بقلم: نهاد أبو غوش

فُجع فلسطينيو المناطق المحتلة عام 1948، في 8 يونيو/حزيران الحالي، بالجريمة المروّعة التي نفذتها عصابات الإجرام المنظّم في قرية يافة الناصرة قرب مدينة الناصرة عاصمة الجليل، وراح ضحيّتها خمسة مواطنين بينهم أطفال، ليصل عدد ضحايا هذه الجرائم المتواصلة في صفوف فلسطينيي الداخل إلى أكثر من مئة قتيل، قبل أن ينتصف العام 2023. أخرجت الجريمة الدوائر الحكومية الصهيونية عن صمتها المعهود، لتتذكّر بعد طول تجاهل وإهمال مسؤوليتها الرسمية تجاه استفحال هذه الظاهرة، فرئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو، خرج بتصريح مُسجّل ادّعى فيه أن حكومته مصمّمة على وقف سلسلة جرائم القتل، ليس فقط بتعزيز دور الشرطة، ولكن أيضًا بمساعدة جهاز المخابرات الداخلية المعروف بـ"الشاباك".

وكان نتنياهو يردّ بذلك على اتهامات منتشرة بأن حكومته لا تفعل شيئًا للحدّ من هذه الجريمة، بل إن يد "الشاباك الطويلة" مسؤولة إلى درجةٍ كبيرةٍ عن نشوء هذه الظاهرة وتفاقمها. تتّهم القيادات والمؤسسات العربية في الداخل، السلطات الصهيونية الحاكمة بكامل المسؤولية عن ارتفاع معدلات الجريمة في الوسط العربي الفلسطيني، وقد نظّمت هذه الهيئات، وأبرزها لجنة المتابعة العليا التي تضمّ جميع التشكيلات والقوى الفاعلة في صفوف فلسطينيي الداخل، فعاليات احتجاجية عديدة، ومن خلالها حمّلت الجهات الرسمية كامل المسؤولية، بسبب تقاعس الشرطة وتغاضيها عن جرائم القتل وعصابات الإجرام، ولمعرفة الجميع أن السلاح المستخدَم في هذه الجرائم يتسرّب من مخازن الجيش الإسرائيلي، (وبالتالي، تتبعه ومعرفة أماكن وجوده أمر يسير مع انتشار المجسّات الإلكترونية المستخدمة في تتبع الهواتف الخليوية والمركبات)، أو بسبب ضلوع الشرطة المباشر كما اعترف بذلك المراقب العام لجهاز الشرطة، يعقوب شبتاي، في جلسة تقييم مهنية عقدتها قيادة الشرطة في يونيو/حزيران 2021، وكان الغرض من ذلك التقييم حينئذ فحص مدى خطورة انتشار السلاح في أوساط العرب في (إسرائيل)، خشية انتقال هذه الأسلحة إلى أيدي منظّمات المقاومة. كان السر الذي كشفه شبتاي معروفًا للقاصي والداني، إذ أقرّ في تلك الجلسة التي نقلت وقائعها القناة 12 العبرية بأن معظم المسؤولين عن الجرائم الخطيرة في الوسط العربي هم من العملاء المتعاونين مع جهاز الشاباك، وأن أيدي الشرطة مكبّلة في التعامل مع هؤلاء، لأنهم يتمتعون بنوعٍ من الحصانة.

