هناك رغبة حقيقية، مبررة جدًا، لأن يكون رد الفعل على قانون القومية أكثرة حدة ومواجهة. عدا عن الجوانب القانونية لقانون القومية بصفته تشريعًا دستوريًا يتيح التمييز ويشرعنه، فإن أهم ما في القانون هو رغبته في الإهانة وامتهان الكرامة العربية الفلسطينية. هدف القانون هو محاولة الإذلال وفرض الدونية على شعب بأكمله، لأن القانون يوضح من هو سيد البلاد ويبقي للفلسطينيين مكانة المهاجر الضيف.
إن الشعور بالإهانة هو أمر هام في الأخلاق وفي السياسة أيضًا، لأنه مؤهل لتوليد الغضب، والغضب هو أمر هام في السياسة وفي الأخلاق أيضًا، لأنه محركها الأساسي، ولولا الغضب لما تحرك أي شيء في عالم السياسة.
وعليه، يبدو مطلب الاستقالة من الكنيست، كرد فعل على الصفعة المدوية التي تلقيناها مفهومًا ومبررًا أيضًا. إلا أنني شخصيًا غير متحمس لهذا الخيار. صحيح جدًا أن هناك شيء فاتر وبطيء في رد الفعل على القانون حتى الآن، لكني لا اعتقد أن الخروج من الكنيست هو الرد الأمثل. الغضب هو بداية السياسة، لكنه ليس نهايتها.
يعتقد البعض أن من شأن هذه الاستقالة أن تعري إسرائيل أمام العالم وتكشف زيف ادعائها حول الديمقراطية. أنا غير مقتنع بهذا المنطق.
أولاً، لأن العالم يتفرج منذ 50 عامًا على الاحتلال الإسرائيلي في المناطق المحتلة والتي حرم مواطنوها من أية حقوق سياسية. هذا الاحتلال الذي جرت إدانته عشرات المرات دوليًا وحقوقيًا بما في ذلك بقرارات من مجلس الأمن، ولا يبدو أن تعرية إسرائيل تقدم أو تؤخر في أي شيء على الإطلاق. دور السياسي هو لعب دور سياسي وتغيير موازين القوى وتحسين شروط التفاوض، ودوره، ليس كدور المعلق أو الصحفي الذي يرغب أن يستقيل أعضاء الكنيست كي تسهل عليه مهمة تعرية إسرائيل والكشف عن زيف ديمقراطيتها. المطلوب من المثقف أن يفضح الوضع القانوني وهشاشة ديمقراطية إسرائيل كما هي ، لا أن يسيء الوضع كي تسهل عليه مهمة الشرح والتعرية !!.

ثانيًا، هناك الكثيرون الذين يعتقدون انه كلما زادت الأمور سوءًا كلما اقتربت إمكانية الحل (وبتعبير مجازي عممه الشيوعيون فإن الساعات الحالكة تسبق الفجر). هؤلاء يعتقدون أن التاريخ يسير دائمًا وأبدًا –في المحصلة النهائية- إلى الأمام، وإنه خطوة واحدة إلى الوراء ضرورية للتقدم خطوتان إلى الأمام (على حد تعبير لينين). إلا أن هذا التوجه ينسى أحيانًا أن الأمور قد لا تسير إلى الأمام وأنه بعد السيء قد يأتي ما هو أسوأ، وأن خطوة إلى الوراء قد تليها خطوتان إلى الوراء أيضًا.. وليس خطوتان إلى الأمام. في كل حالة عينية يجب الإشارة لماذا يعتقد البعض أن خطوة للوراء تقود إلى خطوتين للأمام. أي نوع من النشاطات والأعمال والاحتجاجات السياسية يمنعها التمثيل في الكنيست؟ وأي نوع من الأعمال والممارسات سوف تكون ممكنة إذا خرجنا من الكنيست؟ تقديري المتواضع هو أن الخروج من الكنيست لن يأتي بسياسة من نوع جديد، إنما انتهاء العمل السياسي. هذا هو تقديري وقد أكون مخطئًا.
