بروفيسور حسني زعبي، من سكان مدينة الناصرة، انهى دراسته الثانوية في المدرسة الاكليريكية (المطران) في المدينة والتحق بالجامعة العبرية في القدس لاستكمال دراسته الجامعية في تدقيق الحسابات والاقتصاد. ومنذ البداية، تميز زعبي في دراسة الاقتصاد حيث عُيّن اثناء دراسته للقب الاول كمساعد محاضر في قسم الاقتصاد. وفي نفس السنة، تمّ اختياره ضمن مجموعة محدودة من الطلّاب المتميّزين لمباشرة دراسة الماجستير قبل انهاء اللقب الأوّل.

أنهى بـ زعبي دراسته للّقب الثاني بامتياز وأكمل الدراسة للّقب الثالث في نفس الجامعة، أثناء تحضيره لرسالة الدكتوراة، عمل محاضرًا في قسم الاقتصاد في الجامعة العبرية في القدس وحصل على شهادة محاضر متميز من قبل الجامعة.

حصل زعبي على الدكتوراه في الاقتصاد من الجامعة العبرية عام 2005 والتحق بالجامعة الاوروبية في فلورنسا، ايطاليا لدراسات ما بعد الدكتوراه لمدة عامين.

مع عودته الى البلاد، عُيّن كأستاذ مساعد في قسم الاقتصاد في جامعة تل ابيب، وعمل هناك لمدة 6 اعوام، وفي عام 2013 انتقل للعمل في جامعة The New Economic School في موسكو، حيث حصل مؤخّرا على درجة الأستاذيّة (Associate Professor).

في موقع "بكرا" كان لنا اللقاء التالي معه بعد حصوله على درجة الأستاذيّة حيث سلط الضوء على مسيرته التعليمية وعلى عددٍ من القضايا الإقتصادية التي تهم المجتمع العربي. 

- ب. حسني زعبي، نبارك لك حصولك على درجة الأستاذيّة ونودّ بهذا أن نلقي الضوء على مسيرتك الأكاديميّة علّها تكون حافزا لطلابنا للتّميّز والمثابرة. عرّفنا بداية على مجال تخصّصك؟


- مجال تخصصي هو النّمو الاقتصادي والتّنمية. ويدور هذا المجال حول سؤال مركزي: "لماذا هنالك فقراء واغنياء؟ وما هي العوامل التي أدّت الى نموّ وتطوّر بعض الدّول دون غيرها، وما هي أسباب الفقر وانعدام التّنمية، وما هي السّياسات الواجب اتّباعها للدّفع بعمليّة التنمية.

من المهم توضيح ما هو الاقتصاد بشكل عام اذ يظنّ البعض انّ الاقتصاد يقتصر فقط على سوق المال او سوق العمل وهذا خطأ شائع. اذ تشترك العلوم الاجتماعية وبضمنها العلوم الاقتصادية بكونها تبحث في سلوك الافراد والمجموعات. فهم هذه السلوكيات هو هدف قائم بحد ذاته، علاوة على كونه وسيلة للتّقدم حيث ان الانسانيّة تتطور بالعلم والفهم. وأما من ناحية المنهجية العلميّة، فقد اشتركت العلوم الاجتماعيّة التطبيقيّة باعتماد التجارب وتحليل المعطيات كآلية لفهم هذه السلوكيّات. وقد انفردت العلوم الاقتصادية على مدار سنوات عديدة بمنهجيّة علميّة نظريّة تعتمد ترجمة الواقع لنموذج رياضيّ يُشتقّ من خلاله سلوك الفرد او المجموعة ومن ثمّ يتم اسقاطه على الواقع لفهمه. ونلحظ مؤخّرا ان بعض اقسام العلوم الاجتماعية باتت تتبنى هذه المنهجية البحثيّة.

