"ليس هناك حرية جزئية، إما ان تكون حرا او لا تكون" (والتر كرونكايت)

من قالَ أنّ عهدَ العبوديةِ قد ولّى؟ صحيحٌ انه لم تعُد هنالك اسواقٌ للتجارةِ بالرقيقِ واختفت اعمالُ السخرةِ لكن هنالك العبوديةُ الجديدةُ المتمثلة بالإتجارِ بالنساءِ وبتشغيلِ الاطفالِ وهناك العبوديةُ الاشد وقعا وهي تلك نختارها بأنفسنا: هناك من يعبد المالَ وآخرٌ يعبد الحبيبَ وآخرٌ عبدٌ لسرٍّ يكتمهُ وآخرٌ عبدٌ لكراهية يحملها وآخرٌ عبدٌ لمشغله او لعامله او لمزوده.

هل سألت نفسك يوما من الايام هل انت "انسان حُر" ؟ وهل انت سيد لقراراتك؟ وهل يوجد تطابق بين آرائك ومواقفك؟ وهل تمارس مهنة اخترتها بنفسك؟ وهل تختار ملبسك؟ هل تختار مرشحك الافضل من وجهة نظرك ليمثلك في السلطة المحلية؟ وهل تشارك بالمناسبات التي تحب المشاركة بها؟ ام انك "عبد" لإملاءات المجتمع وجنونيات الزوجة ومزاج المدير وعتب العائلة ورضا الأولاد؟

ان اول ما يتبادر الى اذهاننا عندما نصادف كلمة "عبودية" هو صورة "لزنوج" أفارقة مقيدين بالسلاسل ويعملون بالسخرة من اجل السيد الذي يستطيع بيعهم واقتنائهم وضربهم وإهانتهم جسديا وكلاميا وحتى اغتصابهم. هذه هي العبودية التقليدية المعهودة لا تقلقني، ولا تقلقني ايضا العبودية الحديثة والتي ما زالت تنتشر بكثير من المناطق والدول في العالم العربي وغيرها المتمثلة بالتجارة بالنساء وبتشغيل الأولاد مقابل أجور زهيدة وبإجبار العمال على العمل ساعات طويلة بدون راحة وغيرها.

العبودية التقليدية والحديثة لا تقلقاني كثيرا لأنني اعتقد ان زوالهما من هذا الكون هو أمر حتمي وان لم يحصل اليوم فسيحصل غدا. العبودية التي تقض مضاجعي هي تلك التي نذهب اليها برجلينا ونختارها بأنفسنا دون ان نكون مجبرين على ذلك. هذا النوع من العبودية اوسع انتشارا وأشد تأصلا من سابقيه وهو آخذ بالازدياد بل بالتضاعف يوما بعد يوم. قد تجدون بعض الغرابة او الطرافة في المشاهد والحالات التي اعتبرها "عبودية" لأنها خارجة عن المألوف ولكن نظرة اعمق للأمور ستجعلكم تصلون الى نتيجة ان هذه الحالات هي نسخ اصلية من ظاهرة العبودية.

عندما نحب شخصا حتى النخاع ونكرس له كل وقتنا وتفكيرنا وطاقاتنا ونغدق عليه دون حساب ونعتبره مصدر سعادتنا وتعاستنا ونتعامل معه كانه هو المخلوق الوحيد في هذه الدنيا ، لو رضي عنا نصير سعداء وان زعل منا نصبح تعساء أليست هذه "عبودية" ؟ او على الأقل مصادرة للحرية؟ كيف نكون احرارا وقد سلّمنا روحنا له لا نستفيق الا على صورته ولا نخلد للنوم الا على خياله ؟! كذلك الامر عندما نكره شخصا حتى النخاع ونقضي جل حياتنا نعزو اليه سبب تعاستنا او سقوطنا بالامتحان او عدم قبولنا للوظيفة. ألا تجعلنا الكراهية العمياء عبيدا لها؟

ما رايكم بالشخص الذي يبيت عبدا لحلمه ويحرق في طريقه الأخضر واليابس غير آبهٍ بالألم والعناء والضرر الذي يسببه لنفسه وللآخرين؟ ما بالكم بأم تكرس حياتها كلها من اجل سعادة ابنها، وبزوجة تستنفد كل طاقاتها لترضي زوجها ؟ وابن يتعلم في الجامعة الموضوع الذي اختاره له ابوه؟ أليست تلك ظواهر تشهد على التخلي عن الحريات؟!

