كنا الأسبوع الماضي على موعد مع قرية حرفيش الجليلية، المرتفعة جغرافيا عن مستوى سطح البحر نحو 700م، والسامية انسانيا برفعة أخلاق أبنائها ومنسوب تسامحهم ورحابة صدرهم.

كنا في لقاء انساني عروبي، بادر اليه الأستاذ الشيخ فواز حسين، لاستقبال ضيفه وضيف القرية، غبطة البطريرك ميشيل صباح، البطريرك العربي الأول في مدينة القدس لكنيسة اللاتين ورئيس مجلس الأساقفة لمدة عشرين عاما، الذي ترك كرسي الأسقفية قبل نحو ثماني سنوات بموجب القانون الكنسي، لكنه ما زال صاحب حضور مميز في المجتمع.

توالت الكلمات من شيوخ أفاضل وعلمانيين محترمين، رجالات مجتمع وسياسة وحكم محلي وتربية، كلمات قيلت في قوالب مختلفة وبصياغات متعددة، لكنها كانت موحدة ووحدوية. كلمات جاءت بلغة عربية صافية، معبرة، وبحرارة صادقة وهدف مشترك، عبرت عن مدى التقارب والتعاضد بين أبناء المجتمع الواحد، وعن مدى القلق والحرص لدى أبناء الشعب الواحد، وعن التمسك بالقيم والأخلاق والعادات المتوارثة عند أبناء البيت الواحد.

رسالة محبة من حرفيش

حرفيش قرية غالبية سكانها من أبناء الموحدين الدروز يعيش معهم عدد قليل من أبناء العائلات المسيحية وأخرى مسلمة، يعيشون معا وجنبا الى جنب بانسجام ووئام.
ومن حرفيش أطلقت الأسبوع الماضي، رسالة لشعوبنا العربية وشعوب العالم، أننا شعب واحد وأننا نتكلم بلغة واحدة ونعبد الها واحدا. وهذه ليست شعارات بل حقيقة مؤكدة، راسخة، أقوى من كل الترهات والشوائب، وهي القاعدة التي نسير بموجبها والبوصلة التي توجهنا لشاطيء الأمان. ولهذا وجه لقاء حرفيش رسالة لشعوبنا الشقيقة أن انبذوا الطائفية والطائفيين، أبعدوا المأجورين والمنتفعين، اتركوا كلام النفاق والمنافقين، لا تنجروا وراء تجار التآمر والمتآمرين، اياكم ودسائس المندسين وتبينوا أخبار الفاسقين وابتعدوا عن مكائد الشياطين.
هذه رسالة حرفيش من أعلي الجليل الأشم، رسالة موجهة لشعوبنا أن استفيقوا يا عرب، عودوا وتمسكوا بعروبتكم الصافية، بقوميتكم الجامعة، بلغتكم الساطعة بشمسكم الناصعة، عودوا لأيام تضامنكم وتعاضدكم ووحدتكم، عودوا كما كنتم أخوة في السراء والضراء من الخليج الى المحيط، عودوا أضمومة واحدة متماسكة قوية عصية على الكسر. بهذا خلاصكم وبهذه نجاتكم وبذلك يكون نصركم.

"اللقاء" حاضر في اللقاء

من مميزات هذا اللقاء الأخوي في قرية حرفيش أن مركز "اللقاء للدراسات الدينية والتراثية في الأراضي المقدسة" كان حاضرا وفاعلا. ففكرة الدعوة لهذه الزيارة تبلورت عند صاحبها في مؤتمر اللقاء الذي عقد خريف العام الماضي في بيت لحم، وكان الشيخ فواز حاضرا لأول مرة فيه، وشعر أنه ابن هذه اللقاء وابن ما يحمله من أفكار، فلم يتردد في توجيه الدعوة لغبطة البطريرك، والتي خرجت للنور العام الماضي. واللقاء كان حاضرا من خلال البطريرك صباح وهو رئيس مجلس أمناء "مركز اللقاء"، وكان اللقاء حاضرا من خلال تكريم ذكرى مديره الذي رحل قبل نحو نصف عام عن دنيانا، ابن قرية فسوطة (جارة حرفيش) الدكتور جريس سعد خوري، بحضور نجله الشاب المحامي بشارة ومن خلال كلمة كاتب هذه السطور، الذي تحدث باسم فرع الجليل لمركز اللقاء.

