لا يُخفى عصام سلطي مشاعره حين يتحدث عن حجم الفاجعة التي تعرضت لها عائلته بمقتل ابنه عاصم، ويرفض ترديد عبارة "رصاصة طائشة" بقوله أن الرصاصة لا يمكن أن تكون طائشة، بل مُطلقها هو الطائش والمجرم، والمجتمع الذي يحتضنه هو الطائش والمجرم.

عاصم سلطي، مهندس مدني شاب، تزوج حديثًا من غيد أبو راس، قبل شهور قليلة، في شهر أيار تحديدًا، يوم 22 أيار اذا أردنا أن نحدد أكثر، وما زالت زينة حفل زفافه معلقة على منزل والده ومنزله في الناصرة، في حي الجليل الحديث، حيث يسكنون. فالوالد رجل أعمال معروف، بسبب عدم توفر الأراضي المناسبة للبناء، اشترى قطعة أرض وبنى بيتًا في حي الجليل بالناصرة، على بعد كيلومترات قليلة من بلدته عيلوط. تخرج عاصم قبل 4 أعوام من الجامعة الأهلية في العاصمة الأردنية عمان، ومن وقتها وهو يعمل مع والده، يدير شركته وبالإضافة إلى ذلك، ينشط في التطوع، وفي تعليم وتدريب الدبكة وفي العمل الاجتماعي، وعلى علاقة وطيدة جدًا بعائلته، بأخواته الخمس وبوالده ووالدته وبكل أفراد العائلة. مهندس وعريس جديد في مقتبل الحياة الزوجية، من عائلة مسالمة وناجحة وطيبة. زوجته غيد فنانة (فن تشكيلي) وأكاديمية بموضوع العلوم السلوكية والفن، تحمل الجنسية الأمريكية، كون والدها تعلم وعمل في الولايات المتحدة وولدت هناك، وكانت تخطط مع زوجها لمشروع جديد في أمريكا قريبًا.


كل شيء حتى الآن يبدو مثاليًا، حتى مساء يوم السبت قبل 3 أسابيع، 9.10.2021، فبعدما تناول عاصم وجبة العشاء لدى عائلة زوجته في عيلوط، وأثناء جلوسهم في ساحة المنزل، بدأ صوت الرصاص يدوي، وهو أمر اعتاد عليه أهل عيلوط منذ سنوات، وعندما أرادوا الدخول خوفًا من رصاصة طائشة، صرخ عاصم ممسكًا قدمه، وقال بأنه أصيب في قدمه، وتبيّن لاحقًا أن الحديث يدور عن رصاصة يبلغ طولها نحو 7 سم، اخترق أسفل سرته، وأصابت شريانًا رئيسًا أدى إلى وفاته. لتنقلب الحياة رأسنا على عقب، وليتحول البيت الذي كانت تملأه السعادة والفرح إلى بيت يسيطر على الحزن والفقدان، ولتعلّق صورة عاصم على مدخل المنزل وعليها عبارة "لن ننساك"، بجانب الزينة التي ما زالت معلقة على جدران المنزل منذ حفل زفافه قبل شهور.

راقبته وهو يكبر، وازداد فخري به كل يوم 
يقول الوالد عصام سلطي: "آخر ما توقعته، بكل صدق، أن أفقد ابني عاصم بهذه الطريقة، كل شيء ممكن في هذه الدنيا توقعته، توقعت المرض، حوادث الطرق، كل شيء، لكن القتل، وبهذه الطريقة؟ ابني انا؟ عاصم الذي يشهد كل الناس بأخلاقه، عاصم كان أكثر من ابن بالنسبة لي، كان أخي وصديقي وزميلي، أدار كل أعمالي في السنوات الأخيرة وأصبح سندي وظهري. كنت أرى أبناء جيله يتنافسون ويتفاخرون بسياراتهم، وعاصم يترك السيارات الحديثة في الموقف أمام البيت ويخرج ليؤدي أعماله بأقدم سيارة، دون أي اهتمام للمظاهر. وكنت أراه كيف يكبر ويصبح محور العائلة بأكملها، ولا أتحدث عن عائلتي المصغرة، بل عن أعمامه وأخواله والجميع، كل شخص يقع في مشكلة، تجده يتوجه إلى عاصم، كل شخص يريد أن يقوم بأي خطوة، تجده يستشير عاصم، كنت أراقبه ويزداد فخري به كل يوم، وأقول أن كل ما وصلت إليه في حياتي في كفة، وانجازنا بعاصم في كفة أخرى، معظم ساعات اليوم كنا سويًا، إما في مكتبنا أو في المنزل، وحتى الآن أجد صعوبة في دخول المكتب ورؤية أغراضه، وأجد صعوبة في التحدث لوالدته ولزوجته ولأخواته، حتى الآن لم استوعب ما حصل معنا، وكيف انقلبت حياتنا رأسًا على عقب بهذه الصورة وبهذه السرعة، كأننا في كابوس نتمنى بأن ينتهي.

