"وصلت إلى البحر وكانت تمطر، لكن حبي وشغفي للطبيعة دفعاني رغم المطر أنّ أصل إلى حافة البحر في محاولةٍ لعناقة"، لعل هذه الجملة التي تصف كم المشاعر التي يحملها الأسير سمير السرساوي، 50 عامًا، لثمن حريته بعد أنّ اطلق سراحه مؤخرًا بعد 30 عامًا في الأسر الإسرائيلي.

في موقع "بكرا" كان لنا لقاء مع السرساوي، والذي اعتقل بتاريخ 24.11.1988، حيث تطرق إلى محاور كثيرة ومحطات متنوعة من حياته نقلته من ابطن، القرية الصغيرة التي لا يتعدا سكانها الـ 2000 نسمة، إلى العالم ولاحقًا السجن ليعود مرة أخرى إلى ابطن مشترطًا رفع العلم الفلسطيني.

*ابن الـ 15 عامًا*

يبدأ سمير السرساوي، والذي انهى تعليمه في السجن للقب الأول والثاني بالتطرق إلى صغره، حيث قال لـ "بكرا" أنّه لم يحب المدرسة كثيرًا وفضل الطبيعة عليها، ليهرب بتفاوت منها إلى السهل أو الجبل محاولا ايجاد اجوبة عن مأسي تلاحقه شخصيًا، وتلاحق شعبنا الفلسطيني انكشف لها عبر شاشات التلفاز.

ويوضح السرساوي حديثه قائلا: ولدت في ابطن، وهي قرية صغيرة بالقرب من الناصرة، سكانها لا يتعدون اليوم الـ 2000 نسمة، لكن ما يميزها أنها لا زالت تعيش اثار النكبة، فكل منّا بالبلدة له أقرباء في العالم العربي، او خارج البلاد، والذين اضطروا إلى النزوحِ قسرًا بعد نكبة الـ 48.

ويضيف لـ "بكرا": كان من المفترض أن تكون طفولتي عادية، كأي شاب، يكبر في عائلة ويقوم لاحقًا بالانضمام إلى سوق العمل أو إلى مقاعد التعليم، لكن بجيل معيّن عرفت أنّ مسار حياتي لن يكون أي من السابقيّن، وهذا ما عرفته بجيل الـ 15 عامًا عندما قمت بالتوجه إلى أحد المدارس الإسرائيلية القريبة وخط عبارات على جدرانها كنوع من الانتقام لما حدث في مجزرة "صبرا وشتيلا"، في حينها لم افكر اذا ما كانت خطوتي صحيحة أم لا، هل هي عقلانيّة اصلا أم لا؟ ما حركني هو دافع واحد فقط، التعبير عن الذات وسط كم المآسي والدماء التي شاهدتها عبر التلفاز.

وعن الحادثة يكمل السرساوي ويقول: حتى تداعيات هذه الخطوة، والتي كانت فعلا خطيرة، لم تقلقني، فقد دخل الجيش إلى بلدتنا في صباح اليوم التالي واعتقل قرابة الـ 80 شخصًا، انا كنت بينهم، وأصدقاء لي، لكن الرهبة التي اصابت أهل البلدة لم تقلقني بقدر فرحي بهذا الإنجاز، وان كانت مجرد خط عبارات عنصرية إلا انها نوع من الانتقام، اعي أنّ هذا تفكير طفولي إلا أنّ هذا التفكير رسم لاحقًا ملامح مسار حياتي.

*إلى مصر واليونان*

وعن المسار اللاحق قال السرساوي لـ "بكرا": في جيل الـ 19 عامًا سافرت إلى مصر، وهذه أول مرة اسافر فيها إلى خارج البلاد، قمت بهذه الخطوة بعد أن تواصلت مع عدة جهات فلسطينية، حيث وصلت إلى القاهرة وتلقيت تدريبًا عسكريًا، وبعد فترة عدت إلى بلدي ابطن وشكلنا خلية سويةً مع عدد من النشطاء في البلدة.

وأوضح أهداف تشكيل الخلية قائلا: الهدف من تشكيل الخلية كان واحد ووحيد، وهو رفض الاحتلال، رفض جرائم الاحتلال، محاولة تسجيل موقف، محاولة اسماع صوت، عمليًا في جيل الـ 19 عامًا بت على قناعة أن مجرد خط عبارات عنصرية على جدران مدرسة إسرائيلية لا يكفي، وان هنالك حاجة إلى اسماع موقف أقوى، علًّ هذا الصوت يقوم بإنصاف شعبنا الفلسطيني، وباعتقادي أنّ لا خلاف حول هذا الهدف أو نقاش، قد يكون نقاشًا حول الآليات والتنفيذ إلا أننا كشعب فلسطيني على اجماعٍ بضرورة دحر الاحتلال وإحقاق الحق.

