في العام 1968، قدمت "فتح" حلاً شاملاً للقضية الفلسطينية، وهو حل الدولة الفلسطينية الواحدة على كامل أراضي فلسطين التاريخية، التي يعيش فيه الفلسطينيون ومن يرغب من اليهود تحت سيادة دولة واحدة ديمقراطية يحكمها قانون المواطنة. وطبعاً قوبل هذا الحل من قبل إسرائيل بالرفض المطلق، وحتى أن المجلس الوطني الفلسطيني في دورته التاسعة (1971)، والذي طُلب منه اتخاذ موقف من مشروع الدولة الديمقراطية، لم يتطرق إليها، كما لو أنه طوى هذا الملف وأغلقه قبل أن يتحول إلى برنامج سياسي، وهكذا تراجع هذا الحل لصالح البرنامج المرحلي (1974).

منذ ربع قرن، والحراك السياسي الدولي المتعلق بالقضية الفلسطينية يتمحور على أساس "حل الدولتين"، والذي سيتحقق عبر المفاوضات. وعلى الرغم من تولد قناعات لدى القيادة الفلسطينية بأنّ هذا الحل لم يعد ممكناً، بسبب الاستيطان الإسرائيلي، إضافة إلى تراجع التأييد الشعبي له، إلا أنه ظل الحل المفضل لديها، باعتباره أكثر الحلول واقعية، وحتى الآن ما زال الموقف الفلسطيني الرسمي المطروح هو السعي للوصول إلى دولة مستقلة على حدود الـ67 وعاصمتها القدس مع حل قضية اللاجئين.

وفي هذا الصدد، في مواجهة واقع فشل حل الدولتين، والبحث عن البدائل والخيارات المتاحة، كتب القيادي الفلسطيني أحمد قريع: "إزاء تفاقم المصاعب الحقيقية، وضآلة الخيارات المتاحة، وتغير البيئة السياسية المحيطة، واشتداد المخاطر المحيقة بالمصير الفلسطيني، يبدو أنه لا مفر أمامنا من محاولة الخروج، مرة إثر مرة، من هذا النفق المظلم، والكف عن التعلق بالأوهام الساذجة، والافتراضات العتيقة، والرهانات المعلقة في سماء بعيدة، والمكابرات التي لا طائل من ورائها، ومن ثم الشروع في إجراء حوار داخلي شامل يبدأ على شكل عصف فكري في الدوائر الصغيرة، قبل أن يتم عرضه إلى نقاش وطني أشمل، نتوصل فيه بعد حين قد لا يطول، إلى وجوب إحداث استدارة كاملة عن حل الدولتين بعد أن تعطلت آلياته وفقد مقوماته، والتحول من ثم إلى خيارات بديلة، وأساليب عمل جديدة، وخطط وبرامج كفاحية مختلفة".

منذ فترة، تتعالى أصوات فلسطينية مطالبة بحل الدولة الواحدة ثنائية القومية، ولتوضيح الفرق بين هذا الحل، والحل الذي طرحته "فتح" سابقاً، يقول د. نبيل شعث: "إن ما يدور من حديث عن حل الدولة الواحدة، عبارة عن أفكار للضغط على إسرائيل للقبول بحل الدولتين، وعندما يتم الحديث عن حل الدولة الواحدة فالمقصود به دولة إسرائيل، وليس دولة فلسطينية، بمعنى أن فكرة "فتح" الأساسية للدولة الواحدة كانت تتحدث عن دولة ما بعد التحرير، أي بعد تفكيك المشروع الصهيوني والانتصار على إسرائيل وتحرير كل الأرض الفلسطينية، وبعدها نقيم الدولة الواحدة الديمقراطية التي يعيش في ظلها اليهود كمواطنين، وقد كان هذا يمثل حلاً إنسانياً لمشكلة الوجود اليهودي. الآن وبعد إخفاق الفلسطينيين في تحرير 22% من الأرض لم يعد ممكناً الحديث عن حل الدولة الفلسطينية الكاملة، الأمر الذي دعا البعض لطرح حل الدولة الواحدة، أي أن ما يقوم به هؤلاء هو توريط إسرائيل بهذا الحل، أي أنهم يقولون: إننا لم نعد نريد دولة فلسطينية، بل نريد مواطنة بحقوق كاملة في دولة إسرائيل، بمعنى أننا نطالب بالتصرف كما لو أننا في جنوب إفريقيا، وأن إسرائيل تمثل دولة أبارتهايد، ونحن أصحاب البلاد الأصليين وأنتم محتلون، وبالتالي يتحول الصراع إلى صراع ضد الفصل العنصري، أي أن من يتحدث عن حل الدولة الواحدة هو عملياً لا يمتلك مشروعاً لهذا الحل وهو قادر على تنفيذه، بل لديه مشروع لتوريط إسرائيل به من خلال مطالبتها بالدولة الواحدة وبالمواطنة الكاملة، وبالتالي يكون هذا تهديداً وليس مشروعاً. أي إذا كنت تريد دولتين طالب بدولة واحدة، حيث إن إسرائيل ستخاف من المشكلة الديموغرافية، ما سيؤدي إلى قبولها بحل الدولتين".