وعن ليلة وفاة عاصم، يقول الوالد الثاكل : "في تلك الليلة، وبعدما تواجدنا في المنزل، أبلغني عاصم أنه يريد وزوجته الذهاب لتناول طعام العشاء عند عائلة زوجته في عيلوط، مساء عادي مثل أي مساء، إلى أن تلقيت اتصالًا يفيد بأن عاصم أصيب برصاصة، وأن حالته متوسطة ولا تستدعي الخوف، ركبت سيارتي وهرعت باتجاه عيلوط، إلى أن وصلني اتصال آخر بأنهم يتوجهون إلى مستشفى الناصرة الإنجليزي، لحقت بهم، ووصلت معهم تقريبًا، أدخلوا عاصم إلى غرفة الإنعاش والعمليات، وبعد نحو ساعة ونصف الساعة، وقد كانت كل العائلة تتواجد في المستشفى، استدعاني الطبيب إلى غرفته، وأبلغني بوفاة عاصم، توقعت أن يقول لي أن حالته تفاقمت، أو أنه يحتاج لوجبة دم مثلًا، أو أنهم يريدون نقله إلى مستشفى آخر، لكن أن يبلغني بوفاته كان الأمر الوحيد الذي لم أتوقعه، ابني انا يموت؟ بهذا الشكل؟ احتاج الأمر لأكثر من نصف ساعة حتى استطعت استيعاب هذا الخبر، وخرجت لاستدعاء والدته وأخبرتها، قبل أن نخبر العائلة بأكملها، وأفضل أن لا أتحدث عن تلك اللحظة أكثر من ذلك، فمجرّد تذكرها يعيدني إلى كل التفاصيل الصعبة".

هل كان بالإمكان انقاذ عاصم؟ على هذا السؤال، كانت إجابات الوالد كثيرة: "صحيح أن الاعمار بيد الله والموت قدر مكتوب على الناس، لكن مثلًا عندما يصل المصاب إلى المستشفى قبل وصول دورية الإسعاف، رغم أنه تم الاتصال فورًا بنجمة داوود الحمراء، وعندما تتواجد الشرطة 24 ساعة في عيلوط، ورغم ذلك لا تمنع اطلاق النار، رغم أنها تعرف أن في كل بيت تقريبًا في عيلوط يوجد قطعة سلاح أو أكثر، وعندما تعرف الشرطة عن الخلاف الموجود بين عائلتين في عيلوط منذ سنوات، يطلقون النار على بعضهم البعض منذ سنوات، ولا تفعل أي شيء، بل أن عناصرها يأكلون ويشربون وربما ينامون في عيلوط، هذا كلّه يجيب على السؤال حول انقاذ عاصم، هل تريد أن تقنعني أن الشرطة بقواتها ومخابراتها وعملائها لا تعرف مطلق النار في عيلوط ولا تعرف من الذين يملكون أسلحة بهذا الحجم؟".


