل عام لا يساندون الفنان ولا يبدون الاهتمام اللازم بالحركة الفنية والثقافيّة. فالمشاركة التي كانت خلال الجلسة الأخيرة للمحكمة، في السابع من آذار الماضي في تل أبيب، كانت قليلة نسبيًا. والتظاهرة التي أعلنت مجموعات شبابيّة عديدة تنظيمها من أجل مساندته كانت مخيبة لآمال من حيث الحضور" .
وأضاف: "لكني أؤمن أن قضية محمد بكري وفيلم (جنين .. جنين) تسكن قلوب الناس ويتعاطفون معها دون ترجمة هذا التعاطف إلى تصرف مادي ملموس".

"بكرا": ماذا عن مطلب الجنود تغريم محمد بكري بمبلغ مليونين وسبعمائة ألف شاقل، كتعويض عن الضرر الذي ألحقه الفيلم بهم؟ هل ستدفعون؟
صالح: "بالطبع لن ندفع أي غرامة. بل إنه من الواجب عليهم أن يدفعوا تعويضات مالية أكبر للمتضررين من جرائمهم، ويحب أن تتم محاكمتهم أيضًا"..

"بكرا": هل تشعر أن طاقاتك الفنية مستغلة بشكل جيد ..؟
"صالح": طبعًا لا. إني أشعر أنني بحاجة ماسة إلى أن أنجز وأبدع أكثر في عملي، لكنني أعزو هذا الركود الفني الذي نعيشه لأننا لا نزال في طور البحث عن الحركة الفنية الفلسطينيّة التي لم تُخلق بعد. وأنا أعتبر ما يجري حاليًا على الساحة الفنية في بلادنا ليس إلا محاولات لخلقها فقط"!..

"بكرا": عمل فني تحلم بتقديمه ..
صالح: "أتمنى فعلاً أن أقدم عملاً فنيًا غير سياسي يحمل طابعًا خياليًا مثل سلسلة أفلام (هاري بوتر)، كما أني أتمنى أن أقدم شخصية (علاء الدين) أو (السندباد) في عمل فني ضخم. ذلك لأني أشعر أن أي عمل من هذه الأعمال سينجح بأن يفجّر طاقاتي التمثيلية ويزودني بشحنات إبداعيّة كبيرة"..

"بكرا": كلمة أخيرة ..

صالح: "شكرًا على هذا الحوار الممتع وأتمنى لطاقم العمل في (بكرا)، كل التوفيق والنجاح".



 

استعمال المضامين بموجب بند 27 أ لقانون الحقوق الأدبية لسنة 2007، يرجى ارسال رسالة الى:
[email protected]