تخصّص راوية بربارة هذه القصّة لجيل المدرستيْن الإعداديّة والثانويّة، ضمن برنامج "أغصان الزيتون" وهو عبارة عن سلسلة من القصص المخصّصة للشباب في هذه السّن.

تدور أحداث القصّة، في بلد أوروبيّة، أثناء رحلة استجمام لعائلة عربيّة مكوّنة من الوالدين وشاب وصبيّة في جيل المراهقة. تتمحور القصّة حول العادات والتقاليد العربيّة التي تلغيها الحدود الجغرافيّة، والتي يسمح فيها مجتمعنا (متمثّلا بالسلطة الذكوريّة/ الأب) للشاب أن يخترق مفاهيم العرض والشرف والصحبة، بينما يضع الحواجز والموانع في وجه الفتاة إذا ما تجرّأت أن تنتابها نفس المشاعر، وأن تقوم بنفس الأمور التي تُعتبر مصدر فخرٍ للشاب، ومصدر عارٍ للفتاة. الشخصيّة المركزيّة في القصّة هي الشابة روان، وهنا نجد أنّ الكاتبة عمدت إلى كسر التابوهات المتعارف عليها والتي تُسند أدوار البطولة للذكور دون الإناث، وذلك من منطلق تعاطفها مع بنات جنسها من جهة، ومن منطلق بثّ مشاعر المراهقات حول تعقيدات أو عادات المجتمع المتوارَثة. الحدث الرئيس هو علاقة عازفة الناي العربيّة، روان، بفنّان أجنبي عازف قيثارة، يلتقيان للمرة الأولى في مطعم الفندق عند اختيار وجبة الصباح، يتبادلان التحيّة وتبدأ العلاقة بين الشابة المراهقة التي تسحرها ألحان قيثارة هذا العازف الغريب. يلاحظ أخو الفتاة بوادر هذه العلاقة فيحاول أن ينهَى أخته عنها لأنّه لا يريد لأخته علاقة مع أجنبي لا يعرفُ مصيرها، يدفعه في المعارضة هاجسٌ آخر هو مدى جديّة الأجنبيّ من جهة والتستّر على العلاقة ووأدها قبلَ أن تستفحلَ. هنا يدور الصراع بين الأخ الذي يمثّل سلطة القبيلة في عصر لم يعد يعبأ بسلطات القبيلة المتمسكة بالقديم وبين الأخت التي تؤمن بالثورة على القديم والعيش بموجب مفاهيم العصر الحديث. فقد تغيّر شيء كثير في حياة الشباب، ولأبيها تقول روان بطلة القصّة: "حقًّا لقد تغيّر الزمن يا أبي" (ص. 42)، فهل تسير خلف أهوائها وقلبها، وهل تعيش في الأحلام الذهبيّة كما تتمنّاها، أم ترضخ لسلطان القبيلة المتمثّلة بالأخ رواد الذي لا يخبّئ مشاعره عن أخته وعن أهله، ويحاول أن يعيش صراعًا حقيقيًّا بين التقاليد القبليّة وبين كلّ ما هو جديد ضاربًا بعرض الحائط ما يحيط بالقديم من عدم الرضا على هذا القديم.

الأسلوب: تلجأ الكاتبة إلى الإيجاز وإلى السرعة في سير الأحداث بحيث يشعر القارئ أنّه يعيش معها صراعًا كبيرًا عندما تجعل البطلة روان تعيش التمزّق الخطير بين الماضي والحاضر! بين التفكير العقلاني والمتحجّر، وبين الفكر الثوريّ المتحرّر! فأين تصنّف نفسها؟ هذا هو المحور الرئيس الذي تدور حوله أحداث هذه القصّة! وهي، أي صديقتنا راوية، تحاول من خلال هذا الإيجاز أن تدخلنا لنعيش معها الصراع والتمزّق اللذين تعيشهما روان وأخوها رواد من خلال القليل من الكلام المبطّن الذي يحمل أكثر من معنى خاصّةً عندما تتلاعب بالمصطلحيْن "صهيل وناي"، فأيّ ناي هذا وقد جعلت المؤلّفة بطلتنا روان تعيش في جوٍّ من التناقض بين الناي الأصيل، والناي المهجّن، كما في آخر القصّة!

