"دولتان، دولة واحدة، ما يريده الطرفان" هكذا حسم ترامب حل الدولتين الذي غرقنا فيه منذ ما يقارب الأربعة عقود...
محللون ما زالوا يرددون أن ترامب جاهل بواقع المنطقة وليست لديه معلومات تاريخية ولا جغرافية ولا سياسية عنها، وأن تصريحاته سببها الجهل.

هذا التحليل أقرب إلى السذاجة، لأن ترامب ليس شخصاً، وإنما منظومة متكاملة، وهو يقف اليوم وسط مجموعة من المستشارين أو الموظفين في المواقع القيادية، وجميعهم جاؤوا من البيئة الصهيونية الاستيطانية نفسها.

فمن صهره الذي له تأثير كبير عليه، إلى مرشحه كسفير في تل أبيب، إلى مستشاره للأمن القومي، إلى ابنته ذات التأثير الكبير عليه، إلى رئيس تحرير صحيفة "إسرائيل اليوم" وأكبر المتبرعين لحملته الانتخابية، وصولاً إلى مندوبته في الأمم المتحدة، جميعهم ولدوا من رحم الاستيطان، وحتى دعموا وساهموا في بناء حتى البؤر الاستيطانية التي تعتبر عند كثير من قادة الاحتلال غير شرعية!!

ومن هنا، فإن السياسة الترامبية ليست وليدة اللحظة، ولا هي نابعة من جهل، وعدم معرفة، وإنما مخطط لها بذكاء من صانعي السياسات الأميركية، وهي سياسة طويلة الأمد ستستمر ما دام ترامب يمسك زمام الأمور وما دامت النخبة اليمينية الصهيونية هي من يقرر.
ترامب سار خلف قناعات نتنياهو، وربما يقف اليوم على يمين الحكومة الإسرائيلية بمواقفه المعلنة.. حتى فيما أطلق عليه الصفقة الإقليمية، فهو يحاول قذف الكرة بعيداً عن ملعب الصراع الفلسطيني ـ الإسرائيلي إلى الملعب العربي وخاصة الخليجي.

بمعنى أن السلام المطلوب والاستقرار، وفق رأيه، هو للمحيط العربي الذي يواجه تهديداً إيرانياً بشكل رئيس، وبالتالي لا بد من صفقة إقليمية، تكون فيها القضية الفلسطينية هامشية، قائمة فقط على تحسين الأوضاع المعيشية والاقتصادية للفلسطينيين ليس إلاّ...

تنياهو يعود إلى تل أبيب منتصراً، ولا أحد حتى من غلاة اليمين العنصري يمكن أن "يزاود" عليه اليوم، فهو حقق لهم كل ما يريدون، شطب حل الدولتين، وأنهى مفهوم الدولة الفلسطينية إلى أجل غير مسمى... وأفلت عنان الاستيطان الهائج بشكل لم يسبق له مثيل، من تشريع لكل الاستيطان، إلى إقامة مستوطنات جديدة على أرض فلسطين، لا يهم كيف وماذا تسمى، خاصة، أو عامة، أو مشاعاً... المهم أن الاستيطان سيكون في كل شبر من أرض فلسطين، وهذا قمة الحلم الصهيوني.

عندما كنا نتحدث دائماً عن أوسلو "الميت" وعن خطورة النهج القائم على المفاوضات ثم المفاوضات ولا غير ذلك... كنا ننظر إلى مقولة رئيس الوزراء الإسرائيلي الأسبق إسحق شامير الذي قال في بداية المفاوضات... سنستمر مائة سنة نفاوض ولن نتنازل عن شبر من أرض إسرائيل.

نتنياهو هو وريث حقيقي لشامير، فهو على استعداد لأن تتواصل المفاوضات لمائتي سنة بدلاً من مائة.. هكذا يريد... وهكذا كانت نظرته إلى الدولة الفلسطينية، أنها لن تقوم على مبدأ السيادة الكاملة، لأن هذا يشكل خطراً على دولة إسرائيل. ظل موقفه ثابتاً رغم الضغوط التي مارستها إدارة أوباما... علماً أنها كانت الأكثر سخاءً في تقديم المساعدات العسكرية والاقتصادية لـ تل أبيب على مدار السنوات الثماني الماضية... نتنياهو كسب الرهان مع رئيس أميركي شعبوي محاصر من مجموعة يهودية أكثر تطرفاً من الإسرائيليين... ولكن المؤلم عندما ترى بين الفلسطينيين من يروج لفكرة الدولة الواحدة... ويسمونها الدولة الديمقراطية.... فيما الإسرائيليون يسمونها الدولة اليهودية... ويهودية الدولة تعني الحكم المطلق لليهود، وأن العرب مجرد أقلية عرقية لها بعض الحقوق... وأن دولة فلسطين ستكون في غزة وربما في جزء من سيناء... ومن يرغب في الالتحاق بالدولة الفلسطينية فله كامل الحرية وربما مجموعة من الإغراءات أيضاً. ومن يخالف قانون الدولة اليهودية سينقل قسراً إلى دولة فلسطين في غزة وسيناء حسب الحلم الصهيوني.

من الواضح اليوم أن ترامب يرى الحل كصفقة تجارية، يتفاوض فيها الطرفان غير المتكافئين... إسرائيل القوية التي تملك الأوراق كلها، والفلسطينيون الضعفاء الذين لا يملكون إلاّ قبول الأمر الواقع... أو لا شيء.

ولكن، لا يعلم ترامب ونتنياهو أن هناك فرقاً بين صفقاتهم التجارية وبين الشعب الفلسطيني... الذي دائماً يخرج كطائر الفينيق من رماده... هم يرغبون في مفاوضات تستمر مائة عام... والشعب الفلسطيني على قناعة اليوم أكثر أن صراعه سيتواصل مائتي عام ولكنه لن يُسلّم أو يستسلم...
مرة أخرى المشكلة في القيادات الفلسطينية بمكوّناتها الحزبية والتنظيمية والسلطوية.... لكن الشعب الفلسطيني فيه من الحياة والمقاومة ما يجعله قادراً على القضاء على حلم الاحتلال الأبدي!!!

الايام

استعمال المضامين بموجب بند 27 أ لقانون الحقوق الأدبية لسنة 2007، يرجى ارسال رسالة الى:
[email protected]