قبل أيام مضت وتحديداً فى 21 نوفمبر 2016 أطلّ الرئيس التركي رجب طيّب أردوغان من شاشة القناة الثانية للتلفزيون الإسرائيلي فى إثبات جديد على عُمق الصداقة والحب الذى يربطه بالكيان الصهيونى؛ حيث من المُفترض أن أردوغان يعلم – كما كل مُسلم يعلم – أن إسرائيل بإعلامها وسياسييها وجيشها، عدوٌ للمُسلمين، وهل قبل أيام منعت الآذان فى القدس ومن ثم لا يجوز لحاكم مسلم، ناهيك عن كونه يُقدّم نفسه كزعيم ٍللحركات الإسلامية أن يُطلّ من شاشة تلفزيونها الرسمي، ولكن يبدو أن الرجل في جوهره غير ذلك تماماً، وأنه قد وقع هو وحزبه ودولته قبل سنين طويلة مضت في حب إسرائيل؛ وأن العنتريات الكلامية التي كان يتشدّق بها في الهجوم على (إسرائيل) هي مُجرّد (وجبات) للاستهلاك المحلي أو للاستهلاك الإخوانى / الداعشي الصديق وأن التحالف بينه وبين الكيان الصهيوني أصيل واستراتيجي، ولا تؤثّر فيه حوادث الزمان أو مقاومة (حماس) وأخواتها من قوى المقاومة الفلسطينية.

إنه يُعطيهم جميعاً (الكلام) والهجوم الدائم على مصر وسوريا وحكومة العراق؛ أما تحت المنضدة فالعلاقة مع العدوّين (الأمريكي والصهيوني) تتم على قدَم ٍوساق وبدفء شديد، وكان لقاؤه التلفزيوني الأخير وما احتواه من دعوة صريحة لتجاوز الماضي مع الكيان الصهيوني والتطبيع الشامل معه، دليلاً جديداً على أن "الأصل" لدى أردوغان في علاقته بإسرائيل هو (الصداقة)، بل و"العشق"، وأن الاستثناء هو الخصومة، بل لقد تجاوز الرجل في حبه لإسرائيل الحدود، حين سلّم لها أثناء الحوار بالأحقيّة في إدارة شؤون القدس وحين وعد الإسرائيليين بأن يقوم بمهمة قيادة حماس والإخوان إلى حظيرة "العلاقات" و"التطبيع" الدافئ مع الكيان الصهيونى.

إن أردوغان بعد المحاولة الانقلابية الفاشلة ضدّه في يوليو (تموز) الماضي، أضحى أكثر استعداداً لتقوية العلاقات مع إسرائيل، فالرجل الذي اعتقل حتى لحظة كتابة هذا المقال (110 آلاف تركي) من الجيش والشرطة والقُضاة والجامعات وغيرها من الهيئات والذي فصل من العمل عدداً مُقارباً لهم، الرجل الذي أغلق 375 مؤسسة وهيئة إعلامية، هذا الرجل لم يعد يحترم أحداً في بلده، إنه يريد الخارج فقط لأنه بات مسكوناً بذعُرٍ داخلي أن ثمة أدواراً لدول غربية وخارجية قد تُطيح به، وأن توطيد علاقاته بإسرائيل قد يحول دون ذلك باعتبارها جواز المرور إلى قلب العالم الغربي !!، هذا الرجل بات الآن واقعاً هو وحكومته في حب إسرائيل بأكثر من اللازم .

ولكن السؤال : هل الأمر .. جديد ؟ هل هذا العشق والغرام مع الكيان الصهيونى جديد أو طارئ على العلاقات التركية – الإسرائيلية ؟ أم هو أصيل .. والآن أردوغان يزيده صلابة وقوة ؟ الحقيقة أنه (عشق) تاريخي، وإن أعطاه أردوغان مذاقاً إسلامياً جديداً .. ولندع التاريخ يُحدّثنا .