وأكمل في السياق قائلا: الخلية التي تشكلت كانت جميعها من سكان ابطن، يجمعهم هم واحد، هوية فلسطينية، وقد نفذنا عدة عمليات. خلال هذه الفترة التي امتدت من جيل الـ 19 عامًا إلى الـ 25 عامًا، سافرت إلى اليونان عدة مرات، وهناك كنت على تواصلِ مع جهات فلسطينية وقمت بحتلنتها في العمليات التي نفذناها. اذكر أنه خلال سفراتي إلى اليونان تم استدعائي للتحقيق مرارًا في الشاباك، فلم يكن مفهومًا ضمنًا أن يقوم شاب بالتوجه إلى خارج البلاد، وإلى نفس الجهة عدة مرات.

*الاعتقال والتعذيب*

واسهب السرساوي متحدثا عن الاعتقال وقال: بتاريخ 24.11.1988 وعند عودتي من اليونان تم اعتقالي من قبل اجهزة الشاباك، لاحقًا عرفت أنّ معلومات وصلتهم اكدت لهم ضلوعي في عدة عمليات، وما اكد شكوكي هذه أنّ الأسئلة التي كان يقوم بها المحققون لم تبدأ بـ "هل انت ناشط في خلية معيّنة؟"، انما "اي العمليات قمت بتنفيذها؟"، مما يعني أنّ المعلومات كانت مؤكدة لهم مع غياب بعض التفاصيل.

وعن فترة التحقيق قال السرساوي: كانت اصعب فترة في حياتي، إلا أنني كنت مؤمنًا، والإيمان ليس فقط بالله، انما بعدالة القضية، بعدالة ما اقدمت عليه، التحقيقات لم يرافقها اي نوع من الندم وهذا ما عزز من قوتي واصراري على مواجهة كل الممارسات التي كانت بحقي اثناء التحقيق.

وأضاف: التعذيب في التحقيق تنوع من جسدي إلى نفسي، ولعل اليوم بعد 30 عامًا، اقولها وبوضوح التعذيب الجسدي، سواءً بالضرب المبرح، في كل منطقة بالجسم، او الخنق بالمياه من خلال ربط كيس من "الخيش" على وجهي وادخالي الى حمام، مرة مع مياه بادرة وأخرى مع مياه حارة، او ربطي بالكرسي ووضع خلفي مكيف وامامي مدفئة، واساليب أخرى من الصعب ذكرها، كانت أهون الوسائل امام التعذيب النفسي، فبعد مرحلة معينة يبدا الجسم بتكييف نفسه لكل هذه الأوضاع، والأوجاع وان وجدت طوال الوقت إلا أنك لا تشعر بها.

ويكمل في السياق: التعذيب النفسي، وهذا ليس من فراغ، يأتي بعد التعذيب الجسدي، وهو همُّ لا يمكن احتماله، خاصةً عندما لا يتعلق بك نفسك انما يطال بقية الأسرة.

ويوضح مشيرًا: عند عودتي إلى البلاد من اليونان تم اعتقال خواتي معي، وتم التحقيق معهّن، وفعلا هن لسن على دراية بما كنت اقوم به، لكن بعد سلسلة من التعذيب الجسدي، دخل إلي الغرفة 3 محققون، وبدأوا بالتهديد بالتعرض إلى خواتي، تهديد يرافقه تصوير للمشهد، سواءً كلاميًا او بالحركات، ولا أظن أنّ في مثل هذه الحالة هنالك شخص يستطيع المقاومة، من جهة انت لا تقدر على القيام برد فعل لأنك مقيّد ومن جهة أخرى أن تعيش المشهد الذي يتم وصفه، وهذا كسرني ونقلني إلى المحاكمات.

*مؤبد، حياة جديدة، ونضال جديد*

ويكمل السرساوي عن حياة السجون قائلا: السجن مدرسة، انت لا تتوقف فيها عن التعلم والتأمل، عن دراسة الحياة واستخلاص العبر، لربما كنت تعيش في غرفة محددة إلا أنّ عالم من الخيارات قد تجده امامك، قد تقرر أنّ تكون هذا الأسير الذي يصلي يوميًا لنيل الحرية، وبذلك تعد الأيام والليالي منتظرًا انتهاء المدة، وقد تكون الأسير الذي استوعب أنه في منطقة الحياة الأبدية وقرر التعايش معها، مواجهتها.