ثالثًا، السياسة تقوم على توسيع إمكانات التحرك والعمل والتأثير وتنوع الأدوات، لا إلى اختزالها وحصرها. الاستقالة من دون شك سوف تستدعي الانتباه لفترة معينة، لكن الاهتمام بعد ذلك سوف يخبو. من يتنازل طوعًا عن حق معطى له، حتى وإن كان منقوصًا، لن يجد الكثيرين الذين يتضامنون معه لأجل حقوق أخرى.
صحيح أن الخيال السياسي الذي يقود العمل البرلماني الحالي قد جف منذ فترة – وأصبح يعيد نفسه دون أن يكون قادرا على توسيع رقعة التناقضات والتوترات داخل المشروع الصهيوني والكنيست الإسرائيلي. لكني لا أعتقد بأن الخروج الجماعي هو الحل.
من المفضل البقاء دائمًا في حالة إبهام على "حافة" الكنيست، بطريقة تمكن الدخول والخروج من الكنيست، وبذلك توسع هامش المعنى السياسي، ومعنى الوجود في الكنيست أصلاً، وبهذا السياق فيما يلي بعض الاقتراحات العينية حتى لا أتهم بالتنظير :
أولاً: الحديث بالعربية في الكنيست.
ثانيًا: لباس موحد لأعضاء الكنيست العرب، قمصان سوداء يكتب عليها –نرفض الاستعلاء اليهودي- وبالتالي في كل مرة تبث قناة الكنيست من الهيئة العامة تشكل هذه القمصان تذكيرًا مستمرًا للرفض الفلسطيني لمشروع الأبارتهايد.
ثالثًا: الوقوف على المنصة مع غطاء محكم على الفم من دون الكلام، كي يجري توصيل رسالة إلى العالم بأننا رسميًا في الكنيست، لكن فعليًا، لا صوت لنا.
رابعًا: عند إجراء القسم لأعضاء الكنيست الجدد، يجري تكرار نص الولاء لقوانين الدولة، وإضافة جملة إضافية: "ما دامت قوانين الدولة تتماشى مع القانون الدولي". ولتثر زوبعة حول الموضوع، ولتتهمنا إسرائيل بأننا نصر على مبادئ حقوق الإنسان والقانون الدولي.
طبعًا هذه مجرد اقتراحات ويمكن إضافة عشرات الاقتراحات الأخرى. المشترك لجميعها، هو حقيقة كونها متواضعة جدًا، لكنها قابلة للتكرار، جماعية، مستمرة، وبتراكمها تشكل حالة مزاجية. من ناحية أخرى ليس من السهل قمعها لأنها تلعب طول الوقت على أطراف الملعب وتربك الحكم.
رابعًا، إن موقفي من الكنيست، وحق التصويت وحق التمثيل هو موقف مشتق من تصور مستقبلي معين لطبيعة الحل الوسط التاريخي مع اليهود في فلسطين، يقوم على مبدأين؛ الأول فكرة ثنائية القومية والتي تقول أنه على الرغم من كون الصهيونية مارست استيطانا استعماريا إلا أنه في نفس الوقت ولد مشروع قومي على أرض فلسطين، وبالتالي فإن أي حل سوف ينطلق من مقولة ثنائية القومية. أما المبدأ الثاني فهو يقوم على فكرة أن مصير الشعبين أصبح مرتبطًا بعضهما ببعض لدرجة لا فكاك فيها وبغض النظر عن حل الدولة أو حل الدولتين، سوف يكون هناك ضرورة للتواصل والتنسيق. هذا يعني أنه لا أفق خارج المواطنة، أي خارج مفهوم المواطنة كمفهوم، باعتبارها الإطار الأوسع والأشمل الذي في إطاره تحل مشاكل الشعبين. طبعًا هذا لا يعني القبول بقوانين المواطنة الإسرائيلية كما هي، إنما السعي الدائم إلى توسيعها وتغييرها، بشكل تراكمي، لكن استراتيجي في نفس الوقت.
