تعود إليكم فرقة "سلمى" حاملةً عملًا فنّيًّا متكاملًا خاصًّا، يجمع بين التمثيل والرقص والدبكة، ليعبّر لكم عن فحوى اجتماعيّة سياسيّة، تعكس جوانب عامّة وهامّة في مجتمعنا – هذا ما جاء في الفِقرة الأولى ضمن ما كُتب على الصفحة الثانية من الكرّاسة التي وُزّعت، قبل بدء عرض "حوض النعنع".

صفّيت ذهني ونفّضت من فكري كلّ ما سمعته مسبّقًا عن إبداعيّة "حوض النعنع"، كَيْلا يخيب ظنّي خلال مشاهدتي العرض.. فدخلت قاعة "كريچر" القابعة في كرملنا الفرنسيّ الحيفاويّ، مساء السبت الأخير، برفقة زملائي وإخوتي من طاقم صحيفة "حيفا"؛ نقيّ الذهن، خالي البال، منتظرًا بدء العرض.

ابتدأ العرض بلوحة فنّيّة راقصة لفرقة "سلمى" للفنون الاستعراضيّة، واستمرّ على مدار ساعة ونصف الساعة تقريبًا، مازجًا ما بين الموسيقى، الغناء، اللوحات الفنّيّة الراقصة، والتمثيل.

تمايلت خلال العرض الفنّيّ أجساد الراقصات والراقصين على أنغام الموسيقى، لترسم لنا صورًا فنّيّة جميلة، وتصوّر لوحات إبداعيّة – شرقيّة وغربيّة – متنوّعة وراقصة، بأداء استعراضيّ راقٍ، ينمّ عن حرفيّة ومهْنيّة، ويظهر تناغمًا وانسجامًا بين أعضاء فرقة "سلمى" الاستعراضيّة.

ما يقارب الـ 45 راقصة وراقصًا، أدَّوا عرضًا فنّيًّا مُبهرًا، فأحيوا المسرح وملأوا الحيّز. تميّزوا بالمَهمّة فعلًا.. رقصوا، دبكوا، تمايلوا، انسجموا.. فانسجم وتمايل معهم، أيضًا، الجمهور الذي ملأ القاعة.

تطرح إبداعيّة "حوض النعنع" موضوعًا اجتماعيًّا عن الغربة والاغتراب، وتعكس جوانب هامّة من حياة مجتمعنا العربيّ، وتطرح بعض مشاكل شبابنا وهجرتهم إلى الخارج وزواجهم بأجنبيّات، وعن أهميّة البقاء في الوطن والتشبّث بالأرض؛ من خلال مشاهد تمثيليّة ساخرة (كوميديّة) تتداخل معها اللوحات الراقصة والدبكات، لتعبّر هي الأخرى – بطريقة استعراضيّة وأدائيّة رائعة – عن فحوى هذا العمل الفنّيّ من مجابهة وفراق، غربة وعودة، بقاء واغتراب.

وبالفعل حاكت اللوحات الفنّيّة الراقصة الحضور، تمامًا كما حاكته المشاهد التمثيليّة.. فالإدماج والمزج ما بين الرقص الاحترافيّ بأنواعه والتمثيل الجيّد، يعطينا صورًا جماليّة ولوحات إبداعيّة، تكمّل إحداها الأخرى، لتجمّل العمل وترقى به.

رغم أنّ "حوض النعنع" ليس عملًا فنّيًّا جديدًا، ولم يكن هذا هو العرض الأوّل، إلّا أنّه كان من الواضح أنّ جمهورنا عَطِشٌ إلى مشاهدته، وخصوصًا أولئك الّذين لم يتسنّ لهم مشاهدته من قبل، فالحضور الّذي ملأ القاعة، كان أكبر دليل على أنّ العمل يستحقّ المشاهدة.

وإن تركت فرقة "سلمى" للفنون الاستعراضيّة في "حوض النعنع" بصمتها الفنّيّة، بتقديمها لوحات راقصة أدمجت بين الماضي والحاضر، تمازجت فيها الأصالة والحداثة، فالتمثيل في هذا العمل الفنّيّ كان له دور هامّ، وهامّ جدًّا، أيضًا.

وهنا لا بدّ لي أن أقف عند ممثّلَين أبدعا وأثريا العمل، وجسّدا دوريهما بإتقان، فأضفيا على شخصيتهما روحهما ولمستهما الفنّيّة، فكمّل أحدهما الآخر واكتمل معهما وبهما العمل التمثيليّ.

إياد شيتي (غسّان) وولاء سبيت (عاصي) نجمان فنّيّان لمعا في هذا العمل. فاجأني – إيجابيًّا طبعًا – الشابّ ولاء سبيت بأدائه دور الابن (عاصي) في "حوض النعنع".. فجسّد شخصيّة (عاصي) بنكهة فنّيّة خاصّة، فارضًا شخصيّته وتاركًا بصمته الفنّيّة على شخصيّة (عاصي).