وبالطبع ترفض إسرائيل بشدة هذا الحل، لأنه يهدد هويتها، ويلغي طبيعة الحركة الصهيونية، ويفقدها مبررات وجودها، ويتناقض مع فكرة الدولة اليهودية؛ بل ويخلق لها أزمات جديدة، أهمها مشكلة التوازن الديموغرافي؛ فالآن عدد الفلسطينيين على أرض فلسطين مساو لعدد اليهود، وإذا ما استمر الوضع الحالي فإنه بعد عشرين سنة سيكون للفلسطينيين الأغلبية المطلقة في هذه الدولة، وبالتالي يكون هذا التهديد مخيفاً لإسرائيل فعلياً، لأنه سيفككها تدريجياً، وهو بالتالي مشروع نضالي لتغيير نمط الصراع من نمط إنهاء الاحتلال من جزء من الأرض الفلسطينية إلى نمط طلب المواطنة في دولة إسرائيل على أمل بالانتصار عليها عبر تغيير المعادلات الديموغرافية والجغرافية والسياسية والقانونية بعد سنوات، وهو ليس بديلاً يُخطَّط له كما يُخطَّط للدولة الفلسطينية المستقلة، ولهذا فإن كل هذه الأفكار والمقترحات هي بدائل تطرح أشكالاً جديدة ومختلفة من النضال السياسي في وجه استمرار الاحتلال، واستمرار حرمان الشعب من حقه في تقرير مصيره.

إعلان ترامب/نتنياهو أن حل الدولتين لم يعد ضرورياً، يعني إعادة المنطقة إلى مربع العداء والاشتباك، ويعني التغاضي عن الحل الذي تسعى إسرائيل لفرضه بالقوة، كأمر واقع؛ وهو مصادرة أكبر مساحة من أراضي الضفة، وتهويد القدس، وعزل الفلسطينيين في كانتونات غير متواصلة، مع إمكانية تسميتها دولة فلسطينية مرتبطة بغزة إدارياً، ولكن تحت إشراف أمني إسرائيلي.

وهناك مقترحات حلول أخرى تحاول إسرائيل فرضها، مثل ضم أكبر مساحة من الضفة، وإلحاق التجمعات الفلسطينية بالحكم الأردني، وإلقاء غزة في حضن مصر مع التوسع باتجاه سيناء، مع تنسيق أمني إسرائيلي أردني مصري. وهناك حل روابط المدن (على غرار روابط القرى)، أو السلام الاقتصادي، وهناك حل هو الإبقاء على الوضع الحالي مع تثبيت إمارة غزة والاعتراف بها وفتح حدودها مع مصر.

لا يعني وجود هذه الحلول أنها ستنفذ. يمتلك الفلسطينيون القدرة على إفشال أي حل لا يلبي طموحهم الوطني، ولديهم الكثير من عناصر القوة: المقاومة الشعبية، الحراك السياسي والدبلوماسي والإعلامي في المحافل والمحاكم الدولية، المستند إلى قوة الحق الفلسطيني وعدالة القضية ومشروعية الحقوق الفلسطينية المنسجمة مع القانون الدولي. ولكن عليهم أولاً إنهاء الانقسام، وتفعيل منظمة التحرير، وترتيب البيت الفلسطيني.. هذا ما عليهم فعله خلال الفترة المقبلة، التي ستظل فيها الحالة السياسية كما هي.. دون أي تقدم.

وعلينا ألا نتأثر بمواقف ترامب؛ فأميركا تاريخياً منحازة لإسرائيل، ولم تكن في أي يوم وسيطاً نزيهاً. 

استعمال المضامين بموجب بند 27 أ لقانون الحقوق الأدبية لسنة 2007، يرجى ارسال رسالة الى:
[email protected]