فإذا كان الحديث عن دولة واحدة، سوف تكون حاجة للفصل داخل الدولة في أمور الثقافة واللغة والمسكن أيضًا، وإذا كان الحديث عن دولتين سيكون حاجة لترتيبات تجمع الدولتين في إطار تنسيق يتعلق بالمياه، الأمن، العملة، البيئة، الإجرام وغيرها. من لا يقبل هذه المقدمة لن يقبل الادعاء الذي سأسوقه فيما يلي.
الإدعاء يقوم على ضرورة توسيع منسوب ومستوى الحقوق والتمثيل الذي يحظى به الفلسطينيون في إسرائيل، وإذا أمكن توسيع هذه الحقوق وتوسيع حيز المواطنة يشمل الفلسطينيين في الضفة والقطاع. المشروع السياسي يجب أن يقوم على توسيع رقعة المواطنة لا على انكماشها، تعزيز معانيها لا إفقارها، وتوسيع تعريف من هم داخل المواطنة وليس تقليل عددهم، وعليه يخطئ من يعتقد أنه من المفروض تحويل حال الناصرة على حال جنين من حيث الحقوق السياسية، إنما المطلوب تحويل جنين إلى حال الناصرة. صحيح، الناصرة ليست آية في المساواة، ولا يحظى أهلها بموقع سياسي وحقوق سياسية إنسانية، لكنني لا أرى من الحكمة أن يتوحد الفلسطينيين على أرضية الاحتلال بدل أن يتوحدوا على أرضية المواطنة.
طبعًا، هناك من يعتقد أنه يجب الخروج من الكنيست من أجل العودة إليها وقد تغير طابعها، ويدعو إلى الخروج من المواطنة حتى يعود إلى مواطنة شاملة ومتساوية. الخلاف بيني وبين هؤلاء هو أنهم يعتقدون أنه يجب الرجوع إلى الوراء أولاً، قبل التقدم إلى الأمام. أنا لست شريكًا في هذا المنطق والذي يشعر أصحابه بالحرج من حقيقة كونهم أصحاب بعض الحقوق ويسرعون إلى التخلي عنها كي يعاودوا النضال من أجلها هي. بهذا المعنى فأنا لست ثوريًا في السياسة، كما أني لست إصلاحيًا.
خامسًا، وهو قد يكون الأهم؛ الفلسطينيون في إسرائيل هم المجموعة الفلسطينية الوحيدة التي تستطيع أن تمارس، وتمارس فعلاً، حق انتخاب قيادة لها. أعضاء الكنيست من المشتركة هم القيادة الفلسطينية المنتخبة الوحيدة. صحيح طبعًا أن هذا التمثيل هو تحت سقف الكنيست الإسرائيلي طبعًا وتحت شروطه، وصحيح أيضًا أن ممارسة حق الاقتراع هو ممارسة لحق إسرائيلي يشرعه القانون الإسرائيلي أساسًا، لكن رغم هذا وذاك، فهناك عملية تمثيل وحراك سياسي انتخابي يستطيع أن يفرز ممثلين سياسيين منتخبين من قبل شعبهم. لا يوجد أي مشروع وطني بدون الجانب التمثيلي. كما أن الشعوب تختار ممثليها كي تقود الحركات الوطنية فإنه في نفس الوقت، فإن القيادات الوطنية التمثيلية هي التي تصنع شعوبها. الشعوب ليست كتل بشرية فقط إنما هي خطاب، وخيال، ومشروع وفكرة. كل من يتأمل الحالة الفلسطينية وصعوبة صناعة التمثيل وتعثره في معظم أماكن التجمعات الفلسطينية يدرك أهمية هذا التمثيل، وضرورة عدم التفريط به.

استعمال المضامين بموجب بند 27 أ لقانون الحقوق الأدبية لسنة 2007، يرجى ارسال رسالة الى:
[email protected]