يتمّ بحسب هذه المنهجيّة تعريف هدف ما يسعى اليه الفرد ضمن امكانيات محدودة. هذا الهدف قد يكون السعادة او الرّضا. فاذا ترجمنا هذا الهدف الى معادلة رياضيّة ( مع انه قد يبدو للبعض غريبا) ، يمكن عندها ان نخرج باستنتاجات نفهم من خلالها السلوكيات الفرديّة والجمعية التي نراها في حياتنا، ونقصد بالسّلوكيات الفرديّة هنا قرارات مثل قرار اختيار المهنة، من نصادق، مع من نتعاون، من نعادي، اختيار شريك الحياة، اختيار عدد الاولاد، ارسالهم للمدارس للتعلّم ام ارسالهم للعمل منذ الصغر، بماذا نستثمر مواردنا (اموالنا) وعلام ننفقها وما الى ذلك. ونقصد بالسلوكيّات الجمعيّة، تلك التّفاعلات بين الافراد التّي تؤثّر على الحيّز العام مثل مجموعة القواعد والقوانين، العادات والتّقاليد، والمؤسّسات التي تختار مجموعة ما ان تعيش بحسبها.

هذه المنهجيّة كانت على قدر غرابتها ساحرة بنظري، لاستطاعة علم الرياضيات بمعادلاته الجافة والمبهمة ان يفسّر سلوكيات الانسان والمجتمعات على تركيباتها وتعقيداتها.

ومن المهم التشديد على ان العلوم الاقتصاديّة هي ليست علوم قيميّة تميز بين السلوك الخيّر والسلوك السيئ وانّما هي علوم إيجابية (Positive) "محايدة قيميّا"، بمعنى انها تربط ما بين الاسباب والنتائج وتحرر البحث العلمي من الاحكام القيميّة المسبقة. فهل العائلة التي تقرر إنجاب عدد كبير من الاولاد وترسلهم للعمل منذ الصغر او ترسل عددا من اولادها للعمل لصالح اعالة القسم الاخر اسوأ من العائلة التي تقرر إنجاب ولد واحد وتستثمر في تعليمه وتوفر له كل وسائل الرفاهية؟ نحن لا يمكننا كاقتصاديين اصدار احكام قيميّة على هذه القرارات. اذ يا ترى هل الاسماك الّتي تتكاثر بالمئات ليموت قسمها فتبقى، أسوأ من الفيلة التي تحتاج الانثى منها الى 20 شهرا لتحمل دغفلا واحدا فقط ليبقى؟ كما وأننا لسنا بعيدين عن نموذج يتم فيه التّخلّي عن تعليم البكر لصالح تعليم باقي الاخوة. فهذا جزء من تاريخنا وتطوّرنا كجنس بشري وكمجتمعات.

الا اننا كمجتمعات نستطيع ان نحدّد القيم التي نود ان نعيش بحسبها ، ولهذا نستعين بفهمنا الاقتصادي لوضع سياسات تحفّز الاهل على الاستثمار في تعليم اولادهم اذا ما راينا قيمة او صالحا عامّا في ذلك. فكون الاقتصاد علما محايدا قيميّا، لا يمنع من وجود القيم كجزء من هدف عام والذي من خلال السعي لتحقيقه تشتق السلوكيّات.

قد تكون قلّة من الناس فكّرت مثلا ان قرار إنجاب الاطفال او القرار بعدم الانجاب هو قرار اقتصادي. اذ ان مقوّمات القرار الاقتصادي هو وجود اسعار للمنتجات المختلفة وميزانية محدّدة لشرائها. فهل للأطفال سعر؟ وهل هناك ميزانية تخصصها العائلة للإنجاب (شراء هذا المنتج)؟

لكي نفحص هذه المسالة علينا فحص واقع تتغيّر فيه نسبة الخصوبة (عدد الاولاد) كرد فعل على تغيّر تكلفة انجاب وتربية الاطفال. فاذا لم يتغيّر السلوك بتغيّر التكلفة، يكون الاستنتاج عندها انّ قرار إنجاب الاطفال او المزيد منهم خال من أي اعتبار اقتصاديّ.

