مشهد غير مألوف أن يجتمع كل من الرئيس الأميركي دونالد ترامب والزعيم الكوري الشمالي كيم جونغ أون بسنغافورة في قمة تاريخية بامتياز، شكّلت واحدة من العناوين البارزة في تاريخ العالم المُعاصر المثقل بالتوترات الإقليمية والدولية.
قمة سنغافورة التي عقدت في الثاني عشر من الشهر الجاري لم تأتِ من فراغ ولم تولد من المجهول، وإنما جاءت على خلفية وقائع وأحداث ومفارقات كثيرة كادت تؤدي إلى اشتباك عسكري بين الولايات المتحدة الأميركية وكوريا الشمالية.
قبل انعقاد هذه القمة وحينما استلم الرئيس ترامب قيادة الدولة من خلفه باراك أوباما، كان ينتقد سياسة الأخير فيما وصفت بالصبر الاستراتيجي إزاء التعامل مع بيونغ يانغ، وحدث أن صعّد ترامب لهجته القاسية ضد كيم جونغ أون واتبع سياسة متشددة ضد بلاده، مفتوحة على كافة الاحتمالات بما فيها الخيار العسكري.
هذا التصعيد الأميركي مرده إلى موقف واشنطن من تطوير القدرات الصاروخية لكوريا الشمالية، ومن مواصلتها إطلاق صواريخ باليستية بعيدة المدى تُهدّد الدول الحليفة لواشنطن مثل اليابان وكوريا الجنوبية، وقادرة أيضاً على الوصول إلى الأراضي الأميركية.
حتى العام الماضي أجرت بيونغ يانغ 6 تجارب نووية على الرغم من أن مجلس الأمن الدولي أصدر قرارات غلظت من العقوبات المفروضة عليها، بالإضافة إلى العقوبات الفردية الدولية وعلى رأسها الولايات المتحدة.
مع ذلك واصلت بيونغ يانغ مشوارها في تطوير قدراتها النووية، وتفاقمت حرب المواجهات الكلامية والتلاسن الحاد بين ترامب وأون، إلى حد أن الأخير قال إن بلاده لا تخشى الولايات المتحدة وأن لديه زرا نوويا على مكتبه، في حين كان رد ترامب بأنه يمتلك زرا أكبر من زر كيم أون.
اللغة التصعيدية والشحن بين البلدين كاد يقودهما إلى حرب غير تقليدية، وهي حرب لو حصلت بالفعل فإنها ستتجاوز في نطاقها الجغرافي شبه الجزيرة الكورية، لأنها قد تتحول إلى حرب نووية ارتباطاً بالتهديدات والتلويح بالقوة العسكرية وسياسة «الأزرار النووية».
على أن كافة الأطراف الدولية تعي أن الانزلاق في أتون الحرب لن يقود إلى ترجمة مقولة: «إنك لا تجني من الشوك العنب»، استناداً إلى تجربة الحرب في شبه الجزيرة الكورية منذ 1950 وحتى 1953، التي لم تنته بصيغة منتصر ومهزوم وخرجت باتفاق هدنة وليس اتفاق سلام.
وفي الإطار التاريخي الحاضر زائداً الأخذ بعين الاعتبار الواقع الدولي والاصطفافات الدولية، فإن الحديث عن حرب جديدة في شبه الجزيرة الكورية يعني كارثة على الجميع، وهي كارثة قد تطول إلى سنوات دون أن تحقق نتائج واضحة تحسب لطرف على الآخر.