وتابع الوالد: " قبل أيام تحدث معي وزير الأمن الداخلي، عومر بارليف، ووعدني بأنه سيتابع القضية وسيصل إلى الجناة قريبًا، والنائب أيمن عودة زارنا أكثر من مرة وعبر عن اهتمامه الصادق بالأمر، وهنالك بعض السياسيين أيضًا الذين زارونا، ولكن المعظم لم يهتموا كما يجب، ونحن نتحدث عن جريمة يجب أن تهز مجتمع بأكمله، دولة بأكملها، ليس لأنه ابني، فلكل الناس أولاد أعزاء عليهم، بل لأن عاصم، شخص بريء، أبعد انسان ممكن عن عالم الجريمة والعنف، وتعرض للقتل، وأقول، إذا كان شخص مثل عاصم ضحية للقتل، فإن كل شخص في مجتمعنا هو مشروع قتيل، ليس فقط من يتورط في عالم الاجرام، وليس فقط من ينتمي لعائلة متورطة في خلاف، بل كل شخص، من أصغر طفل إلى أكبر مسن، ومن أصغر طفلة إلى أكبر مسنة، بلا أي استثناء، وهذا الوضع لم نصل إلى فجأة أو عن طريق الصدفة، فهنالك مسببات وأرقام، عندما يتم اعتقال الجناة في 30% وربما أقل من جرائم القتل في المجتمع العربي، هذا يعني أن أغلبية القتلة لا يعاقبون، ويتجولون بيننا، وهذا يعني تلاشي الرادع، وأي مجتمع في العالم، اتركه بلا رادع وسلطة قانون، سيتحول إلى غابة، وهذا تمامًا ما يحصل عندنا، فوضى سلاح بلا حدود، إطلاق نار يومي، جرائم قتل بالعشرات والمئات، أبرياء يُقتلون، وكأنها ساحة حرب، ولكن على الأقل في الحرب يجهّز المرء نفسيته للموت ولكل سيناريو".


عن حق ابنه يقول الوالد أنه لن يتنازل، ويضيف: "لا أعرف كيف سأكمل حياتي الآن، بكل صدق لا اعرف، كل مخططاتي كأنها أحرقت، ولكن الأمر الذي لن أتنازل عنه، وسأسعى بكل ما أوتيت كيف أحققه، هو حق عاصم، أن ينال المجرم عقابه، وأن يتم وضع حد لهذا الاجرام المتفشي في مجتمعنا، هذا هو حق عاصم، الذي أحب مجتمعه وانتمى إليه وأحب الناس، كل الناس، وكان خدومًا ومتواضعًا ومتضامنًا مع كل من يحتاج التضامن، لم يستحق ابني مثل هذه النهاية".


"ربيته بدموع عيوني" تقول والدة عاصم، لبنى عودة سلطي: "كان ابنًا مثاليًا، في دراسته وفي اخلاقه وفي تديّنه وفي كل شيء، حرصنا على أن نربيه أفضل تربية، ورأينا النتائج بأعيننا، إلى أن جاءت تلك اللحظة المشؤومة وقلبت حياتنا، ما زالت زينة حفل زفافه معلقة على منزلنا، في تلك الليلة، تمسكنا بالأمل حتى آخر لحظة، وقالوا لنا طوال الوقت أن الإصابة متوسطة ولا شيء خطير، إلى أن طلبوا دخولي إلى الغرفة، وقتها أحسست أنني قد فقدت ابني، فدخلت إلى الغرفة ووجدت زوجي يخبرني بالفاجعة، نعم، فاجعتنا كبيرة، كبيرة جدا، ولا شيء يوازيها، ولا أتمناها لأحد، وأقول لكل أم تعرف أن ابنها يحمل السلاح، أن تفعل كل شيء لتمنعه، فإن لم يعد إليها مقتولًا، قد يعود قاتلًا، فإذا كان عاصم البريء الطيب المسالم، عاد مقتولًا، فمن هو المحصّن ومن هو المحمي؟ ولكننا لن نسكت عن حق ابننا، وسنسعى لأن يعاقب القاتل".

لعاصم خمس شقيقات، كان مقربًا منهن بشكل استثنائي، تقول شقيقته الكبرى، سالي: "بشكل لا يصدق كان عاصم يفهم ما أريد قوله قبل أن أقول، كان لنا أكثر من أخ، حياتنا كلها تمحورت حوله، وكنا نتفاخر به بين الناس، وما زلنا نتفاخر به الآن في مماته، فهو شهيد بعيوننا، وهو باق في قلوبنا وأذهاننا، ولن نتنازل عن حقه، وسنسعى لأن يكون ما حصل مع عاصم، هو منعرج في حياة مجتمعنا، لنضع حدًا لهذه الجرائم".

الاتصال الأخير
مهند سلطي، ابن عم عاصم وصديقه يقول: "الاتصال الأخير كان عندما اتصل عاصم بابن عمنا وقال له أنه تعرض لإطلاق نار، قبلها بيوم سهرنا معًا حتى الصباح، كما نسهر في كل يوم جمعة، ولم نعرف انها الجمعة الأخيرة، نحن لا نتحدث عن شخص عادي، فقد كان استثنائيًا، بتحمل المسؤولية وبأخلاقه وبصفاته القيادية، وفقدانه هو آخر ما توقعناه، وقد ترك بصمة كبيرة ومكانًا لا يمكن تعويضه، نأمل بأن تغيير مجتمعنا للأفضل، يبدأ الآن، من جريمة مقتل عاصم، لأننا ولأجل ذكراه ولأجل حقه، لن نتوقف عن العمل ليصبح هذا المجتمع أفضل وأكثر أمانًا".

