وأنت تسير في أحد أكبر شوارع مدينة غزة، تستوقفك لوحة جدارية على حائط برج بارتفاع 20 متراً، لطفلة بدت ملامحها حزينة، وهي مُحاصرة خلف قضبان حديدية.

راسمو الجدارية، وهم فنانون شبان أربعة، تعمّدوا اختيار اللون الأسود لرسم الطفلة؛ لأن الأسود وحده يليق بواقع الطفولة في غزة، ولا قدسية لبقية الألوان فيها.

الجدارية التي يؤكد القائمون عليها أنها الكبرى في فلسطين، لفتت أنظار المارة وعدسات المصورين، وتناقلها بكثافة ناشطو مواقع التواصل الاجتماعي، الذين أبدوا إعجابهم بالفكرة وبمهارات الفنانين الشباب في توظيف الفن ليكون رسالة إنسانية.

"بلال خالد" فنان جرافيتي من سكان مدينة خانيونس جنوبي قطاع غزة، وصاحب فكرة الجدارية، يقول: إنها تحمل عنوان "طفولة محاصرة"، وإنها رُسمت ضمن مشروع ينظمه الاتحاد الأوروبي بعنوان "لما الحيطان تحكي"، بالشراكة مع شبكة الاتحاد الأوروبي للمراكز الثقافية EUNIC، بمشاركة فنانين فلسطينيين من الضفة الغربية وقطاع غزة، إضافة إلى فنانين أجانب.

ويؤكد في حديثه لـ "الخليج أونلاين" أن جدارية "طفولة محاصرة" تعني له الكثير، من ناحية أنها تحدٍّ للنفس أولاً؛ لأن يثبت هو وفريقه بأن قطاع غزة يحتضن طاقات شبابية مبدعة، وفنانين لا يقلون شأناً عن باقي فناني العالم، على حد تعبيره.

ويعتبر الجدارية "قيمة فنية، ورسالة تضامنية مع أطفال فلسطين، وخصوصاً أطفال قطاع غزة، الذين يعانون آلام الحصار والحرمان".

ويشير إلى أنها تعكس الحصار المفروض على غزة، وعلى أطفالها "الذين يحلمون بغدٍ أفضل مثل بقية أطفال العالم".

تطبيق لفن الجداريات

ويوضح الفنان خالد أن الجدارية هي تطبيق لفن الجداريات، الذي قال إنه يمارسه منذ أربع سنوات، رسم خلالها "الكثير" من الرسومات داخل قطاع غزة.

ويشرح أن "الأراضي الفلسطينية المحتلة عرفت فن الجداريات منذ بدايات الانتفاضة الأولى"، مضيفاً: "كان الفلسطينيون الغاضبون يكتبون الشعارات الثورية، ونعي الشهداء، ورسائل التهديد والوعيد للاحتلال الإسرائيلي، قبل أن يتطور هذا الفن إلى اللوحات".

ويتابع خالد: "فن الجداريات هو معرض مجاني، حيث إن اللوحات تعرض على جدران الشوارع، وهو يحمل رسائل اجتماعية وسياسية وفنية".

ويعتقد رفيقه في العمل، الفنان ماجد مقداد، أحد الفنانين الأربعة المشاركين في رسم الجدارية، أن اللوحة تعكس حجم الظلم والقهر والواقع المتردي الذي يعيشه أطفال فلسطين، وقطاع غزة تحديداً.

لكنه في الوقت نفسه، أكد أن غزة، وعلى الرغم من مأساتها، تملك قدرات شبابية إبداعية متفوقة وقادرة على المنافسة والوصول إلى العالمية.

لما الحيطان تحكي

وكان الاتحاد الأوروبي قد أطلق مؤخراً المرحلة الثانية من مشروع "لما الحيطان تحكي"، بعد نجاح المرحلة الأولى، التي كانت عبارة عن ورشة عمل فنية احتضنها موقع قصر هشام في أريحا، بمشاركة عدد من الفنانين الفلسطينيين والأوروبيين، وكانت نتيجتها إنجاز عدد من الأعمال والمدخلات الفنية التي شكلت إضافة جمالية في القصر، بالإضافة إلى أنها وفرت فرصة ثمينة للعمل المشترك بين فنانين محترفين من أوروبا وعدد من الفنانين الفلسطينيين.

وتضم المرحلة الثانية، ورشة لفنانين محترفين من دول الاتحاد الأوروبي، وفنانين من فلسطين مختصين في فن الجداريات، سيقومون بتنفيذ أعمالهم في أكثر من موقع في الضفة الغربية والقدس وقطاع غزة، وذلك بالتعاون مع البلديات المحلية.

وحول تفاصيل المشروع، قال شادي عثمان، مسؤول الإعلام في مكتب الاتحاد الأوروبي بالقدس، إنه يسعى إلى خلق تواصل وتفاعل بين الفنانين الأوروبيين والفلسطينيين، من خلال التركيز على فعاليات وأنشطة مشتركة يتم تنفيذها في فلسطين.

وأكد أن اختيار فن الرسم على الجدران كان نتيجة الاهتمام الكبير به بين الفنانين الفلسطينيين، ولكونه وسيلة مميزة لإيصال رسائل ثقافية وإنسانية.

وذكر عثمان بأن فن الجداريات يحتل مكانة خاصة في فلسطين للتعبير عما يجول في ذهن الفلسطيني منذ مرحلة مبكرة، وأنه تطور ليكون أداة إيصال رسائل تهم الناس، "وما انتشار هذا الفن عالمياً إلا دليل على المكانة الرفيعة التي يحتلها في وجدان وعقول الشعوب".

ويطمح القائمون على المشروع إلى أن تشكل هذه الورشة إضافة نوعية في مجال الفنون والثقافة في فلسطين، وأن تتركز الأعمال حول قيم العدالة والتسامح والخير والتعاون، إلى جانب القيم الجمالية التي سيعبر عنها الفنانون وهم يقومون بتجميل الجدران وطلائها ليس فقط بالألوان والرسوم، وإنما بالأفكار والرموز والمعاني التي يحتاجها الإنسان، كفعل حضاري وموقف من قضاياه، آماله وأحزانه وفرحه بالحياة.

استعمال المضامين بموجب بند 27 أ لقانون الحقوق الأدبية لسنة 2007، يرجى ارسال رسالة الى:
[email protected]