تقول حقائق التاريخ ووثائقه أن تلك العلاقات كانت قديمة ولم يكن التوتّر في السنوات الأخيرة سوى على سطح الأحداث وأنهما (أنقرة وتل أبيب) يشتركان سوياً في وظيفة واحدة تجاه المنطقة العربية وهي تفكيك المنطقة، ورعاية وتمويل دواعشها (أي تنظيمات التطرّف والغلوّ الديني)، والتخديم على المشروع الأطلسي – الأمريكي في المنطقة، والذي يأتي ضرب المقاومة العربية وحماية أمن إسرائيل وسرقة النفط العربى على قمة أولوياته ودعونا نُفصّل قليلاً :

أولاً : العلاقات الإسرائيلية – التركية أقدم وأعقد من أن يدّعي أردوغان أنه كان قد قطعها حباً في الفلسطينيين وفي سفينة مرمرة، لقد كانت لعبة (بروبغندا - دعاية) ليس أكثر.. فهذه العلاقات تمتد إلى العام 1949 حين كانت تركيا هي أول دولة في العالم تعترف بإسرائيل وكان ذلك فى 28 مارس 1949. والتاريخ يقول لنا أيضاً أنها كانت تاريخياً في صف الأعداء فلقد انضمّت إلى حلف بغداد المُعادي لمصر عبد الناصر عام 1955 وأيّدت العدوان الثُلاثي على مصر عام 1956 والتدخّل الأمريكي في لبنان ونشر قوتها على الحدود العراقية للتدخّل في إسقاط ثورة 14 يوليو 1958 إضافة إلى تلويحها المستمر بقطع المياه عنه؛ أو خفض حصة سوريا والعراق من المياه وإنشاء السدود والخزانات لإلحاق الضرر بالزراعة في العراق وسوريا.

وانتهاكها المُستمر لحُرمة الأراضي العراقية منذ عام 1991 وإلى الآن بحجّة مُطاردة عناصر حزب العمّال الكردستاني التركي (P.K.K) مُستغّلة الأوضاع القلقة في شمالي العراق ، وتتعاون بقوة مع أمريكا والكيان الصهيوني في مجال التصنيع العسكري للصواريخ وشبكات الليزر التكتيكية المضادّة للصواريخ والتي تحمل إسم (نويتلوس) وهي شبكة تم نشرها في أواخر عام 1997؛ وثمة اتفاقات عديدة بين تركيا والكيان الصهيوني على إنتاج صاروخ (بوياي) (جو - أرض) والذي أنتجته تركيا لصالح الكيان الصهيوني خلال السنوات الممتدة من (2002-2016) ، وتآمرها الواضح على وحدة الأراضى السورية تحت مُسمّى وهمي إسمه دعم الثورة السورية ، فضلاً عن محاولاتها المُستمرّة لاحتواء حركة حماس وتحويلها إلى حركة إخوانية سياسية تُستخدَم لضرب مصر بعد 30 يونيو، وسوريا بعد انتصاراتها على دواعش الداخل وبعد التدخُل الروسي الحاسم هناك.

ثانياً : بعودة إلى لتاريخ حتى يفهم مَن لا يريد أن يفهم من نُخبتنا العربية حقيقة علاقات تركيا بإسرائيل والممتدة منذ حرب 1948 حتى اليوم، فإن التاريخ يُحدّثنا أنه في 1958، وقّع داڤيد بن غوريون وعدنان مندريس اتفاقية تعاون ضدّ التطرّف ونفوذ الاتحاد السوڤياتي في الشرق الأوسط. وفي 1986 عيّنت الحكومة التركية سفيراً كقائم بالأعمال في تل أبيب. وفي 1991 تبادلت الحكومتان السفراء وفي فبراير وأغسطس 1996، وقُعت حكومتا تركيا وإسرائيل اتفاقيات تعاون عسكري. وقد وقّع رئيس الأركان التركي وقتها چڤيق بير على تشكيل مجموعة أبحاث استراتيجية مشتركة ومناورات مشتركة، منها (تدريب عروس البحر) ، وهي تدريبات بحرية بدأت في يناير 1998 ثم تدريبات مع القوات الجوية، الأمر الذي شرّع وأسّس لوجود آلاف عدّة من المستشارين العسكريين الإسرائيليين في القوات المُسلّحة التركية لايزال بعضهم يعمل حتى يومنا هذا (2016) وتشتري تركيا من إسرائيل العديد من الأسلحة وكذلك تقوم إسرائيل بتحديث دبّابات وطائرات تركية. منذ 1 يناير 2000، أصبحت اتفاقية التجارة الحرّة الإسرائيلية التركية سارية.
ومن قبل فقد شهد العام 1994 أول زيارة لرئيسة الوزراء التركية تانسو تشلر إلى إسرائيل لأول مرة وبعدها، ظهرت الاتفاقيات العسكرية السرية إلى النور في 1996 بتوقيع الاتفاقية الأمنية العسكرية التي اعتُبرت مخالِفة للقانون التركي ، لأنها وقّعت من دون موافقة لجنة الشؤون الخارجية للبرلمان التركي ، ومع ذلك استمرّت حتى يومنا هذا (2016) رغم الانقطاع الشكلي في العلاقات الدبلوماسية.

