منذ ان وضحت الصورة باقتراب انتخابات جديدة وبدأ الحديث عن تقسيمات حزبية جديدة في مجتمعنا العربي برزت ظاهرة لربما كانت اقل رواجًا في السنوات الأخيرة في حين انها هذه المرة أصبحت وكأنها ظاهرة طبيعية تأخذ شرعيتها من مبدأ حرية وجهات النظر وعدم تقبل الفكر الاخر دون التعمق في هذا الثابت او المبدأ وهي ظاهرة التخوين والتكفير لا سيما في ظل الاختلاف والتنوع الفكري ولمبدأي لدى الأحزاب السياسية العربية المتنافسة مع اختلاف الآراء ووجهات النظر ما قاد الى تضعضع في القاعدة الاجتماعية وعمق الانقسام الوحدوي والسياسي وسمح لاحزاب صهيونية بان تتغلغل وتحتل المجتمع العربي الفلسطيني في الداخل حتى فتح المجال امام الهجوم على قيادات جميعها ظواهر لم نلمسها سابقا وربما ساهمت مواقع التواصل الاجتماعي بشرعنتها واخراجها الى النور بهذه الصورة المتطرفة لتشكل نوعا جديدا من العنف السياسي يلقي ظلاله على مجتمعنا.

أخصائيون اجتماعيون يتباينون بآرائهم المتعلقة بهذه الظاهرة فمنهم من يرى انها ساهمت وسببت الانقسام والشرذمة اذ برزت بين مركبات المشتركة من خلال كوادرها لا سميا وان القيادات غذت هذا الفكر ومنهم من رأى بأن القيادات الضعيفة هي من ساهمت وفتحت المجال امام هذه الظواهر الخبيثة.

شعب لا يتقبل الرأي الاخر

د. جودت عيد كاتب ومحاضر في العلوم الاجتماعية عقب بدوره قائلا ل "بكرا": لقد اثبتت الحالة المجتمعية التي نعيشها بأننا شعب لا يتقبل الرأي الاخر الذي يختلف عنا. وبالتالي الرد لكل من يخرج عن بديهيات مجتمعية عصبية او قبلية او فئوية فيجب محاربته ورفضه ولكن لا يوجد ذريعة متينة فلا يبقى غير التخوين والاتهام بالعمالة والاسرلة والصهينة هي الاداة الوحيدة للتهجم وللحط من قدر من يختلف عنا بالراي. مع هذا فان الحالة هلامية لان كل موضوع الاندماج او عدمه صارت وجهة نظر لتخدم الحالة الانية في حين كان هناك تحفظ من الانضمام والعمل مع احزاب يهودية واعتبر غير مقبول اليوم نجد تبريرات وتفسيرات تشرع ذلك. ومن هنا نرى الأحزاب العبرية اليوم أصبحت تسعى الى تجنيد أي شخصية تراها مناسبة والاخيرة مستعدة للانخراط في صفوفها ولا يتم تخوينها حتى وان كان تاريخ ذاك الحزب حافلا في اضطهاد وقهر البيت الفلسطيني في اسرائيل. ما يحصل اليوم ظاهرة وكأن الامر يقلب على المجتمع نفسه وأصبح وكأنه شرعيا انضمام شخصيات و"قيادات" الى أحزاب صهيونية، ونرى التهافت على الوظيفة اكبر من العمل القيادي او الايديولوجي الذي انتهى في طيات المصلحة الشخصية اولا او المصلحة المتوخاة من الانضمام لحزب قوي وله تأثير. لذلك قد يكون عدة اسباب منها تغييب التعددية من خلال تركيبة حزبية تجمع تضاد وبالتالي قهر المنتخب الذي لا يجد تمثيلا له. من البداية كانت احدى أخطار تشكيل المشتركة هي تحويلنا الى حالة فئوية نتبع الحزب الواحد مما يزيد من اقصائنا او التعامل معنا بحذر وعدم صدق في النوايا.