وقد اعترف عضو كنيست يميني، يُدعى ألموغ كوهين، في تصريحاتٍ بثتها، أخيرًا، قنواتٌ عبرية، أن السلطات الأمنية الإسرائيلية تتغاضى عن جرائم حيازة (وتوزيع) المخدّرات التي يقوم بها بعض المجرمين، في حال قبولهم بالتجسّس على المواطنين العرب وتقديم معلومات أمنية لـ"الشاباك". سيطر تنامي ظاهرة الجريمة على اهتمامات الناس ووسائل الإعلام والنخب والأحزاب السياسية العاملة في صفوف العرب، بل استخدمت ذريعة محاربة الجريمة لتبرير انضمام القائمة العربية الموحدة، برئاسة منصور عباس، لما أسميت حكومة التغيير، برئاسة الثلاثي بينيت – لابيد – غانتس، بين يونيو/حزيران 2021 وحتى سبتمبر/أيلول 2022. وبالطبع، لم يتحقّق أي إنجاز ذي معنى في عهد هذه الحكومة، وظلّ مؤشّر جرائم القتل في تصاعدٍ مستمرّ، إذ سجلت 109 جرائم في العام 2022، و111 جريمة في 2021، و100 جريمة في 2020، و93 جريمة في 2019. وهكذا، يمكن أن يؤدّي استمرار الأمور على حالها إلى قفزاتٍ نوعيةٍ أخرى في معدّلات الجريمة. وترى أوساط سياسية وأكاديمية أن (إسرائيل) تسعى إلى تفكيك المجتمع العربي الفلسطيني في الداخل، لإبقائه أسيرًا لتناقضاته الداخلية، ولتسهيل السيطرة عليه، ومنع تطور وعي الفلسطينيين بأنفسهم أقليّة قومية، وخشية تحوّلهم إلى قوة مؤثّرة لصالح شعبهم في معادلة الصراع الفلسطيني الإسرائيلي. تعدّدت الدراسات والأبحاث الأكاديمية المتخصّصة لتتبع مشكلات تنامي الجريمة في المجتمع العربي الفلسطيني في الداخل المحتل عام 1948، والذي فرضت على مواطنيه الجنسية الإسرائيلية.

ويجمع الباحثون على أن واقع التهميش والتمييز السلبي الذي يتعرّض له العرب مسؤولٌ عن تردّي أوضاعهم الاقتصادية والاجتماعية والثقافية، وذلك ما يشكّل بيئة خصبة للجريمة، مع ارتفاع نسب الفقر وتدنّي مستوى الخدمات التعليمية والصحية والاجتماعية. وتفيد دائرة الإحصاءات الإسرائيلية بأن نسبة الفقر في أوساط المواطنين العرب هي ضعف مثيلتها لدى اليهود (35.8% مقابل 17.7%، علمًا أن الأخيرة تتركز لدى الجماعات الدينية المتزمّتة - الحريديم). ويتمثل هذا الواقع المتردّي في غياب (وتراجع) المؤسّسات التي تقدّم الخدمات النشاطية والرياضية والترفيهية للشبيبة، وارتفاع نسب البطالة وكذلك نسب الإعالة، وزيادة المتسرّبين من المدارس، والاكتظاظ السكّاني مع تقليص مساحات الخرائط الهيكلية للبلدات العربية، وغياب أي خطط لبناء بلدات عربية جديدة، باستثناء ما يخطّط لبدو النقب الذي يأتي في سياق العمل على انتزاع أراضيهم.

وعلى عكس شائعات منتشرة وانطباعات كثيرة مضلّلة عن ارتفاع نسبة التعليم في الوسط العربي، أظهر بحث مفصل أجراه مركز أهارون للسياسات الاقتصادية التابع لجامعة آيخمان بمشاركة الباحثة العربية - التركية ماريان تحاوخو، أن 70% من الطلاب العرب لا يستكملون دراستهم الثانوية، وأن 40% منهم لا يعملون ولا يتعلمون. كما أظهرت الدراسة أن 16% فقط من العرب يلتحقون بالتعليم الجامعي، مقابل 50% من اليهود. في مواجهة الاتهامات المتكرّرة من المواطنين العرب وممثليهم للسلطة الإسرائيلية وأجهزتها بالمسؤولية عن الجريمة، ينحصر ردّ الحكومة وأجهزتها في خيارين: الأول ذو طابع عنصري تمييزي، ويقوم على اعتبار الجريمة في صفوف العرب أمرًا طبيعيًا ناشئًا عن ثقافتهم وعاداتهم وتقاليدهم، وكثيرًا ما يردّد ضباط الشرطة والمسؤولون "الأمر لا يعدو أن العرب يقتلون بعضهم بعضًا". ويذهب بعضُهم إلى أعماق التاريخ العربي الجاهلي ليخلص إلى أن ظواهر العنف والقتل، خاصة ما يسمّى القتل على خلفية الشرف والثأر، متأصّلة في عقلية العربي وثقافته الصحراوية البدوية، بل وردت هذه الخلاصة في تقرير لجنة رسمية شكّلها رئيس الحكومة الإسرائيلية نتنياهو عام 2019 برئاسة مدير مكتبه رونين بيرتس، إذ جاء في مقدمة التقرير أن هناك "من يعزو أسباب العنف والجريمة إلى العادات الثقافية للمجتمع العربي، وإلى العُرف والسلوك الاجتماعي الراسخ منذ سنوات طويلة، الذي يفضّل التصرّف بمعزل عن القانون".