ويضيف: انا فضلت الخيار الثاني، ايماني بعدالة قضيتي وصحة موقفي دفعني إلى تبني طرق نضال أخرى، فبداية قررت التعلم، وطبعا مصلحة السجون منعتني من ذلك، وفقط بعد صراع، داخل السجن وقضائي، بدأت بالتعلم، كنت ادرس في الليل والنهار، في الصيف والشتاء، وكأي شاب ينتظر انهاء تعليمه ليندمج بالحياة الاجتماعية، كنت أدرس ملتفحًا ببطانيّة، لم افكر لوهلة أنني باقٍ في السجن لمدة طويلة ولربما من الأجدر أن انام وارتاح ولاحقًا أكمل تعليمي اسوة بالمثل العربي "اللي عند أهله ع مهله"!

ويشير: بعد عدة سنوات، ومن كتاب إلى آخر، انهيت اللقب الأول في العلوم السياسيّة، من الجامعة المفتوحة، لأكمل مشواري نحو اللقب الثاني. هذا الإصرار، وهذا الإنجاز، دفع العديد من الأسرى ايضًا إلى البحث عن التعلم، فكنت اساعد في السجن بقية الرفاق وكما ساعدتهم في نضالهم للحصول على حق التعليم.

*فلسفة حياة*

ويكمل السرساوي حديثه إلى "بكرا" ويقول: التعلم والتعليم لم يكن النضال الوحيد الذي خضناه في السجون الإسرائيلية، هنالك عدة نضالات قمنا بها والتي تلاها اضرابات عن الطعام، وللحقيقة لم اشعر للحظة بأي ندم، على العكس، طوال فترة السجن كان هنالك تحديات يجب أن تتعامل معها، وانا قررت التعامل معها بإيجابيّة، لطالما نظرت إلى النصف المليء من الكأس، إلى الشمس ما خلف القضبان، وإلى كل ضوء حتى لو كان باهتًا وكانه نور ساطع!

ويشير: في السجن انت لا تقوم فقط بالمحافظة على ثبات وصحة موقفك، برايي هذا ليس العمل البطوليّ، هذا تحصيل حاصل لكل شخص يرغب بالحفاظ على هويته الفلسطينية، انما انت تعمل على تهذيب نفسك، وهذا هو فعلا العمل البطوليّ، انّ تصل إلى مرحلة انت تتحكم بنفسيتك، بكل تقلباتها، بكل رغباتها، بكل طلباتها.

*إلى ابطن مجددًا*

عن عودته إلى ابطن قال السرساوي: تركت ابطن مع ناس طيبين وعدت إليها لأجد أن ناسها لا زالوا طيبون، هذه البساطة التي تعزز موقفك اكثر، أنّ هذا الشعب يستحق التضحية من أجله، لم اتوقع بداية هذا الاستقبال، لكن مشاركة أهل البلدة، من مسنات إلى اطفال إلى شباب، حتى من شباب يعمل في مدن بعيدة خصص وقت لاستقبالي، كما وحضور العلم الفلسطيني، اثلجت الصدر بشكل كبير جدًا، وأكثر من هذا، أكدت لي أنه مهما كان هنالك تحولات سياسيّة مرت على شبابنا وأطفالنا، وكلنا نعرف عن مساعي التدجين ودمج الشباب في الأطر العسكرية وغيرها، إلا أنّ جوهر هذا المجتمع لا زال فيه.

واختتم ملخصًا: احياني يقلقني إلى درجة الغضب نظرة بعض من سكان البلدة، فهنالك من ينظر إلي بشفقة، "حرام 30 سنة بالسجن". لهم اقول، لم اشعر لأي لحظة في حياتي على أنّ هذا المسار الذي اخترته كان من الممكن أن يكون افضل، انا شاب رغب بالتغيير، رفض املاءات الواقع الذي فرضه الاحتلال، احيانًا ندفع ثمن اختياراتنا، لربما تكون صحيحة او على خطأ، لكننا لا ندفع ثمن موقفنا، فهو بوصلتنا.

استعمال المضامين بموجب بند 27 أ لقانون الحقوق الأدبية لسنة 2007، يرجى ارسال رسالة الى:
[email protected]