امكانية متّبعة في كثير من العلوم هي اجراء تجربة مخبريّة. الّا انّ الامر مستحيل في هذا السياق. لذا فكر الاقتصاديون بما يسمّى "تجربة طبيعيّة" التي تحاكي التجربة المخبريّة ولكنّها من فرز الطّبيعة. في بحث نُشر عام 2013 تمّ فيه فحص تأثير القرار الحكومي في حزيران 2003 لوزير المالية آنذاك بنيامين نتنياهو بخفض مخصصات الاولاد بشكل حادّ على نسبة الخصوبة في اسرائيل (هذه المخصّصات مشروطة فقط بوجود الاولاد وبالتّالي، وجودها يساهم في تغطية تكلفة تربية الاولاد). وقد قام الباحثون بفحص نسبة الخصوبة قبل وبعد القرار الحكومي، ليتوصّلوا الى نتيجة ان لهذا القرار تأثيرا واضحا في خفض نسبة الخصوبة في اسرائيل وخاصة لدى المسلمين. وعليه، فقرار انجاب الاطفال هو قرار متأثر باعتبارات اقتصاديّة. ومن جهة اخرى هذا مثال جيّد على ان فهمنا للعلاقات الاقتصادية يساهم في بناء سياسات تؤثّر على الواقع.

- ما الذي ساعدك في تحقيق انجازاتك الاكاديميّة؟

على الصعيد المهني من الممكن القول ان دراستي في قسم الاقتصاد في الجامعة العبريّة، اتاحت لي فرصة الاختلاط بمحاضرين وزملاء اكفّاء وبارزين، استطعت من خلال تفاعلي معهم تطوير طرق تفكير واجندة علمية خاصة بي فضلا عن انكشافي للصدارة العلميّة.

امّا على المستوى الفردي، فأقول ان استثمار والديّ في تعليمي كان عاملا اساسيّا في مسيرتي. فمن الواضح لي ان هناك علاقة قويّة جدّا بين ما وصلت اليه اليوم وبين تذويتي للأهمية التي اولاها والديّ للعلم والتعليم، واظهارهم لي انّ في العلم قيمة تتعدّى مردوده المادي.

بالإضافة الى ذلك، فان هذه المسيرة استلزمت اتخاذ قرارات غير اعتياديّة واحيانا بدت للبعض غير عقلانيّة، ولكن الدّعم والتشجيع الغير محدود الذي تلقيته من زوجتي في اتخاذ هذه القرارات ووضوح رؤيتها في أمور تتعلق بمسيرتي الاكاديميّة، كانت نقطة فاصلة. كما ولا انسى اولادي ودعمهم المباشر في رؤيتي لهم يمارسون حياة عاديّة في بيئة غير اعتياديّة مما اتاح لي المجال للاستمرار. هذا الدّعم والتّعاون العائليّ كان لي بمثابة شبكة امان، اتاح لي فرصة اتخاذ خطوات جريئة افرزت مسيرة، قد يراها البعض غير اعتياديّة. وتخيّلي لو ان شبكة الامان هذه كانت مجتمعا باسره، فكم من النّجاحات يستطيع ان يفرز.

وللمقاربة اقول ان ما نعرّفه اليوم كقدرة الانسان على التّعاون، كان الكفيل على مدى العصور بتقدّمه وتطوّره وارتقاءه.

واذكر انّ للطلاب اهمية في نجاح الباحث الاكاديميّ، وهذا ما يخفى على الطلاب انفسهم في بعض الاحيان. وقد كانت لي فرصة ذهبيّة بالانضمام الى جامعة The New Economic School في موسكو، والتي يعتبر طلّاب الاقتصاد فيها من الافضل والاكثر تميّزا على مستوى العالم في مرحلة دراسة الماجستير. هذا المستوى غير الاعتياديّ للطّلّاب رسم امامي تحدّيا وساهم في انتاجي البحثي. بدون كل هذه العوامل مجتمعة، لم تكن مسيرتي لتكون على ما هي عليه.