تلجأ الكاتبةإلى المفارقة، ففي الوقت الذي يفخر فيه الوالد بأنّ ابنه حظى بصديقة شقراء في هذه الرحلة، يشعر بالخوف والأسى عندما تتطوّر العلاقة بين ابنته والشاب الأجنبيّ، ويلقي باللوم على زوجته وتربيتها، ينسب الإيجابيّات له والسلبيات لزوجته، وفي هذا تلميح مبطّن لعقليّة لا يُفصح عنها الأب بصراحة، فالمجتمع العربيّ يفرّق في تعامله ما بين الإناث والذكور في نفس المواقف، وهذه التفرقة يتناقلها جيل عن جيل، فنرى أنّ موقف الأخ رواد هو أكثر تزمّتًا وصعوبة من موقف الأب الذي يتعامل مع الأمر بعقلانيّة، أكثر من الابن الثائر الهائج الذي يبيح لنفسه ما يحظر على أخته.

ويزداد الصراع عنفًا عندما تحتدّ روان من تدخّل أخيها رواد في شؤونها الخاصّة محاولا منعها من تطوير العلاقة مع الشاب الفنان الأجنبي خوفًا عليها من حديث المجتمع، بينما يعشق هو فتاةً أجنبيّة! فكيف سمح لنفسه أن يعيش هذا التناقض!؟

هل المسموح له ممنوع على أخته؟! أيّ فكرٍ رجعيّ هذا؟ وكيف يسمح لنفسه أن يعشق تلك الشقراء ويحظر على أخته أن تحبّ ذلك العازف ولو كان أجنبيًّا؟

أمّا الأب والأمّ فيبدو دورهما جانبيًّا وثانويًا لأنّهما نادرًا ما تكلّما أو أدلى أحدهما بدلوه في هذا الموضوع، فالأمّ تحبّ ولديْها وكذلك الأب، إلاّ أنّ الأب أقرب إلى الانفتاح من الأمّ ويبدو راضيًا عن علاقة ابنه رواد بالشقراوات، فإلى أيّ مدىً؟! هذا ما لم تفصح عنه المؤلّفة، وليقرّر القارئ بتفهّم ماذا سيكون موقف الأب المتساهل؟!

قبل الوصول إلى النهاية تمهّد لنا المؤلّفة بواسطةِ مونولوج مسبق لنهاية القصّة وذلك (ص. 14) حينما تقول: "اسبحي يا روان مع التيّار وإلاّ غرقتِ"، فعن أيّ تيارٍ تتكلّم؟

التقاليد عند راوية تشتعل كما تشتعل شعلة الأولمبياد التي يتناقلها الأبطال ولكنّها لا تنطفئ.

ولكن وعلى الرغم من دخول روان في تيار الشكّ، تيّار التمزّق ما بين القلب والعقل، تيّار الفكر وتيّار التهيّؤات والأحلام، فإلى أيّ نتيجة ترجو أن تصل؟ الفصل صيف والشمس حارّة، أمّا الأرض فملتهبة تحت قدمي روان عندما خرجت من بركة السباحة، وإذا كانت الأرض ملتهبة فإنّ القلب ينبض ملتهبًا أيضًا، ولكن حرارة أشعّة الشمس تجفّف قطرات الماء التي ترشح من بللها، وتتساقط على الأرض (ص. 15)! فهل تجفّ دموعها عندما تتساقط هذه الدموع من عينيّ روان التي باتت متعلّقة بذلك الشّاب العازف الأجنبيّ؟!

باتت ألحان الغريب تُشعل جسدها وبدأ القلب ينبض نبضات غير التي تعرفها روان وهي تسير إلى حيث كان الغريب يعزف على قيثارته والجموع يتجمهرون حوله يصغون لعزفه ولموسيقاه. أمّا هي فقلبها يصغي وينبض بشدّةٍ، وأخذت تترجم نغمات العازف إلى لغتها العربيّة، فتمثّل لها صوت العازف باللغة العربيّة حيث قال عبد الوهاب مرّة: "وتعطّلت لغة الكلام وخاطبت عينيّ في لغة الهوى عيناك"! إنّها إذن تعيش قصّة حبّ جميل لا ترجو اليقظة منه!

هنا يصل الصراع بين القديم، متمثّلا بدور الأخ رواد الذي يعارض أخته في تعلّقها بالشاب الغريب، وبين الفكر الثوريّ الذي يقبل الأفكار الثوريّة الحديثة وينطلق إلى كلّ ما هو جديد، إلى أوجه!

