*سنواتٍ طوالًا قضاها المرحوم ياسين ياسين في الجبهة منتسبًا ومنضبطًا وملتزمًا بقراراتها. وقد كان في يوم من الأيام، عضوًا في المجلس المحلي بمسقط رأسه دير الأسد. لم يغب ولو مرة واحدة عن حضور جلسة من الجلسات. وحافظ بدقة على مواعيدها، لا يكرم بدقيقة ولا يبخل بأخرى.

كان واعيًا، ويناقش بهدوء، ومخلصًا ما وجد للإخلاص من سبيل.

ولما طلع فجر الجبهة ونادى المنادي وبشر بولادة المولود الجديد "العمل التطوعي" في المجتمع العربي في وطننا الذي ليس لنا سواه، ولا بديل له مهما اشتدت الأمور والأحوال، كان المرحوم بالمقدمة، حاملًا الشاقوف على كتفه اليمنى والبانسا والزلفة والميزان على كتفه اليسرى، ويعمل بتعريب وتوجيه الحجارة وبناء الجدران الطليانينة على أحسن وجه وأفضل حال. ومن المعلوم ان هذا اللون او النوع من البناء من خصوصياته، يبدع به ويحصل على علامة الامتياز إذا تقدم للامتحان.

جدران ضخمة وكثيرة أيام المرحوم أنجزت في دير الأسد ولا زالت بارزة للعيان: حول البيادر الشرقية ورأس الحاكورة ومنطقة الصباط وتحت العسالية والمغر وغيرها من الأماكن.

قال لي في تلك الأيام، وليتها تعود: مشروع التطوع، شد حبال التواصل بين الناس في قريتنا، وارتفع منسوب المحبة أضعاف ما كان ايام زمان
واصبح التعاون المجاني بين كل الفئات شعار الجميع، الأمل الذي تمنيناه ولم نكن نتوقع تحقيقه بهذه السرعة آنذاك.

واستمر في حديثه والتعب ينصب خيامه على وجهه المليء بالهموم: وبذلت فوق طاقتي الجهد والتعب في هذا المشروع الحيوي في مجتمعنا العربي. ولكني مع هذا كله وجدتُ المتعة في عملي وفي بلدي، لأني انتمي إليها ومنها واحبها على جانب عظيم من المحبة

*أحب بلده وأرضه*
نعم، أحب المرحوم بلده جدًا وبذل الجهد الكبير من اجلها لتظل عروس وكعبة الشاغور يقصد اليها سائر الزوار كما وصفها المرحوم الشاعر الشعبي الكبير أبو سعود الأسدي.

وبالإضافة لانتمائه لبلده أحب أرضه حبًا جمًا واهتم بها وكأنها قطعة من جسده. لكن الزمان ما طال على ذاك الحال المميز بالعمل المتواصل بارضه ذات التربة الحمراء التي تشبه الحناء، وبين أشجاره التي رباها كما ربى أبناءه وبناته.

ولم يمهله ذلك الزمن اللئيم، الفرص ليأكل خبزه من خيرات أرضه الطيبة، ومن عرق جبينه. فكانت الضربة التي قصمت ظهر الجمل (جمل المحامل فقيدنا) حين صودرت أرضه بمنطقة كرم حسن.. أكثر من أربعين دونمًا في سبعينات القرن الماضي.

وقد لا تكون مصادرة ارضه اقل أهمية من مصادرة قلبه، لان مصادرة قلبه سببت له الهم والغم والسكري والضغط ولوثت الامعاء وغيرها من أعضاء جسمه، عطلوه وذوبوا جسمه وذبحوا معنوياته من الوريد إلى الوريد. لانهم حولوا ملكيتها لشرذمة جاءت من بلاد بعيدة لا تمت لها بصلة. كيف جاءت ومن أين جاءت، وأبصرت طريقها لهذه الأرض؟ لست ادري.