من المهم الاشارة الى ان مسيرتي المهنيّة لم تكن سهلة، رغم كل العوامل المساعدة التي ذكرتها، ولكن المثابرة ووضوح الهدف هما عاملان اساسيان في تطور كل باحث اكاديمي.

- ما هي التحديات التي واجهتها في حياتك الاكاديميّة؟

التحدّي الاكبر في العالم الاكاديميّ هو النجاح بنشر افكار ذات قيمة علميّة. هذه الصعوبة يشعرها اي باحث اينما كان في العالم. ادرّس طلابي ان العلوم الاقتصاديّة وخاصة التطبيقيّة منها كسائر العلوم الاجتماعية الاخرى، لا يتم فيها البرهان بخلاف العلوم الطبيعيّة كالفيزياء والرياضيات وانما يحاول فيها الباحث الاقناع وبالكاد ينجح. وهنا ندخل في اشكاليّة اجندات غير علميّة تدخل لتؤثر على الغاية الوحيدة من العلم الا وهي معرفة الحقيقة. الا انني على يقين ان صعوبة الانتاج الفكري والمنافسة الشديدة، ورغبة الانسان بالتّميّز، تسيّر العلم بالضرورة نحو ايجاد الحقيقة. ازاء هذا التحدي، على كل باحث يريد ان يتطوّر ان يتفرّغ للبحث والكتابة وهذا بعينه منوط بتنازلات كبيرة.

- ما هي وظيفة المحاضر في الجامعة؟

هذا سؤال جيّد. ودعينا نميّز بين اقسام الاقتصاد في الجامعات والكليّات بحسب النّموذج الاسرائيليّ. فهدف الكلّيّة هو التعليم، ولا يولون الاهتمام الكبير للإنتاج البحثي للمحاضر وعليه ترتكز وظيفة المحاضر هناك على تعليم عدد كبير من السّاعات اسبوعيّا. امّا في الجامعة فتدريج الجامعة واقسامها يرتكز على الانتاج البحثي للمحاضرين. وبالتّالي أوجدت الجامعات توازنا بين التّعليم من جهة والبحث من جهة اخرى.

فعلى سبيل المثال، وظيفتي في جامعة The New Economic School معرّفة بـ 84 ساعة تعليم سنويّا، وبالنّتيجة كل ما يتبقى من وقت اخصّصه للدّراسة والبحث.

- حدّثنا عن هذه الجامعة وما يميزها

جامعة The New Economic School هي جامعة حديثة نسبيّا فعمرها لا يتعدّى 25 عاما. وتعتبر اقامة هذه الجامعة تجربة فريدة اذ استطاعت وخلال فترة قصيرة ان تتبوّأ مرتبة عالية في تدريج اقسام الاقتصاد في العالم وهي بلا شك الافضل في اوروبا الشّرقيّة ومن الافضل في اوروبا عموما. وقد جاءت فكرة اقامة هذه الجامعة عقب تفكك الاتّحاد السوفيتي عام 1991، حيث بدأ الاقتصاد بالتّحوّل من اقتصاد مبرمج مركزيّ الى اقتصاد سوق. وجاءت وظيفة هذه الجامعة لتغذّي وتوجّه هذا التّحوّل ليتمّ بشكل سليم. وبما انه كان للجامعة هنا دور وظيفيّ واضح المعالم فمن الطّبيعيّ انها ستتغذّى من هذا التّطوّر نفسه تلقائيّا. ولكن تجدر الاشارة الى انّ للنّجاح النّسبيّ لهذه الجامعة اسباب اخرى، فكون روسيا دولة رائدة في كثير من العلوم وخاصّة الرّياضيّات، شكّل عاملا رئيسيّا في نجاح الجامعة التي نجحت بجذب وانتقاء طلّاب متميّزين والّذين نجحوا بالاندماج والوصول الى اهمّ اقسام الاقتصاد في العالم كطلّاب ومن بعدها كمحاضرين، وهم يحاولون الان دعم الجامعة ومسيرتها كلٌّ من موقعه. وتجربة The New Economic School هي مثال يحتذى به في عالمنا العربي اذ انّنا بحاجة ماسّة الى العديد من المؤسّسات الاكاديميّة التي تعنى بتدريس وتطوير اقتصادات شعوبها.