والأهم أن مركز اللقاء كان حاضرا في اللقاء ذاته. لقاء حرفيش شكل تجسيدا لرسالة مركز اللقاء، هذه الرسالة التي ينادي بها المركز ونادى بها مديره الراحل منذ 30 عاما ونيف، رسالة العيش المشترك واللحمة الوطنية بين أبناء الشعب الواحد بمسلميه ومسيحييه ودروزه، ثالوث الشعب الفلسطيني في جسد واحد. اللقاء كان حاضرا بالفكر الذي يحمله، بالطريق الذي مهد له وعبده من خلال المؤتمرات واللقاءات والندوات والمنشورات. باللقاء بين أبناء الشعب المخلصين والمثابرين، سواء في المؤتمرات السنوية أو الافطارات الرمضانية أو السهرات الميلادية.
بطريرك حاضر بين أبناء شعبه
منذ أن اعتلى غبطة البطريرك ميشيل صباح سدة البطريركية اللاتينية في القدس، كأول بطريرك عربي لهذه الكنيسة العريقة، بمرسوم من قداسة بابا الفاتيكان في نهاية عام 1987، هذا الاختيار الذي تزامن مع اندلاع انتفاضة أبناء الشعب الفلسطيني في الأراضي المحتلة من عام 1967، ومنذ اليوم الأول شاع اسم البطريرك وبات مصدر قلق لبعض الأوساط ومحل ترحاب في معظم الأوساط والمحافل، حيث وقف غبطته ومنذ اليوم الأول مع شعبه المظلوم والمضطهد بكل صلابة، لكن بكل حكمة وبعد نظر وتواضع، مما زاد من محبة وتقدير الناس له على اختلاف انتماءاتهم الدينية والدنيوية. وبعد خدمة طويلة عريضة من خلال موقعه ومركزه، وخروجه للتقاعد الرسمي من مهامه، الا أنه لم يقعد يوما ولم يتأخر ساعة عن الحضور بين أبناء شعبه، ومع مختلف أطياف أبناء مجتمعه، وظل حاضرا وما زال حتى يومنا هذا، ونأمل ونصلي أن يستمر في هذا الحضور وفق مشيئة الرب.

ومن هنا لم يكن غريبا أن يلبي غبطته دعوة الشيخ الكريم، ويزور حرفيش ليلتقي بمن يمثل أطياف المجتمع، ليس ليزور مضيفا عزيزا فحسب، بل ليحول هذه الزيارة الى ملتقى للقلوب والعقول، وليطبق ما دعا اليه في كتابه " خواطر يومية من القدس"، وما نادى به وينادي على مر السنوات وفي مختلف اللقاءات، وكأني بالمضيف المربي والشيخ فواز حسين ينضم الى هذا النداء ويستجيب له ويعمل على تطبيقه على أرض الواقع، حيث يقول غبطته: " كلنا بحاجة إلى تربية وتقويم، بحاجة الى تنقية أنفسنا من الروح الطائفية الدفينة أو الظاهرة، ولدى الطرفين المسلم والمسيحي. هذه التربية مهمة مشتركة. لا يقوم بها المسيحي وحده، ولا المسلم أو الدرزي وحده. المرشدون والعقال والمربون من الجهتين مسؤولون عن تقويم العلاقة".

بارك الله في غبطته، وبارك في المرشدين والعقال والمربين، الذين يعملون على تنقية أنفسهم، وبالتالي تنقية أبناء مجتمعهم وشعبهم من الشوائب التي لحقت وتلحق به، لنجعل مجتمعنا نقيا، طاهرا، قويما.

(شفاعمرو – الجليل)

استعمال المضامين بموجب بند 27 أ لقانون الحقوق الأدبية لسنة 2007، يرجى ارسال رسالة الى:
[email protected]