وتضمّنت الاتفاقية إقامة مناورات مشتركة برية- بحرية- جوية وتبادل الخبرة في تدريب الطيّارين المُقاتلين وتبادل الاستخبارات الأمنية والعسكرية بخصوص المشاكل الحسّاسة مثل الموقف الإيراني والعراقي والسوري إضافة إلى تعاون وثيق في صيانة وإحلال وتجديد سلاح الجو ومنظومة الدفاع الجوي التركي بقيمة تتجاوز الملياري دولار.

3 - وحتى 2016 لاتزال عقود التسلّح تُمثّل صُلب التعاون العسكري بين أنقرة وإسرائيل بل تضاعفت عما كانت عام 2006 وتحوّلت إلى شراكة استراتيجية منحت شركات الأسلحة الإسرائيلية عقوداً مُعلنَة وسرّية لتطوير الدبّابات 60 M- وتحديث المقاتلات إف-16 وإف-5 وبيع طائرات من دون طيّار.

4 - ومن إجمالي الحركة التجارية بين البلدين كانت عقود الأسلحة تمثّل بين 65٪و 72٪ وبينما وصل التعاون العسكري والصفقات التسليحية في العام الحالي (2016) بين تركيا وإسرائيل إلى 4 مليارات دولار.

5 - التعاون الاستراتيجي في العلاقات الاقتصادية بين الدولتين مُتنوّع وعميق للغاية، حيث تفيد مُعطيات وزارة التجارة والصناعة الإسرائيلية بأن تركيا تحتل المرتبة السادسة في قائمة الصادرات الإسرائيلية لدول العالم. الناطق بلسان الوزارة يُشير إلى أن حجم التبادُل التجاري بين تركيا وإسرائيل شهد تطوراً هائلاً ونبّه إلى أنه ارتفع من 300 مليون دولار في 1997 إلى 3.1 مليارات دولار عام 2010 وفيه بلغ حجم الصادرات الإسرائيلية لأنقرة ملياراً وربع المليار دولار. واليوم (2016) يقترب الرقم من الـ5 مليارات دولار.

6 – وبالعودة إلى الاتفاقية الأمنية العسكرية سنة 1996 بين تركيا وإسرائيل نجد أن من أبرز بنودها والتي تُنفّذ اليوم (2016) في ظلّ حكومة أردوغان صديق الإخوان المسلمين وراعي الإرهاب في سوريا ومموّله في ليبيا :

أ- خطّة لتجديد 45 طائرة f - 4 بقيمة 600 مليون دولار، تجهيز وتحديث 56 طائرة f - 5 ، صناعة 600 دبّابة60 M-, خطّة لإنتاج 800 دبّابة إسرائيلية 'ميركافاه'، وخطّة مُشتركة لإنتاج طائرات استطلاع من دون طيّار، وخطّة مُشتركة لإنتاج صواريخ أرض جو 'بوبي' بقيمة نصف مليار دولار بمدى 150 كم.

ب - تبادُل الخبرة في تدريب الطيّارين المُقاتلين (وبالمناسبة هم أنفسهم الطيّارون الذين يصطادون قادة المقاومة الفلسطينية ويقتلونهم بعد أن يكونوا قد تدرّبوا جيداً على هذا القنص في الأراضي التركية وفي مُعسكرات الجيش التركي).
ج - إقامة مُناورات مُشتركة بريّة- بحرية- جويّة.
د - تبادُل الاستخبارات (المعلومات) الأمنية والعسكرية بخصوص المشاكل الحسّاسة مثل الموقف الإيراني والعراقي والسوري وطبعاً التجسّس على الفلسطينيين واللبنانيين المُقاتلين.
هـ - إقامة حوار استراتيجي بين الدولتين.
و - التعاون الاقتصادي (تجاري صناعي وعسكري).