مع انعدام وجود قيادة وفكر بديل وفي ظل الغياب والوهن السياسي نلجأ الى الأحزاب اليهودية ومنها العنصرية

وتابع د. عيد: المشتركة ساهمت في السكتروليالية بحيث وكأنه يتوجب على كل فلسطيني في الداخل ان ينتخب المشتركة، مما ادى الى تفاقم الاحباط فيما بعد بسبب التوقعات الوهمية من قائمة غير ثابتة وغير قوية بتركيبتها القيادية الميدانية. في هذه الانتخابات التحول الذي حصل وبحث الكثيرين عن احزاب يهودية هو بسبب غياب القيادة وضعف أحزاب المشتركة وضعف الروابط الموجودة في الأحزاب والتراخي التي اوصلتنا الى الحالة القبلية التي نعاني منها بشكل دائم والحالة المجتمعية التي تذهب الى التعصب والتعنت والفئوية. مما اضفى صبغة غير جدية للعمل البرلماني ما حدا الى الاعتقاد ان كل شخص يمكنه ان ينضم الى دائرة العمل في الكنيست ويكون موظفا منتخبا دون توفر اي بعد او تجربة او عمق قيادي. بالتالي هذا التدني يسهم في ان تصبح مسألة التخوين والتجريح في الاخر أسهل لأنه لا وزن حقيقي او قيمة للعمل البرلماني في ظل فشل الاحزاب العربية بالذات وعدم اثبات قدرة او حضور لافت او "كاريزماتي" يقف سدا امام اي محاولة تخوين او ذم او قهر. لان الجميع يرى انه يناسب البدلة وبالتالي من الناحية الاجتماعية لم تعد هناك قيمة للقيادة، فالكل يستطيع الوصول الى الكنيست من خلال حزبه دون عمل ميداني او صفات قيادية او قاعدة متينة للعمل السياسي. على القائد ان يتحلى بصفات ومعايير معينة ولا نجد للأسف من يتحلى بهذه الصفات حاليا، وكلما انتقدنا قياداتنا ايضا نتهم بالصهينة وباننا نجيد جلد الذات. مع انعدام وجود قيادة وفكر بديل وفي ظل الغياب والوهن السياسي التراكمي خلال العقد الاخير نجد ان الاحزاب اليهودية وحتى العنصرية منها التي لم تستقبل عربا تفتح ابوابها امام شخصيات عربية تناسبها او جرى العمل على تحضيرها منذ سنوات لتدخل المعترك السياسي وفق اجندة حزبية ليست بالضرورة تخدمنا كأقلية او ترتقي بالتمثيل الاجتماعي الذي يتماشى مع روايتنا وفكرنا ومطالبنا.

أسباب فشل العمل الميداني القيادي

وأوضح قائلا: ازدياد قوة اليمين والتعصب ضد الاقليات والاحتراب الداخلي للأحزاب العربية وضعف اليسار وانعدام تمثيل عربي في اليسار والتعامل الفوقي والرافض لدى بعض الاحزاب والتخوين الازلي كأداة محاكمة كلها تصب في فشل العمل الميداني القيادي وفشل التمثيل او التأثير لصالح هذه الاقلية المهملة ونجد ان المشاكل بتفاقم، العنف بتفاقم، الجهل، مشاكل المسكن، شح الميزانيات، ثغرات التعليم وغيرها من القضايا العالقة. كل هذا نتاج سيرورة عدة سنوات اوصلنا الى فراغ قيادي وفكري واحباط سياسي مجتمعي ايضا كأقلية فلسطينية مهملة، وأيضا كجزء من التركيبة العامة في إسرائيل. لا يوجد طروحات جديدة ولا شخصيات مقنعة تكسب ثقة الناخب وبالتالي صار الانتخاب هو حالة فردية وفق اعتبارات ليست بالضرورة موضوعية او سياسية ولذلك نعود مرة اخرى الى التخوين فالشخص الذي يرشح نفسه او الحزب لا يحصل على شرعية مجتمعية لذلك أصبح التخوين أسهل. ووصلنا الى درجات التراشق والدونية لأننا مجتمع يعاني من مشكلة من ناحية التعامل مع بعضنا البعض والاحترام وأصبح الشارع اكثر تطرفا وعدائية يعتمد ويمارس التراشق وعدم الموضوعية دون التردد في البحث عن المصلحة الشخصية والاستعداد لتغيير المواقف وفق المصلحة الفردية دون الاخذ بعين الاعتبار اي بعد ايديولوجي فكري او سياسي ميداني يخرجنا من دائرة الاهمال والاجحاف الممنهج ويخدم مصلحتنا كأقلية وطن اصلانية لها تميزها وخصوصيتها وروايتها وثقافتها.

