ما الإنسان إلا جملة مواقف وأحداث تصبح مع مرور الوقت قصصاً تتناقل لتصل إلى تاريخ يسجل وينقل ويروى, منها ما هو مشرف, ومنها ما هو أكبر من ذلك, ومنها ما يسجل بماء الذهب الذي لا يساوي دمعة عين من إنسان مظلوم يشتاق للحرية .
لا أذكر أني كنت حزيناً كذلك اليوم وكتلك الساعة التي علمت بها أن شقيق الروح معاذ لن يكون ضمن قائمة المحررين في صفقة الشرف والعزة صفقة الوفاء للأحرار ، ولم أستطع أن أخفي دموعي وأنا أتذكر معاذ وشقيقه عثمان أولاد الشيخ المربي الراحل سعيد بلال اللذان رضعا لبن العزة من شجرة فلسطين وزيتونتها الرومية .
الموقف الأشد والأكثر ألماً وصعوبة والذي لم يتمالك أحد كبح جماح دموعه من الانهمار, هو موقف الأخوين من عدم خروجهما في الصفقة ، لم يلعنا حظهما ولم يكفرا بالقيم والمبادئ التي قاتلا من أجلها وأسرا على أثرها عثمان عام 1995 ومعاذ عام 1998 وصدر بحقهما حكم المؤبد, وما أدراك ما المؤبد في سجون الاحتلال.
وقف عثمان في وسط السجن الواقع جنوب فلسطين المحتلة وسأل هل لنا اسم في الصفقة, فأجابته دموع الإخوة لا لم يقدر الله ... سجد سجدة شكر ووقف معاذ وقال يا رب لك الحمد اللهم إني راض بحكمك فارضَ عني وخرّ ساجداً لله يمرغ جبينه تذللاً لله شكراً وحمداً, طالباً من العلي القدير أن يلهم أمه التي تنتظر الصبر والرضا .

رفع رأسه من السجود ليعانق من أفرج عنه ويبتسم لمن سيخرج ويواسي من تبقى مذكراً بجزاء من صبر, وأن الله اختار ما هو خير كابحاً رغبّة النفس وانتظارها الحرية طوال هذه السنوات متناسياً جميع الوعود التي سمعها بقرب الإفراج عنه واثقاً بحكم الله .
لم ينتهِ المشهد ولم تنتهِ الحكاية ، أصرّ القائد معاذ الذي تربّى في محضن التربية حضن الشيخ سعيد بلال أن يخطب الجمعة ووقف بين الجموع يثني ويحمد الله وتزمجر حنجرته متجلداً أمام عدوه فرحاً بخروج إخوانه لم يتأتئ بحرف ، يهنئ من أفرج عنه ويعد من تبقّى بالأجر وقرب الفرج ، كان المشهد أكبر من أن يوصف ، أقسم لي بالله لم يبقَ أحد في الجموع لم يبكِ إلا معاذ هو الوحيد الذي لم يبكِ ، داس على جراحه طار فرحاً بإخوانه المفرج عنه .
يوم الإفراج والخروج من السجن كان يوماً صعباً خرج الجميع ولم يتبقَ إلا القليل في هذا القسم ممن لم تشملهم الصفقة ينظرون إلى بعضهم البعض، عثمان معتقل منذ ثمانية عشر عاماً وهو الآن من الأسرى القدامى ومعاذ الذي تجاوز الأربعين, وشبان هنا وآخرين هناك وأم قلبها يتحرق شوقاً لضم الحبيبين .
لم يكن المشهد على الجانب الآخر أقل بطولة وفداءً, بل على العكس كان الأكثر بطولة ، فهؤلاء الأبطال والأخوين معاذ وعثمان من حضن هذه الصابرة خرجا يقاتلان ويذودان عن ثرى هذا الوطن ، ومن حضنها الدافئ الحنون تعلموا الصبر والبطولة, وهي التي استودعتهما لله في كل مرة كان أطفالها يعتقلون.
ولحضنها تتمنى أن يعود الصغيران حتى لو كسا الشيب رأسهما الطاهر الشريف الذي ما انحنى يوماً إلا لله أو في سبيل الله .
معاذ الأسطورة وعثمان الحبيب حكاية من فلسطين ولكنها ليست كباقي الحكايات حكاية من تربى وأحسن الله تربيته حكاية من صبر وتعلم معنى الصبر حكاية من قال عنه الله عز وجل (إنما يوفى الصابرون أجرهم بغير حساب) .

تلك حكاية معاذ بلال الطفل الأربعيني, خطيب جامعة النجاح المفوه, المحكوم بالمؤبد 26 مرة, الصابر المصابر المحتسب, من سجل في التاريخ وللتاريخ قصة صبره ورضاه بحكم الله وقضاء الله رفيق درب خليل الشريف وخلة الوفي ورفيق درب نسيم ابو الروس وجاسر سمارو ويوسف السركجي .

استعمال المضامين بموجب بند 27 أ لقانون الحقوق الأدبية لسنة 2007، يرجى ارسال رسالة الى:
[email protected]