مزج سبيت ما بين فنّ التمثيل والرقص والحركة، ليرينا أنّه يختزن طاقة فنّيّة باستطاعته أن يحوّلها إلى عمل مميّز على المسرح. أنا أكيد من أنّ ولاء سبيت لديه الكثير ليعطيه ويقدّمه لجمهورنا، لأنّه – باعتقادي، حتّى الآن – "يُخفي" عن الجمهور الكثير؛ فعلى ما يبدو لم يكتشف جميع قدراته الفنّيّة بعد، ولم يلتفت غيره لما يخفيه من مفاجآت..

ولاء فنّان متنوّع جامع، له قدرة على التمثيل والرقص والغناء والحركة "الاستعراضيّة"، وهذه الأمور نادرًا ما تجتمع في شخص واحد.. وولاء، مؤخّرًا، في تقدّم مستمر، وتحسّن دائم من عمل إلى آخر – رغم شُحّ أعماله.. عليه أن يستغلّ طاقاته الفنّيّة وتميّزه هذا، ليفاجئنا ويؤكّد لنا، فعلًا، أنّ لديه ما يقدّمه – بشكل فنّيّ راقٍ.. فكلّما تميّز بعمل ما أصبحت المهّمة أمامه أصعب، لأنّ عليه أن يصبو، دائمًا، إلى تقديم الأفضل، وأفضل ما عنده، إلّا أنّه يستطيع ذلك..! ونحن ننتظر، ونتوقّع منه الكثير.. بالتوفيق ولاء.

أمّا إياد شيتي فكان له دور رئيس في إنجاح هذا العمل التمثيليّ، فمن خلال شخصيّة غسان الّتي جسّدها وتأديته لهذا الدور، أكّد، مجدّدًا، أنّه فنّان مبدع، يستطيع الإبداع والتميّز بأيّ دور يؤدّيه – كوميديًّا كان أو تراجيديًّا أو دراميًّا – فهو من الفنّانين الّذين ينوّعون في التمثيل ولا "يقولبون" أنفسهم في قالب تمثيليّ واحد، وهنا يبرز تفردّ وتميّز الممثّل.

لعب إياد شيتي دورًا رئيسًا، فعلًا، في هذا العمل وشكّل مع ولاء "ثنائيًّا" تمثيليًّا مميّزًا وخاصًّا؛ أمتَعنا إياد بتمثيله، أضحكنا، وشدّنا، ودفعنا إلى انتظار إطلالته بين مشهد وآخر.. "براڤو".

دخلت لأشاهد العرض – كما ذكرت، آنفًا – من دون آراء مسبّقة؛ لكنّ تخوّفًا ما ساورني، فاعتقدت أنّ المشاهد الكوميديّة في هذا العمل قد تحطّ من قيمته، خصوصًا أنّه يحكي عن الأرض والغربة والوطن.. إلاّ أنّ هذا الخوف سرعان ما تبدّد؛ فالمشاهد الكوميديّة، وهذا الإدماج الرائع ما بين اللوحات الفنّيّة والتمثيل، أضفت بصمةً فنّيّة مميّزة وخاصّة على هذا العمل، أكّدت أنّ من يقف وراءه مهْنيّون وفنّانون.
وجدته، فعلًا، عملًا فنّيًّا متكاملًا خاصًّا – كما كُتب على الصفحة الثانية من الكرّاسة.

وفي الختام لا بدّ لي أن أذكّر بأنّ وراء هذا النجاح والعمل الاستعراضيّ الرائع يقف طاقم كبير، وعلى رأس هذا الطاقم تتربّع الفنّانة فريال خشيبون.

فريال، ليس لديّ الكثير ما أقوله سوى: كلّ الاحترام.. "براڤو"

إبداعيّة "حوض النعنع" – تأليف: الكاتب محمد علي طه؛ تمثيل: لطف نويصر (أبو عاصي)، رنين بشارات – إسكندر (أمّ عاصي)، ولاء سبيت (عاصي)، إياد شيتي (غسّان)؛ رقص: فرقة "سلمى" للفنون الاستعراضيّة؛ تصميم الرقصات والأزياء: مؤسّسة ومدرّبة الفرقة، الفنّانة فريال خشيبون؛ تصميم الرقصة الأمريكيّة: أنستاسيا. رسم الخلفيّة: مروان صبّاح؛ مراجعة نصّ وإخراج: طاقم الممثّلين وفريال خشيبون.
 

استعمال المضامين بموجب بند 27 أ لقانون الحقوق الأدبية لسنة 2007، يرجى ارسال رسالة الى:
[email protected]