لا تنسوا العادات والتقاليد التي تكبل ايدينا وتقيد ارجلنا وتحد من حرياتنا، ولا تنسوا الادمان على العمل لساعات متأخرة الذي يقوم به بعضنا، ولا يغيب عن بالكم الادمان على التدخين والانترنيت والفيسبوك والهواتف الخليوية وحتى الهوايات التي نمارسها بشغف والتي نحرق بها جل وقتنا فكلها صور تعكس عبوديتنا مع اننا نظن اننا قادرون على الإقلاع عنها متى شئنا.

من العوامل الاخرى التي تنتقص هي الاخرى من حرياتنا وتحولنا الى اناس مسيرين مسلوبي الحرية والارادة نجد سعينا الدؤوب وراء المال (عبادة القرش) او الركض وراء الاعتراف او الشهرة وخوفنا من كلام الناس وتبنينا الاعمى للمعتقدات الدينية وتعصبنا لأحزاب وتيارات سياسية وخضوعنا لتعليمات الطبيب ومرشد الرياضة وهنالك ايضا حرصنا الشديد على عدم المساس بأحاسيس وبصحة الآخرين والذين من شدة خوفنا عليهم ننسى انفسنا ومن اجلهم نكتم اصواتنا ونغمض اعيننا ونودع حرياتنا.

ان عدم قدرتنا على نسيان الإساءة التي سببها لنا الآخرون هي نوع من انواع العبودية وايضا كتماننا للسر لفترة طويلة هو عبودية وإصرارنا وعنادنا على مواقفنا وتعلقنا بمشغلينا وزبائننا ومزودينا وبعاملينا هي شكل من اشكال العبودية فهنالك الكثير من الموظفين او الموظفات الذين باتوا عبيدا لمشغلهم الغليظ او البخيل او البصباص ظانين ان لا مصدر رزق لهم غيره.

ان القيود على اختلاف انواعها القائمة في مجتمعنا تكاد لا تحصى منها القانونية والمجتمعية والصحية والاقتصادية والنفسية ولو تبنيناها كلها او بعضها او حتى راعيناها ستضيق مساحة حرياتنا الى درجة سنضطر البحث عنها بالميكروسكوب. يقول المثل العربي "ان من خلق علق.." أي ان معظم المخلوقات في هذه الدنيا "عالقة" وأسيرة لاختياراتها ولمعتقداتها ولعاداتها ولهواياتها ولهواجسها ولأحلامها.

ان التخلص من العبودية مثله مثل التخلص من المرض، علينا الاعتراف بوجوده اولا ومن ثم تشخيصه وعلاجه. لو استمرينا بالاعتقاد بأننا احرار سنظل عبيدا طوال العمر. اذا اردت ان تتحرر من "عبوديتك" عليك الا تسرع بالإعلان انك ماثل امام بديل واحد بما يخص العمل والمسكن والتعامل مع الابناء والمجتمع وغيرها. هناك بدائل اخرى عليك البحث عنها وفحص ملاءمتها لك. عدد البدائل التي تقف قبالها هو المقياس الأصدق لمستوى الحرية التي تتمتع بها.

لو لم تكن السعادة الانسانية مربوطة عضويا بحرية العمل والمسكن والتنقل والتعبير والاختيار وغيرها لما قمت بطرح هذا الموضوع اصلا، فالحرية هي السعادة والسعادة هي الحرية..

استعمال المضامين بموجب بند 27 أ لقانون الحقوق الأدبية لسنة 2007، يرجى ارسال رسالة الى:
[email protected]