عشرات الجامعات والمعاهد العليا، آلاف المنظمات الأهلية، ممثلو القطاع الخاص، أعداد مهولة من الخريجين... حراكهم بائس على الصُعد السياسية والاقتصادية والاجتماعية والحكم الرشيد، إن وجد مثل هذا الحراك أصلاً!!
في زمن التغيّرات العميقة والانقلاب السياسيّ والحزبيّ وتغوّل الاحتلال ودمج السلطات الثلاث بسلطة واحدة، كان من المفترض أن نسمع صوتاً ولو خافتاً من النخبة التي تُعد بالآلاف، لكنها كانت في غيبوبة مستمرة منذ اليوم الأول لاتفاق أوسلو.
عودةً إلى سبعينيات وثمانينيات القرن الماضي، كانت النخبة قائدةً فعليةً، الجامعات بمثابة المحرك الأول للنضال الوطني، أساتذة الجامعات في غالبيتهم مسيّسون، قادة القطاع الأهلي يتقدمون الصفوف والفعاليات النضالية، ممثلو النقابات المهنية والعمالية إما داخلون إلى معتقلات الاحتلال أو خارجون منها، مناظرات سياسية، خلافات في وجهات النظر باحترام، واتفاق على أساس واحد وهو أن التناقض الرئيس بلا نقاش هو مع الاحتلال.
سلطات الاحتلال كانت واعيةً بخطورة النخبة الفلسطينية، فعملت بكل قوة للحد من تأثيرها، سواء بالإبعاد عن أرض الوطن، أو الاعتقال طويل الأمد، أو الاغتيال، ومن بينها محاولة اغتيال رؤساء بلديات رام الله والبيرة ونابلس في حينه، أو خلق كيانات سياسية واجتماعية موازية تحت مسميات عدة، وصولاً إلى استغلال الدين لضرب النخبة الفلسطينية الصاعدة.
في الانتفاضة الأولى، ظهر تأثير النخبة بشكل واضح سواء من خلال القيادة الوطنية الموحدة، أو القيادات المناطقية، حتى الأسرى الذين اعتقلوا وهم شبه أميين، أصبحت غرف الزنازين جامعات تعليمية وتثقيفية، دخلها أسرى صغار أو كبار لا يعرفون القراءة والكتابة، وخرجوا وهم يحملون الشهادات أو على الأقل يحللون ويناقشون ويدعمون آراءهم، باختصار النخبة كانت فاعلةً وقادرةً على التعبير والتغيير وقائدةً جماهيريةً.
مع توقيع اتفاق أوسلو، بدا الأمر وكأن تغييراً سلبياً وقع لهذه النخبة، فالغالبية العظمى منها نزلت عن الجبل لجمع الغنائم.
جزء من هذه النخب اشترته السلطة التنفيذية على شكل وظائف بدرجات متقدمة وامتيازات كثيرة، فأصبح تابعاً لها، صامتاً عن كل سلبياتها، وكأنه لا يرى ولا يسمع ولا يتكلم، وبالتالي انتهى دور النخبة الحقيقي.
أما الجزء الآخر الذي كان يمثله اليسار الفلسطيني، فاشتُري بأموال المانحين على شكل جمعيات ومؤسسات أهلية تحت مسميات مُثيرة منها الديمقراطية وحقوق المرأة والطفل والمساواة وغير ذلك، ومع ذلك لم يكن لفعل غالبيتها من اسمها نصيب.
خلال عقدين ونصف صُفيت فعالية هذه النخب، بحيث أصبحت منتهية الصلاحية، حتى لو قرر البعض ولو على خجل العودة إلى الأضواء، فإن فعاليته لا قيمة جماهيرية أو شعبية لها.
في الاجتياح الإسرائيلي للضفة في العام 2002 او ما اطقت عليه سلطات الاحتلال «السور الواقي» صمتت هذه النخب، وفي انتفاضة الأقصى، كان الصمم سيد الموقف، ولم تكن حتى قادرةً على انتقاد السلبيات والفوضى التي غلبت على المشهد الفلسطيني بشكل عام. حتى جاءت هزة الانتخابات التشريعية في العام 2006 وما تلاها من انقسام مزّق قلب القضية الفلسطينية، ولكن ثبت بالوجه القاطع أن النخبة أضعف من الحراك الجدّي.
تغول الاحتلال والاستيطان، وجاء الربيع العربي، وانهار النظام الأبوي التقليدي، وزحف العرب نحو التطبيع، والنخب لا نسمع من غالبيتها العظمى سوى الصمت، إلاّ قلةً لا تزيد على عدد أصابع اليد، وعلى قاعدة مقولة «الحيط، الحيط»..
اليوم نحن أمام تحدّ آخر، هو الانتخابات، التي هي مطلب منذ سنوات طويلة، انتخابات لا يرغب كثير من أصحاب المصالح في إجرائها لولا كثير من الضغوط الخارجية والتغيير الجذري في الخارطة الدولية والسياسية تجاه القضية الفلسطينية... انتخابات يريدها أصحاب المصالح أن تكون طريقاً باتجاه واحد هو تجديد الشرعيات المفقودة لقيادات كثيرة في الضفة وقطاع غزة.
والسؤال: أين النخبة الفلسطينية من هذه الانتخابات؟ وأين تأثيرها الجماهيري وحراكها؟ أين قدرتها على إحداث التغيير والمشاركة الفعلية؟ أين نقاشاتها وتحليلاتها وتوجهاتها؟ أين دورها المهم؟ أم أن جل اهتمامها الانتظار حتى تدرج على هذه القائمة الانتخابية أو تلك؟!
أمامنا فرصة قد لا تتكرر إلا بعد «عمر طويل» يجب استغلالها. يجب على النخب التماهي مع الشارع والجمهور، يجب ألا تترك الساحة لأحزاب وقوى أصبحت كغثاء السيل كثيرة ومنتفخة دون أثر، كل ما تستند إليه هو تاريخ ليس جميعه أبيض.
النخبة مطالبة اليوم بإعادة صياغة حقيقية وواقعية لدورها وأهميتها، لأنه في السنوات التي تخلت عن هذا الدور صعد المدعون والثوريون المزيفون وأشباه المثقفين وأصحاب المصالح فهوينا في نفقنا المظلم.
هي فرصة، إما استغلالها أو إقامة شاهد على قبر النخبة يكتب عليه «توفيت بداء الصمت والخوف واللهث وراء المصالح والمال القذر».
 

استعمال المضامين بموجب بند 27 أ لقانون الحقوق الأدبية لسنة 2007، يرجى ارسال رسالة الى:
[email protected]