والخليق بالذكر ان السلطة الحاكمة فاوضت المرحوم وعرضت عليه برنامج المبادلة المعيب أو دفع ثمن الأرض. لكن المرحوم أبى. فلوحت له بمبالغ مغرية، أو قطعة ارض على قاب قوسين من المسطح، لكنه اقفل باب المفاوضات بالجواب النهائي: لا مبادلة ولا بيع.
وتعكرت الأجواء بين الظالم والمظلوم، بين المالك الشرعي والحرامي وبين الذي تعود على البطش والضعيف الذي لا حول له ولا قوة. وَصُونت ارض ياسين المصادرة بالسياج المحكم مع بوابة وحارس. وقد حاول المرحوم لأول مرة الدخول لمسقط رأسه ومصدر رزقه لكن الحارس منعه من الدخول، حين فحص هويته وادرك انه من آل ياسين أصحاب الأرض الشرعيين. ووقف المرحوم خارج البوابة واجمًا وحائرًا وحزينًا ثم انبطح على الارض يُقلب صفحات صباه وشبابه، أيام زمان، حين كان يزرع القمح والشعير والبصل والثوم والبندورة والفلفل ويشوي البلوط " نُقلْ اجدادنا الفلاحين" حيث لم تكن هاتيك الأيام البذور، كالبندق والفستق الحلبي والفستق المقشر وغيرها، ولم تدخل بيوت قرانا. ويصنع الدبس من التين والرب من الخروب، ويربي النحل ويجني العسل الصافي. وكان يتلوى ويتألم على ما حل به وباخوته من السطو والسيطرة على أرضهم ظلمًا وعدوانًا، التي كانت من محصلة السياسة الإسرائيلية التي تتجاهل حقوقنا سواء كانت السياسية أو الاقتصادية أو الاجتماعية.
ولن أنسى الجملة التي كان يرددها عن المرحوم محمد فاعور مختار السواعد رحمه الله "حكم ضل ما ظل" ولم تكن المرة الأولى والأخيرة التي وقفها عند البوابة. فقد جرب مرارًا ولا حياة لمن تنادي، وكان من الصابرين الصامدين والثابتين في مقاومة هذه السياسة الجارحة.
*صلب نظيف السيرة*

كان المرحوم وطنيًا وجبهويًا عظمه صلب ونظيف السيرة وضد المبادلة مع السلطة أو البيع على طول...

صحيح ان المرحوم لم يتعلم في المدارس الثانوية والجامعية. لكنها شهادة حق لا زور فيها ترافقه في حياته وموته في بيته حيث ترعرع وفي قبره الذي دفن فيه، يقرها ويعترف بها أهل بلده وجميع معارفه.

هذه الشهادة تشرفه وهو يقود سيارته على الشارع، وتشرفه في حسن معاملته مع جيرانه وأبناء جِلدته، وتشرفه بتربية أبنائه وبناته أحسن التربية، وتشرفه حلاوة لسانه وصدق أمانته وطيبة قلبه.

عمل في مصنع شايش إخوان بولس فترة طويلة، كان عاملًا ومعلمًا في نفس الوقت، وكان مسؤولًا بكل ما في كلمة المسؤولية من معنى وله الرأي الاخير والافضل في الحوار مع مهندسي المصنع حول امور عدة تتعلق بالعمل والإنتاج.

ولا بأس ان نذكر عسى تنفع الذكرى ان المرحوم تواجد في يوم من الأيام في العاصمة اليونانية لأغراض تتعلق بالمصنع وصدفة "ورب صدفة خير من موعد منتظر" التقى مع احد الخريجين الديراويين في موضوع المحاماة. بعد التحية والسلام سأل الطالب المرحوم ياسين متى تعود للوطن يا عم؟ فكان الجواب: اليوم ليلًا ان شاء الله. ثم عاد وسأله: هل لديك متسع من الوقت لحضور حفل تخريجي؟ وتسلم الشهادة نيابة عن ابي؟ - نعم لا تحمل هم.

وعليه فقد حضر حفل التخريج وتسلم وسلم الشهادة لصاحبها. وقبل عودته للوطن تناول ألف دولار، وهذا ما تبقى معه، وقال: يا أستاذ معي فقط الف دولار انا راجع لبلدي خذ هذا المبلغ ودبر امورك ولما ترجع للوطن بفرجها الله. ولما رجع أستاذنا ولا زال حيًا ويقر ويعترف بهذا العمل الجميل، حمل والد الأستاذ المبلغ وبرفقة ولده المتفوق، لإرجاعه ومع جزيل الشكر التقدير، لكن الفقيد اقسم بالله، الا يتسلمه حتى ينجح بامتحان الدولة ويبدأ بالعمل في هذا المجال. وهكذا كان.

هذه سيرة انسان عظيم عاش من العمر سبعة عقود ونصف العقد لم يكرهه احد ولم يعرف اللف والدوران. صحيح انه مات ودفن جثمانه الطاهر في المقبرة الجديدة على بعد عشرات الأمتار من أرضه الطيبة، لكن روحه التي لا تموت كما يقول بعض المتدينين تظل تحوم تارة فوق قبره واخرى فوق وطنه حيث كان يتواجد ويعمل لدنياه وآخرته. فلا اسلاك تمنعها من الدخول ولا قوة بشرية قد تكون حائلًا بين هذه الروح والكرم الذي تربطه به صلة ما مثلها صلات.

وصحيح انه مات، لكنه حي في وجدان اهل بيته واقربائه واصدقائه ومعارفه. ولن نبكيه لانه حي بوجدان البقاء لا محالة: له الرحمة ومع الخالدين.

(دير الأسد)

استعمال المضامين بموجب بند 27 أ لقانون الحقوق الأدبية لسنة 2007، يرجى ارسال رسالة الى:
[email protected]