خلاصة القول هنا أن العلاقات التركية - الإسرائيلية تتحكّم فيها عناوين ثلاثة: مشروع أنابيب السلام لتوصيل المياه التركية للكيان الصهيوني (!!) ، واتفاق التعاون الاستراتيحي، واتفاق التجارة الحرّة. هذا ومن بين ما يتضمّنه مشروع «أنابيب السلام»، إقامة محطّة في منطقة شلاّلات مناوجات التركية لتزويد إسرائيل بكمية 50 مليون طن سنوياً (وتمثّل قرابة الـ5% من احتياجات إسرائيل السنوية من المياه) من المياه لمدة 20 عاماً.

ثالثاً : تقوم كل من إسرائيل وتركيا بدعم وتدريب وتهريب نفط للجماعات المُسلّحة التي تُقاتل في سوريا والعراق، وتستخدم في ذلك القواعد العسكرية الأمريكية التي تحتل تركيا (تلك الدولة التي يزعم أردوغان صباح مساء أنها دولة حرّة مُستقلّة ويُردّد خلفه أنصاره من تيّارات الإسلام السياسي المُتأمرك نفس المقولات كالببّغاوات من دون تفحّص وتأمّل) . إن أبرز هذه القواعد العسكرية التي تتواجد في تركيا – أردوغان وتموّل الإرهابيين وتدرّبهم بإشراف الموساد الإسرائيلى :
( قاعدة أنجرليك – قاعدة سينوب – قاعدة بيرنكيك – قاعدة كارنما يردن – قاعدة أزمير الجويّة – قاعدة بلياري – قاعدة أنقرة الجويّة – قاعدة سيلفلي – قاعدة الأسكندرونة – ويومورتاليك) .

هذه القواعد وغيرها (23 قاعدة عسكرية أمريكية وغربية) تُمثّل الأداة الأكبر في التفكيك والتآمر على الدول العربية وفي رعاية الحركات الإرهابية، والطريف في الأمر أن تُعلن تركيا انضمامها إلى الحلف الإسلامي الذي دعت إليه السعودية لمقاومة الإرهاب. ثم في التحالف الدولي الحالي لمُقاتلة داعش في الموصل والرقّة، إنها الازدواجية في السياسة والانتهازية في العمل وفي العلاقات مع الجيران .

خُلاصة القول إذن أن ظهور أردوغان مُجدّداً على شاشة التلفزيون الإسرائيلي داعياً إلى التطبيع والعلاقات الدافِئة مع الكيان الصهيوني، وصادماً أصدقاءه من (الإخوان) و(النصرة) و(داعش) في تقديرنا ليس جديداً أو مُفاجئاً لمَن يعلم تاريخيّة العلاقات بين (إسرائيل) و(تركيا) والتي أعطاها ("الإسلامي" !! أردوغان) بُعداً مصلحياً وأيديولوجياً جديداً، وهو بعد يقول وباختصار أن قلب العروبة في بلاد الشام والعراق ومصر يتعرّضون لحرب مُعقّدة الأدوات والأدوار .. من قِبَل عدوّ مُشترك ... مهما تزيّن أو التحف بعباءات دينية مُزيّفة، عدوٌ يطمع في الأرض والهوية، يريد تفكيكهما معاً وإعادة تركيبهما وفقاً لمصالحه وهواه التاريخي، هذا العدو له وجهان.. تماماً كوجهي العملة على الوجه الأول تُقيم (إسرائيل)، ومن الوجه الثاني .. تطل "تركيا " .. هكذا يُحدّثنا التاريخ ويصدمنا الواقع .. والله أعلم.

المصدر: الميادين

استعمال المضامين بموجب بند 27 أ لقانون الحقوق الأدبية لسنة 2007، يرجى ارسال رسالة الى:
[email protected]