يردّ العرب على هذه الادّعاءات بالإحصائيات والأرقام أن معدلات الجريمة في أوساط عرب الداخل أعلى من مثيلاتها لدى مجتمعات عربية قريبة ومشابهة، مثل الضفة الغربية وقطاع غزة والأردن ولبنان، بأكثر من ثلاثة أضعاف، ولم يكن ذلك ليكون لولا السياسات الرسمية التي تكتفي بالتغاضي عن الجريمة، بل تشجّعها. يقوم الخيار الإسرائيلي الثاني على المقاربة الأمنية، أي عبر نشر مزيدٍ من نقاط الشرطة والقيام بعمليات الدهم وحملات المطاردة والتفتيش والاعتقالات الاحترازية، وتعزيز سلطة ضباط الشرطة في اعتقال المشبوهين بدون أوامر قضائية، وتشديد الرقابة الإلكترونية، وتشكيل وحدات للمستعربين، وتكثيف أشكال التجسّس والتنصّت على المواطنين، وتقديم حوافز للوشاة وغير ذلك من وسائل تُجمع الفعاليات العربية على أنها لن تؤدّي إلا إلى مزيد من معاناة المواطنين، ولن تسهم في معالجة مشكلة الجريمة. سبق أن شهدت المدن التي يستوطنها اليهود انتشار ظواهر الجرائم المنظّمة، وحروب الشوارع والتصفيات بين أجنحة العصابات المتصارعة، وقد نجحت حكومة أرييل شارون عام 2005 في القضاء على مراكز هذه الجريمة، عبر حزمة من الإجراءات الشرطية والاجتماعية والقانونية، فكان أن انتقلت مراكز هذه العصابات، ببساطة، من المراكز اليهودية إلى المراكز العربية.

يلخّص النائب السابق وأستاذ القانون يوسف جبارين المسألة بأن موضوع الجريمة لم يكن يومًا على جدول أعمال الحكومات الإسرائيلية، ويقول: "إذا تعرّض يهودي لهجوم من عربي، فلا يستغرق الأمر، في الغالب، سوى ساعات ليتم العثور على المهاجم، بينما في 520 حالة إطلاق نار في أم الفحم (وهي مدينة جبارين وثاني كبريات المدن العربية في الداخل) لم يتم تقديم لوائح اتهام إلا في ست حالات! وسبق للمفكّر العربي عزمي بشارة أن لخص تعاطي (إسرائيل) مع المواطن العربي في كتابه "من يهودية الدولة إلى شارون: دراسة في تناقض الديمقراطية الإسرائيلية" (دار الشروق، القاهرة، 2005) بالقول: إن العلاقة التي تربط (إسرائيل) بالفلسطيني أمنية بحتة، بحيث يكون الانشغال الإسرائيلي بالعربي انشغالًا أمنيًا تحكمه عقيدة أمنية، ترى في العربي خطرًا وتهديدًا دائمًا للدولة ووجودها.

 

استعمال المضامين بموجب بند 27 أ لقانون الحقوق الأدبية لسنة 2007، يرجى ارسال رسالة الى:
[email protected]