الصراع ميزة القصّة: الشباب الذي ينتقل من مجتمعه إلى مجتمع آخر، قد يجد في هذا المجتمع ما تتوق إليه نفسه من الانطلاق والثورة والحريّة، والمؤلّفة هنا تبدو إنسانة شديدة الذكاء، حيث تشرعن الحوار كما ذكرنا ولكن من طرفٍ خفيٍّ، وترفع من حدّة الصراع بانتقائها للكلمات المبطنة، والتعابير ذات المعاني العميقة بحيث لا يستطيع القارئ إلاّ أن يتّخذ موقفًا من كلّ حدث يمرّ خلال عمليّة السرد! هكذا تعمل جهدها على أن تشركنا معها في تخبّطاتها التي تقف فيها بين بين! وإذا كانت راوية قد جعلت الأهل يظهرون بشكلٍ واضحٍ من اللامبالاة إزاء الصراع بين القديم والحديث وذلك من باب العبقريّة والعفويّة التي تُسبِغها على الأهل، ثمّ إنّها لا تكلّف نفسها في انتقاء اسم المحبوب عازف القيثارة لتترك الأمور تتطوّر لوحدها وتقف أحيانًا لا مبالية إزاء ما يحدث، فكما الأمّ كذلك الأب لا تطوّر في مواقفهما بل يلمّحان في تلميحات ذكيّة مع وضدّ؛ مع التعصّب والتمسّك بالقديم ومع التجدّد والحداثة أو التحديث بالمقابل.

تجعل الكاتبة الأحداث تنبض بالحركة، إذ يخرج نزلاء الفندق في رحلة سياحيّة في سيّارات الجيب بين أحضان الطبيعة، ويشاء القدر أن يكون العازف الأجنبي أحد المشاركين في النزهة التي تشارك فيها العائلة، والتي توزّع فيها بنادق رشّاشة، ليلهو المشتركون في قذف بعضهم في المياه حماية من حرارة الشمس وللتلهّي اثناء السفر. ولكي تزيد الطين بلّة، تجعل رواد الأخ ينزلق في منحدر خطر في مياه النهر حيث يجرفه التيّار، فلا ينجح أحدٌ في إنقاذه سوى ذلك الغريب ذي العينيْن العسليّتيْن!

تجيد الكاتبة الولوج في فصل جديد حتى دون أن تلمّح لذلك أثناء السرد، هكذا تطوّر الموقف وتؤزِّمه بين رواد والعازف الأجنبيّ، حيث يتبادلان الضربات برشاشات المياه، يتّخذ رواد ذخيرة رشاشه من الماء المخلوط بالرمل والتراب أي الوحل انتقامًا لكرامته ولعِرضه، فيصوّب الرشاش إلى العينين العسليّتيْن، إلاّ أنّ قدمه تنزلق عن الصخور التي كستها الطحالب المالسة، فيطير الرشاش من يده عندما يتهادى ويكاد يسقط في مياه النهر الجارفة الشديدة، ولا يستطيع أحد إنقاذه ولا حتى المنقذ، وهنا تُدخلنا المؤلّفة في مفارقة جديدة حيث تجعل العازف الأجنبيّ يأتي بسيّارته الجيب مجازفًا فيدخل في طرف مياه النهر وصخوره بحيث يقترب من رواد الذي كادت تنهار قواه، فيمسك بطرف حديد سيّارة الجيب ويأتي بعض أصحاب السيّارات الأخرى فيقفون في صفّ واحد ويرمون بحبل متين يربطه رواد في طرف سيارة الجيب التي يجلس فيها مع ذي العينين العسليّتين، وتتضافر الجهود ويخرج الجميع من خطر الموت غرقًا.

وهنا تضع المؤلّفة حدًّا لأزمة الموت غرقًا، إلاّ أنّها تؤجّج نيران الحبّ الحقيقيّ المشتعلة في صدر روان، وتُدخلها في صراع داخليّ يتنازعها عاملان: عامل الحبّ لذي العينيْن العسليتيْن الذي أنقذ أخاها رواد من الموت المحتّم، وعامل الخضوع للتقاليد وسلطات القبيلة.
وهكذا تنجح المؤلّفة في وصف الأزمة مؤزّمة إيّاها في زاوية واحدة، وتجد لها الحلّ الذي يرضي جميع الأطراف: يرضي العازف الأجنبيّ الذي خاطر ونجح في مهمّته، يرضي رواد وينجّيه من الغرق، يرضي روان لأنّ من تحبّه هو الذي أنقذ أخاها، ويرضي الوالدين، ويرضي جميع الحضور، ولكن!

تبقى الأزمة الأخرى فتحاول الوصول إلى قمّة أخرى جديدة عندما يمرّ العازف المنقذ بجانب روان ويقدّم لها نايًّا جديدًا وقصاصة ورق صغيرة عليها اسمه وعنوانه الإلكتروني.