- ما هي نصائحك للطلاب الجامعيّين؟

انا لا أؤمن بأهمية النّصائح ما لم يذوّت الطالب اهمية النّجاح والتّميز العلمي. فالبيئة والظروف قد شوّهت قيمة ومردود العلم لدى البعض. واجبنا كأهل وكمجتمع خلق بيئة داعمة ومحفزة على الاجتهاد ومشجعة على التميّز. لا ادّعي ان هذا امر سهل في ظل تأثّرنا نحن كأهل وكمجتمع بنفس البيئة والظروف. ومع هذا اقول للطّلّاب:

1. أن لا يتردّدوا في طلب المساعدة. فعلى كل طالب ان يرى اهمّيّة طلب الارشاد والشرح والنّصيحة من كل محاضر، لان في ذلك اختصار لجهود قصوى للطالب وفي بعض الاحيان فائضة عن الحاجة.

2. إدراك اهمّيّة التّميّز خلال الدّراسة لأنه يفتح امام الخرّيج باباً لحياة أفضل بشكل عام، وفي سوق العمل بشكل خاص. صحيح ان النّتيجة المباشرة التي نتوخّاها من التعليم هي الحصول على عمل مناسب، الا ان العمل هو وسيلة ليس اكثر. فإيجاد شريك حياة مناسب، بناء اسرة تتجاوب مع متطلّبات الفرد، تامين الذّات من تغييرات غير متوقّعة في البيئة المحيطة وغيرها، كلها وسائل تصب في مصلحة عليا هي البقاء. ولو اقتصر التعليم على هدف العمل، لما رأينا افراد يلجؤون للعلم في مجتمعات تتفوق في البطالة.

3. اهمية اختيار موضوع التعليم المناسب للطالب وعدم التّردّد في تغيير موضوع التعليم فالثّمن قد يكون زهيدا ازاء حياة مستقبلية مُرضية.

4. اهمية معرفة مستوى المحاضرين واهمية اختيار المواد التّعليميّة قبل اعداد البرنامج الدّراسيّ السّنويّ. لان دراسة الطّالب لدى محاضر جيّد وفي مادّة مهمّة هي الكفيل بتفاعل الطالب مع المادة وبالتّالي التميّز في دراستها.

5. التعاون بين الطلاب من مراحل التعليم المختلفة. ليت الطلاب يستطيعون التعاون لإيجاد اليّات لتناقل تجاربهم فيما بينهم للاستفادة منها.

6. الايمان بان التميّز ليس امرا مستحيلا، ولكنّه مشروط بالمثابرة والاصرار والتّحدّي والجدّيّة.

7. اهميّة رسم اهداف بعيدة المدى وقصيرة المدى والسير بحسبها قدر الامكان. هذا الامر يتمّ بالاستعانة بالمهنيين كالمحاضرين والاختصاصيين في الارشاد والتوجيه الدراسي.

- ما هي اليات خروج المجتمعات من الفقر؟

إذا نظرنا الى فترة 2000 سنة مضت، نرى ان جميع النّاس في جميع المناطق الجغرافيّة كانوا يتمتّعون بنفس مستوى الحياة بدون فروقات تذكر إذا ما قيست بمعايير اليوم. مع الثّورة الصّناعيّة، بدأت الفروقات بين المجتمعات تتّسع، لتصل احيانا الى 30 ضعفا بين الدول الأغنى والأفقر.

