يعود أسلوب الحد الأدنى « مينيماليسم » أو « التبسيطية » الى ستينات القرن الماضي، حيث شهدت تلك السنوات طروحات مفاهيمية جديدة، ليس للعلاقات الاجتماعية فقط، ولكن لكل العلوم والإبداعات الإنسانية .

عالم الزخرفة والديكور لم يكن بعيداً عن تلك المفاهيم الجديدة، فبرزت الخطوط النقية والألوان الأولية والأشكال البسيطة، وفي هذا الإطار ولدت «التبسيطية» كأسلوب زخرفي يشكل «تمرداً» على الباروكية والكلاسيكية وباقي طرز الديكور المتكلفة والتي تزدحم بالعناصر والأكسسوارات والتفاصيل.

ولو أردنا تأمل هذا الأسلوب أكثر، من خلال قراءة حيثياته واتساقه مع الأفكار الفلسفية التي راجت في ستينات القرن العشرين، سنجد أن التخلي عن الزوائد وتراكماتها والذهاب الى الأساسي والضروري، يشكلان صدى ملائماً لفكرة العودة الى الطبيعة والتأمل والبساطة... أفكار تقترب من الفلسفة وتؤسس لنمط حياة مختلف، يؤمّن الاسترخاء والعفوية ويستبعد التشويش والتكلف.

وإذا حاولنا أن نستعير تشبيهاً أدبياً من لغتنا العربية، مناسباً لأسلوب «التبسيطية»، سنجد «السهل الممتنع» أقرب ما يكون الى مفهوم الـ«مينيماليسم»، وهو الاسم الذي يتم تداوله في مجال الديكور.

على أن «التبسيطية» ليست بهذه البساطة، فهي وإن كانت تعني توسل الحد الأدنى من الأثاث والعناصر لتنسيق مساحة ما، وذلك من أجل إعادة تفسير مفهوم الفضاء في المكان، إلا أنها في واقع الأمر تتطلب الكثير من التفكير والبحث من أجل الوصول الى صيغة متوازنة لمفهوم الضروري والكمالي. وهذا الأمر يستدعي الأخذ في الاعتبار الهيكل الهندسي للمكان، وملاءمة قطع الأثاث المختارة له.

بالتأكيد، لا تعني الـ«مينيماليسم» في أي حال انتفاء الديكور أو نفيه من الأمكنة، لأن ذلك من شأنه أن يبطل مفعوله كأسلوب، فاختيار أقل التفاصيل، وأبسط الخطوط والأشكال وأكثر الألوان مباشرة وحيادية، عملية تتطلب معرفة عميقة بطبيعة فضاءات الأمكنة وخصائص أبعادها، وبالتالي التوصل مع معطياتها الى صيغ لا تنفي معايير الزخرفة، ولا تفتعل وتكدس ما من شأنه القضاء على نقاء الأمكنة واحتمالات الحلم في فضاءاتها.

من أبرز مميزات هذا الأسلوب، أنه يوفر الرفاهية الكاملة من دون أن تتأثر جماليات المشهد أو وظائف عناصره. ومن هنا لا يمكن الركون الى معطيات زخرفية تنتمي الى طرز وأساليب، وأيضاً الى حقب وتيارات شائعة.
فمن أجل اختصار مكونات المشهد الزخرفي وتبسيط خطوطه وتنسيقاته، ينبغي التأكد بدايةً من حيازة الشروط الكاملة لإنجاز تنسيق مكتمل الأركان «الزخرفية»، وفي الوقت نفسه يتجاوز «التزيين».

ومن هذا المنطلق يمكن القول بأن أسلوب الـ«مينيماليسم» هو تكثيف للقيم الجمالية والوظيفية، من منظور كمي ونوعي، وبالتالي ترك الكلمة العليا في المشهد الزخرفي للمكان نفسه، لفضائه وأبعاده.

وهذا الأمر يمر عبر خيارات محكمة ودقيقة، ليس فقط للأثاث وأكسسواراته، وإنما أيضاً لمروحة الألوان والأشكال والخطوط. فنحن هنا أمام عملية مركبة وقد تكون معقدة أيضاً، وصولاً الى البساطة في أرقى تجلياتها.

وعندما نتحدث عن الاختصارات والتبسيط، فلن يكون ذلك بالتأكيد على حساب المخرجات اللازمة والمطلوبة لداخل يوفر الراحة والرفاهية، ويؤمّن أجواء ملائمة للاسترخاء والتأمل.
لذا يمكن القول إن الـ «مينيماليسم» تجاور في هذا المفهوم وفي بعض مستوياته أسلوب الـ«زن» حيث الصفاء البيئي – إذا جاز التعبير – يؤسس لفضاءات مؤهلة وكفية في أدائها الجمالي والوظيفي، أضف الى ذلك صيانتها لقيم المكان.

بالإضافة الى كل الخصائص التي تميز أسلوب الـ«مينيماليسم» وتقديماته على مستوى الحياة اليومية، فإن الرهان فيه يتركز على حسن الاختيار، وبراعة التنسيق. وهنا سنجد أن المكاسب التي ستتحقق لنا من نجاح الصيغة الزخرفية المطلوبة، تتصل مباشرة باحتياجاتنا المؤكدة – كأفراد ومجموعات – الى تأمين ملاذات نلجأ اليها بعد ضغوط العمل و«الركض» لتلبية شروط الحياة اليومية المعاصرة. فالمنزل الـ «مينيماليست» هو الذي يوفر لساكنيه الأجواء المناسبة للراحة والاسترخاء، من خلال ديكور غير متطلب، يندمج فيه الضروري بالكمالي، فيحد من التشويش الذي ينتج من التراكم والتصنّع، والذي يؤثر في نفسيات الساكنين ويزيد من توترهم ونفورهم.
أضف الى ذلك سهولة التعامل مع هذا النمط من المنازل، من حيث تدني الحاجة الى الصيانة المستمرة، والنظافة المستدامة، من دون أن ننسى التكلفة المادية.

وفي مثل هذه الأجواء، يمكن الاكتفاء بلون واحد، مع مروحة من إيقاعاته تنسحب على كل موجودات المكان، وسيكون الاقتصاد في اختيار قطع الأثاث وخطوطها وأشكالها عاملاً حاسماً في حيازة النتيجة المطلوبة، كذلك فإن الإضاءة غير المباشرة تلعب دوراً بارزاً في تدعيم الفكرة الخاصة بالتأمل والاسترخاء.

أما الأكسسوارات التي ستكرس الأسلوب، فإن وجودها لن يكون بهدف التزيين والعرض، بل هي نفسها ستكون جزءاً من الضرورات التي يمليها الأسلوب نفسه.

ومثل هذه المعطيات، لا شك في أنها تناسب الحياة في شقق المدن الكبيرة والنطاق السكني المحيط بها، وذلك بالنظر الى المواصفات المحددة التي تميز الهياكل الهندسية في هذه الأماكن. وهنا لا يمكن الحديث فقط عن أسلوب للديكور، بل عن فلسفة وتيار يكتسب يوماً بعد يوم شعبية متزايدة... لأن الهدف الأساس ليس العرض والاستعراض، بل البحث عن أجواء يحفّها الهدوء وتحيطها السكينة، مما يجعل الحياة أكثر متعة.
 

المصدر: لها

استعمال المضامين بموجب بند 27 أ لقانون الحقوق الأدبية لسنة 2007، يرجى ارسال رسالة الى:
[email protected]