هنا وقبل النهاية تعود المؤلّفة فتؤجّج الصراع الداخليّ في نفس روان التي أخذت الناي وشعرت بقشعريرة بسبب برودة الناي، وتحاول أن تنفخ في الناي فتصدر الناي لحنًا غريبًا. فلماذا اختارت المؤلّفة أن يكون لحن هذا الناي الهديّة غريبًا كصاحبه؟ وتتساءل مستغربة فتقول: لمَ لمْ يجمح الصوت على صهوة أحلامها؟ (ص. 43)

وما هي علاقة الأصالة بصهيل الناي؟ وهل الغريب بعيد عن الأصالة؟ أم أنّ ما نعرفه في حضارتنا هو الأصالة بذاتها؟ إذن علاقة روان بالغريب العازف ليس فيها أصالة، والغريب أنّها على الرغم من مشاعرها الجيّاشة إزاء هذا الغريب الذي غزا قلبها، إلاّ أنّها لا تهتمّ بالورقة التي سقطت من يدها وعليها اسم من تحبّ وعنوانه الإلكترونيّ. كما أنّ الناي الهديّة يتدحرج من يدها ويصهل على الأرض وحيدًا.
هنا تنتهي القصّة ولكنّها لم تصل إلى النهاية.

فالكاتبة هنا ذكرت آخر كلمات وأبقتها مبهمة...لأنّه ما معنى قولها؟ ونايٌ صهل؟ إنّها مرّة أخرى تترك النهاية مبهمة احترامًا منها لعبقريّة القارئ الذي تترك له حقّ الاختيار في استمرار العلاقة بين روان والعازف الغريب، أو قطع العلاقة لتعود روان إلى حياتها ومجتمعها العربيّ الذي يعيدها إلى أصالة وتقاليد مجتمعها الذي نعيش فيه.
إنّها في هذه النهاية كما ذكرنا تكتب بأسلوب مكثّفٍ وبالقليل من الكلام الذي يحمل أكثر من معنًى!! فكلمتا "وصهلَ نايٌ" ليس فيهما ما يكفي لفهم هذه النهاية.

أخيرًا أقول: نحن نكتب لهدفٍ، نحن نكتب إمّا للخلود وإمّا لفائدة الآخرين حيث نفصح بآرائنا حول القضايا المعلّقة التي نتطرّق إليها من خلال كتاباتنا.
ولكن المؤلّفة هنا تركت الباب مفتوحا على الرغم من كونها امرأة ذات تجارب حياتيّة كثيرة، وذات عبقريّة خاصّة في فكرها المستنير ولا تعييها الإجابة لا على هذا السؤال ولا على غيره من الأسئلة، فلماذا إذن تركت المجال مفتوحًا؟!

إنّها بهذا الأسلوب إنّما تسعى لجعل القارئ إنسانًا مفكّرًا، وليس كأداة تسجيل تنقل إليه ما تريد فيقبل أو يرتدّ، أرادت من القارئ أن يشاركها في صنع الأحداث وأن يكون شريكًا فعّالا في عمليّة الكتابة، وبالتالي في عملية تغيير مفاهيم المجتمع أو التشبّث بها!

أخيرًا: نعتقد أنّ الكاتبة ارتفعت بمستوى الحوار مع جمهور قرّائها في الإعداديّات والثانويّات ولمحت للهدف الذي تريده من خلال بضع كلمات فيها شيء قليل من الاستثارة بحيث يصعب على القارئ الشاب الصغير فهم ما ترمي إليه من أهداف، فالصراع الذي تتحدّث عنه ليس جديدًا على مجتمعنا العربيّ، إلاّ أنّ المؤلّفة توظّف هذا الصراع بشكلٍ ذكيٍّ لتصل أو لتوصل القارئ إلى الهدف المرجو وهو الارتقاء بالعلاقات الإنسانيّة إلى مستوى العصر الحاضر، والتحرّر من قيود القبليّة والعائليّة، فهل بهذا التعقيد وعدم الوضوح، سيصل شبابنا إلى فهم الحقيقة والدور الذي قصدته المؤلّفة.؟! على هذا السؤال يظلّ الجواب مبهمًا في كلمتي "صهيل وناي"، هذه النهاية التي تفتح باب الحوار بين القرّاء على مصراعيْه.
هذا هو أسلوب صديقتنا الأديبة راوية بربارة، إنّه أسلوب السهل الممتنع، وهي تجيد العزف على أوتار الكلمات! فهنيئًا لها ما تُبدع وتجدّد.
لكِ الحياة أيّتها الصديقة الطيّبة!

                                                                                                                                                د. بطرس دلّة

                                                                                                                                                 

استعمال المضامين بموجب بند 27 أ لقانون الحقوق الأدبية لسنة 2007، يرجى ارسال رسالة الى:
[email protected]