هذا المعطى كان المحفّز لبحث اسباب النّمو الاقتصادي. وما خلصت اليه الادبيّات الاقتصاديّة كان انّ راس المال المادّيّ وراس المال البشريّ (العلم والصّحة) والتّكنولوجيا هي العوامل التي بإمكانها ان تفسّر الفروقات الاقتصاديّة بين الدّول. قد يبدو الامر سهلا اذا ما قلنا: اذا كانت الثّروة المادّيّة مفتاح النّجاح فلندعم الدّول الفقيرة بمعونات تخرجها من الفقر، وان كانت هناك اهمية للعلم والصّحة فلنبني المدارس والمستشفيات، وان كانت التكنولوجيا فهي موجودة عند بعض الدول وبالإمكان نقلها من دولة لأخرى. الّا ان محاولات كثيرة لدعم دول فقيرة، في افريقيا مثلا، اظهرت ان الامر ليس بهذه السّهولة. اذ ان المهم هو بناء بيئة تستطيع ان تستوعب ثروة تعيد انتاج نفسها، وعلم يساهم في انتاج تكنولوجيا حديثة تساهم هي ذاتها في رفع مستوى الحياة. اي اننا بحاجة الى مؤسّسات داعمة لعملية التّنمية.

فهناك علاقة واضحة بين النمو الاقتصادي من جهة وبناء المؤسّسات الدّاعمة للتّنمية من جهة أخرى. ومن اهم المؤسّسات هي سلطة القانون ومحدوديّة سلطة الافراد والتي تصب جميعها في الحفاظ على حقوق الانسان.

- سياسة الافقار التي تنتهجها اسرائيل، اي الحلول ممكن ان تُطرح مجتمعيّا لتجاوزها؟ وهل المجتمع العربي قادر على النهوض اقتصاديّا؟

اذا نظرنا الى العديد من الدّول النّامية والتي تمتلك شعوبها سيادتها على نفسها، نرى صعوبة قصوى في دفع عملية التّنمية، فما بالك لو تحدثنا عن مجتمع يفتقر لأي سيادة على مقدّراته وقوانينه وقواعد حياته اليوميّة. فنحن كمجتمع لا نمتلك القدرة على سن القوانين ولا نملك ميزانيّات نخصصها ونوزعها حسبما نرتئي. وحتى إذا انتهجنا سلوكا معيّنا يدعم قضيّتنا، يجب علينا الاخذ بعين الاعتبار ردود فعل الطرف الاخر. فنحن نعيش صراعا مع السلطة الحاكمة. إضافة الى صراعات على مستويات متباينة كصراعات بين مجموعات قوميّة/اجتماعيّة/جندرية مختلفة. هذه الصّراعات تفرز قوى سوق تؤثر علينا كأفراد وكمجموعة.

في هذا السّياق لخّص كارل ماركس رؤيته بان تاريخ المجتمع هو تاريخ صراعات بين الطبقات الاجتماعيّة. فبحسب ماركس، نموّ طبقة من اصحاب رؤوس الاموال وانخفاض مستمر بأرباحهم ستعزز استغلالهم للطبقة العاملة وسيؤدّي حتما الى صدام بينهم.

متّسقا مع هذا التنبّؤ، كتب العديد من الباحثين ان اعادة توزيع الموارد من نخبة الاغنياء الى الجماهير، هدفت الى تجنّب الثّورات وزعزعة الاستقرار السّياسيّ، وبالتّالي الى دعم التّنمية التي خدمت الأغنياء بالذات.