رسالة إلى السفير الأمريكي
زوجة عاصم سلطي، أو عروسه، أو أرملته وفق الواقع المؤلم الجديد، غيد أبو راس، وهي تحمل الجنسية الأمريكية، أرسلت إلى السفير الأمريكي في إسرائيل ثوماس نيدس رسالة مؤثرة، طالبته بالتدخل لمنع الجريمة القادمة، وبالتأثير على السلطات الإسرائيلية للحد من ظاهرة انتشار السلاح غير المرخص المسرّب بالأساس من معسكرات الجيش الإسرائيلي، وفي رسالتها التي عنونتها بـ"رسالة من أرملة"، قالت غيد أيضًا: " لقد فقدت أغلى ما أملك، شريك حياتي، الذي كنت أخطط معه لزيارة قريبة إلى الولايات المتحدة، وحياتي لم يعد لها معنى بعد هذا الفقدان، أخشى أن يغلق ملف مقتل زوجي في الشرطة كما يحصل مع الكثير من ملفات الجرائم الأخرى.

في كل بيت في عيلوط هنالك قطعة سلاح
يقول رئيس المجلس المحلي في عيلوط، إبراهيم أبو راس: "تقريبًا في كل بيت في عيلوط يوجد قطعة سلاح، ونحن نطالب الشرطة أن تقوم بعملها، وقت الشجار كانت الشرطة متواجدة في القرية، بدأت في ذلك المساء مناوشات بين عائلتين، وحاولت تهدئة الأمور بينهما واتصلت بالشرطة أيضًا، وكانت متواجدة عند اطلاق النار، وعاصم، هذا الشاب الأديب والمحترم، هو من عيلوط لكن يعيش مع والده في الناصرة ويعملون بنشاط وعلى علاقة طيبة بكل الناس، كان في زيارة لعيلوط، كأن تقول أن شخصًا من تل أبيب أو من أي بلد كان في زيارة لعيلوط، وأصابته هذه الرصاصة التي أطلقت عن بعد مئات الأمتار، نريد من الشرطة أن تجد الجناة، وأعمل معها على ذلك، حتى لو كان الجاني ابني، يجب أن يعاقب، فالذي حصل لا يمكن السكوت عنه، ربما لا تنتشر عصابات الخاوة والجريمة المنظمة في عيلوط، لكن الخلافات العائلية مع فوضى السلاح، تجعل الواقع أكثر خطورة ومرارة، وزير الأمن الداخلي عومر بار ليف زار بلدنا في الأيام الأخيرة، وعبر عن نواياه الصادقة بمحاربة العنف، وحقيقة أنه أفضل ممن سبقوه وهذا بدا واضحًا، لكننا لا نتأمل كثيرًا من المنظومة للأسف حتى لو كانت نوايا الوزير صادقة".

 

عائلة عاصم ومجموعات ناشطة نظموا وقفة احتجاجية في الناصرة، يوم الجمعة الماضية، تحت عنوان "صرخة عاصم ضد الصمت"، وشارك فيها المئات، وبينهم أعضاء كنيست ومسؤولين، وهي جزء من سلسلة نشاطات ستقوم بها العائلة اكرامًا لذكرى ابنها، ولمحاولة وضع حد لجرائم القتل التي لا تتوقف في المجتمع العربي.

في مثل هذه الأيام، قبل عام، كان عدد القتلى في المجتمع العربي، قرابة الـ70، واجتاز الـ100 مع نهاية العام، هذا العام، أصبح الرقم 100 من خلفنا، وأكثر ما يؤسف بالأمر، أننا صرنا نتحدث عن القتلى كأرقام، علمًا بأن لكل قتيل قصة وعائلة وأحلام أحرقت وأحبة، بشكل القتلى الأبرياء، مثل عاصم سلطي.
 

استعمال المضامين بموجب بند 27 أ لقانون الحقوق الأدبية لسنة 2007، يرجى ارسال رسالة الى:
[email protected]