من كل ذلك يمكن فهم ما الذي دفع بيونغ يانغ وواشنطن إلى التحول عن النهج التصعيدي إلى فتح صفحة جديدة من ممارسة القوة الناعمة، وهو تحول تأثر إلى حد كبير بالمبادرة التي تقدمت بها كل من روسيا والصين قبل حوالى العام، والتي تستند إلى مبدأ «التجميد مقابل التجميد».
المبادرة في وقتها قامت على ضرورة أن تُجمّد كوريا الشمالية تجاربها النووية، مقابل تجميد أميركي لمناورات عسكرية ضخمة مع حليفتها كوريا الجنوبية، وفي وقتها لم تلق هذه المبادرة الحرارة المطلوبة من قبل بيونغ يانغ وواشنطن، لكن بعدها حدثت التحولات.
بعد الإعلان عن المبادرة بقليل، بعثت كوريا الشمالية رسائل إيجابية تطمينية ابتدأتها بالموافقة على المشاركة في دورة الألعاب الأولمبية الشتوية في بيونغ تاشنغ التي استضافتها كوريا الجنوبية في شباط 2018، تبعها عقد قمة ثالثة بين الكوريتين في 27 نيسان.
قمة الكوريتين التي عقدت قبل أقل من شهرين، مهدت لإعداد القمة الأميركية - الكورية الشمالية التي تعرضت إلى محطات اختبار جرى فيها إلغاء القمة من قبل الولايات المتحدة الأميركية ومن ثم التأكيد على عقدها بعد أن تجاوبت بيونغ يانغ مع بعض المطالب الأميركية.
عدا التخوف من الانزلاق في حرب واسعة، فإن هناك عوامل دفعت بكل من كوريا الشمالية والولايات المتحدة الأميركية للموافقة على فتح مسار تفاوضي يقود في النهاية إلى مطلب تحقيق الاستقرار والسلام في شبه الجزيرة الكورية.
من الصعب استبعاد حجم الإعياء والعقوبات القاسية التي أنهكت كوريا الشمالية واقتصادها، وأيضاً لا يمكن الهروب من سؤال التهديد الذي يمكن أن تشكله بيونغ يانغ بصواريخها الباليستية لواشنطن ومصالحها في شبه الجزيرة الكورية.
هذه العوامل دفعت بالطرفين إلى تقديم تنازلات أوصلتهما في نهاية المطاف إلى عقد قمة في سنغافورة، ذلك أن كوريا الشمالية أبدت استعدادها للتخلي عن سلاحها النووي مقابل التأكد من ضمانات أمنية أميركية تحفظ أمنها وسيادتها.
القمة بالتأكيد لا تعني نهاية الأزمة في شبه الجزيرة الكورية، بل هي مجرد بداية لمفاوضات طويلة وشاقة يدركها الطرفين الأميركي والكوري الشمالي، إذ علّق الأول على أن الشيطان يكمن في التفاصيل، وخرج تصريح مهم عن وزير الخارجية الأميركي مايك بومبيو قال فيه إنه يلزم لنزع الجزء الأكبر من السلاح النووي لبيونغ يانغ قرابة العامين ونصف العام.

البيان المشترك الذي وقعه ترامب الأميركي وجيم أون الكوري الشمالي، أكد مسألة إقامة علاقات جديدة بين البلدين نحو بناء سلام دائم ومستقر في شبه الجزيرة الكورية، وعلى أن يسبقه العمل على إخلاء شبه الجزيرة الكورية من الأسلحة النووية.
وكبادرة حسن نية أعلن الرئيس الأميركي تجميد المناورات العسكرية مع كوريا الجنوبية، غير أن نجاح قمة سنغافورة مرهون بتوفر الإرادة الجمعية لتحقيق السلام المنشود في شبه الجزيرة الكورية، بتوافق دولي يشمل الأطراف الدولية الفاعلة مثل روسيا والصين واليابان وكوريا الجنوبية.
يلفت الانتباه أن أي علاقة ودية جديدة تنشأ بين بيونغ يانغ وواشنطن لن تكون على حساب علاقة الأولى بموسكو وبكين اللتين شجعتا القمة وشهدتا عليها ورحبتا بنتائجها، وهي علاقة شراكة استراتيجية هدفها إعادة ضبط التوازنات الدولية سواء في مربع شبه الجزيرة الكورية أو أي نطاق جيوسياسي آخر.
قمة سنغافورة هي علامة فارقة مرتبطة بتاريخ البلدين وعقلية إدارة التصريحات النارية التي سبقت انعقاد القمة، وفي نهاية المطاف إما أن تنجح هذه القمة ويأخذ كل طرف حقه منها، أو أن تفشل وتعود الأمور إلى نقطة الصفر ومرحلة عدم اليقين.

استعمال المضامين بموجب بند 27 أ لقانون الحقوق الأدبية لسنة 2007، يرجى ارسال رسالة الى:
[email protected]