بيد انّ اخرين نظّروا انّ صراع المصالح بين النّخبة الحاكمة واصحاب رؤوس الاموال والاقطاعيين كان هو الدّافع لإقامة نظام تعليم عام والذي جاء نتيجة لتصاعد اهميّة راس المال البشريّ في عملية الانتاج. فلكي يحافظ اصحاب رؤوس الاموال على ارباحهم قاموا بدعم نظام الّتعليم العام الذي ساهم في بناء طبقة وسطى واذاب الفروقات الطبقيّة. فبخلاف نظرية الصّراع بين أصحاب رؤوس الأموال والعمّال، هذه النّظريّة تقوم على أساس التّعاون بينهما. هذا التّعاون جاء نتيجة لتكاملية في الإنتاج ما بين راس المال الماديّ وراس المال البشريّ. فبحسب هذه التّكامليّة، زيادة في رأس المال البشريّ تزيد من أرباح أصحاب رؤوس المال المادّي. فيمكن القول، إذا ما ارتأى القارئ، ان أصحاب رؤوس الأموال أرادوا "استغلال" عمال ذوي كفاءات إنتاجية أفضل. وبهذا، شكّل التعليم الذي غذى مصالح أصحاب رأس المال المادي المخرج لطبقة العمال والمجتمع من المبنى الطبقي.

وبالنتيجة تحوّل الصّراع هنا من صراع بين طبقة أصحاب رؤوس الأموال والعمّال، الى صراع بين أصحاب رؤوس الأموال الذي يساهم تعليم الطّبقة العاملة في ازدياد ارباحهم وبين اقطاعيين وطبقة حاكمة. فأذن، تاريخ المجتمع هو ليس بالضرورة صراعا بين طبقة عاملة وأصحاب رأس المال المادّي، وانما يأخذ شكل الصراع فيه صورا مختلفة.

في بحث حديث لي بدأت العمل عليه قبل ثلاث سنوات وجدت وزملائي ان سنّ قانون الملكيّة للمتزوّجات Married Women Property Act في جميع الدّول التي تبنّت القانون الانجليزي (Common Law) والذي بموجبه اُعطيت النّساء المتزوجات مساواة كاملة في حق الملكية لم تمتلكها سابقا، كان نتيجة اعباء اقتصاديّة على الاقتصاد الكلّي سبّبها ذلك التمييز ضدّهنّ. حيث شوّه هذا التّمييز الاستثمارات في سوق المال مما ادى الى عدم نجاعة في الانتاج ادّت في نهاية المطاف الى خسارة اقتصاديّة على مستوى الدّولة طالت الرجال على وجه الخصوص كونهم المستفيد الاكبر من الانتاج.

ومن هنا اعود لسؤالك لأقول، كيف يمكننا كأقليّة تنسيق سلوكياتنا بحيث نعزّز سلوكا جمعيّا يحوّل التّمييز ضدّنا الى عبء اقتصاديّ على الاقتصاد الكلّي للدّولة فيطال الأغلبية التي تنتخب متخذ القرار؟

وتحضرني هنا مشاهدة تكررت في كلّ مرّة دخلت فيها صيدليّات مختلفة في تل ابيب. كان كل الصّيادلة الذين يعملون فيها من العرب فقط. تكريس التمييز ضدهم سيكون له ثمن اقتصادي، حيث سيرفع التمييز سعر الدّواء وسيقلل من الكميّة المستهلكة منه وهذا حتما سيؤثر على رفاهية المستهلكين والذين هم عربا ويهودا في هذه الحالة! وتخيّلي لو اننا نشكل نسبة لا يستهان بها من الاطبّاء والعلماء ... الخ، عندها لن تستطيع الدّولة تحمّل تأثير ثمن التمييز ضدّنا على اقتصادها.

فنصيحتي هنا ان نكرّس عمل كل مؤسّساتنا واحزابنا في تنسيق سلوكيّاتنا كأفراد بحيث ننتج سلوكا جمعيّا يدفع بتعليم اولادنا وعلمنا قُدما. اقول هذا ليس فقط على المستوى المحلّي بل على مستوى الوطن العربيّ. فبالعلم تبنى الشّعوب وبهدمه تُهدم.
 

استعمال المضامين بموجب بند 27 أ لقانون الحقوق الأدبية لسنة 2007، يرجى ارسال رسالة الى:
[email protected]