لعبة التخوين خطيرة على الأمم تشجع على الفرقة وعلى الاحتراب الداخلي

د. نهاد علي- رئيس قسم المجتمع العربي في مؤسسة شموئيل نئمان ورئيس قسم التعددية الحضارية في أكاديمية الجليل الغربي وجامعة حيفا رأى ان ظاهرة التكفير والتخوين ليست بجديدة على السياسة العالمية وليست حصرا على السياسة المحلية حيث استعملت شر استعمال منذ الحملات الصليبية على الشرق وقد اجاد الوصف الفيلسوف ابن خلدون عندما قال الصراعات السياسية لا بد لها من نزعة قبلية او دينية لكي يحفز قادتها اتباعهم على القتال والموت فيتخيلون انهم يموتون لأجلها" طبعا لا اقصد هنا الموت بمعناه الحرفي بل المقصود اخراج الاخر من دائرة الشرعية وقتله اجتماعيا.

وتابع: في السنوات الأخيرة ظاهرة التخوين كانت حاضرة في الانتخابات الرئاسية الامريكية وقد اجاد استعمالها الرئيس السابق دونالد ترامب عندما خون كل من خالفه او عارضه الرأي وقد استعمل نتنياهو نفس الوسيلة عندما همس في اذن احد رجال الدين السياسيين "لقد نسوا كيف يمكن ان تكون يهوديا" في إشارة واضحة بان كل من ليس يمين فهو خائن. هذا الواقع ليس غريبا على واقعنا السياسي العربي والفلسطيني من تخوين وتكفير بين فتح وحماس بالأساس وباقي الفصائل وداخل الفصائل.

وقال: اما في حيزنا الخاص فقد دلينا بدلونا ونسعى من اجل شطب الاخر وافقاده الشرعية الوطنية او الدينية ونلاحظ في الأيام الأخيرة ارتفاعا بهذا الشأن بعد تفكك القائمة المشتركة ظهور أحزاب جديدة واختراق مجتمعنا الفلسطيني من قبل الأحزاب الصهيونية اعتقد ان ظاهرة التخوين هي جزء من لعبة العنف حيث يحاول كل طرف فرض اجندته على الاخر ويحاول ارغامه على تقبل قواعد اللعبة التي يفرضها القوي او من نصب نفسه كوصي على التعريفات وبيده السلطة للتخوين والتكفير كما يحلو له.

وأضاف د. علي: لعبة التخوين خطيرة على الأمم حيث تشجع على الفرقة وعلى الاحتراب الداخلي وعلى اتخاذ العدائية كأيديولوجيا تؤثر الى حد بعيد على الأقليات القومية المستضعفة والمظلومة كحال الأقلية الفلسطينية في الداخل، فحذار من هذه اللعبة المقيتة لان اسقاطاتها خطيرة جدا علينا لا سيما في ظل استمرار غليان وشراسة العنف والعواصف الاجتماعية الثقافية السياسية التي تعصف بنا.

ودعا قائلا: دعونا نأخذ التسامح منهجا وتقبل الاخر طريقا والايمان بقدسية الوطن والدين محرابا، لا مكان بيننا للمخونين ولا المكفرين ولا من جعلوا السياسة عقيدة ودين، التكفير والتخوين خطان احمران لذلك دعونا ندير معركة انتخابية شريفة شفافة بعيدة عن الفرقة والتفريق هدفها الصالح العام لمجتمعنا.

استعمال المضامين بموجب بند 27 أ لقانون الحقوق الأدبية لسنة 2007، يرجى ارسال رسالة الى:
[email protected]