أقام نادي حيفا الثقافي مؤخرا أمسية ثقافية مع الشاعر مفلح طبعوني ابن مدينة الناصرة ومجموعته الشعرية الصادرة العام الماضي "عودة جفرا". افتتح الأمسية بالترحيب والتأهيل رئيس النادي، المحامي فؤاد نقارة. أدارت الأمسية وقدمت عن الشاعر ومجموعته بأنيق حرفها، الكاتبة عدلة شداد خشيبون.


وفي مداخلة له، قال د. فيصل طه إن جفرا حاضرة في ذهن وخيال وواقع الشاعر مفلح طبعوني، كما هي حاضرة في بواطن وآفاق شعبه، وما عودة جفرا الا حضورها العميق في كينونة حضوره. جفرا، لا تعرف الغياب، عودتها، حركة دائرية دوُوبة، حاضرة بكليتها، هي كالشمس لا تعرف الخمود والسكينة، غيابها حاضر موجع، وحضورها فَرَح رابض على طرقات العودة. يصرّ الشاعر مفلح رغم الآلام على عودة جفرا الحتمية "جفرا عادت تحمل اوجاع الحب"، انها عودة دامعة، حالمة "جفرا تحلم بالغيم"، جفرا تحمل اعباءها، أعباءنا، تحملنا ونحملها، تحمل حيفا "نحو نخيل الاغوار" و"تحمل يافا نحو الاعماق" وتحمل عكا التي "ما زالت فوق الاسوار تتصارع مع حيتان الظلمات"، جفرا ترافقنا، تلاحقنا نلاحقها، تأخذنا "من جبل المصلوب الى باب العمود". مفلح يعرف جفرا جيّدا "نعرفها كتقاسيم الخد. يودُّ مفلح ان يتمسّك بجفرا خوفا عليها من الافلات عن زمانها ومكانها. انتقى الكلمات التي تتلاءم ورؤيته الفلسفية التفاؤلية المتجذرة في نهج فكره الانساني التقدمي، وهنا تتجلّى لدى الشاعر مفلح الحكمة، المرونة الانسانية اليقظة، والمسؤولية الوطنية، الشاعر يحرّض على النهوض، وعلى الغناء "انهض من عمق الموت لأُغنّي"، يقهر الموت وينطلق حرا من جديد، لينحازَ الى طبقة المسحوقين، صانعي الأمل، "نعرف جفرا من خبز الفقراء، من عرق العمال". جفرا ليست سلبية، بل ناشطة فعّالة، لا تتعدى على أحد، هي "حب ينمو بين النهر وبين البحر"، تعشق وتحب، تقاتل، تبكي، تضحك، تسكن قلبَ الليمون، تتجول وتعود.


ينسج مفلح لوحة مَهيبة لمناديل أمه المطرّزة برموش العين. "يُعانقُ انحناءات ضفائرها". جَدَلَ صدقه، جديتّه بسخريته اللّاذعة، بودّه، ونقده اللاسع الحاضن، لا يُهادن ولا يُهين، يَقِظ، مُلتهب، قَلِق مسؤول، شِعره ممتع، غنيُّ الدلالات، عميقُ المعاني، يأخذك برغبة وسلاسة الى عوالمه الخيالية والواقعية، الى العمق والبساطة، وَيَدَعُكَ تتأمل، تجتهد وتفكّر، هذه هي جفرا، يختلط فيها التبسيطُ بالتركيب، والفرحُ بالحزن، والفناءُ بالوجود، الرحيلُ بالعودة، الأملُ بالأمل والعودةُ بالعودة، ...عودةُ جفرا.


تلاه د. محمّد حمد بمداخلة بعنوان "عودة جفرا بين شعرية التراث وشرعيّة الرؤيا" ابتدأت المداخلة بالإشارة إلى مقالة بروفيسور إبراهيم طه الجفراوية، وجهة الشعر عند مفلح الطبعوني، والتي نشرت في ملحق الاتحاد بتاريخ 30.9.2022.


ثم انتقل د. حمد للحديث عن المستوى الصرفي في العنوان، مشيرا الى المصدرية وتحييدها للفعل عادت الذي تكرّر أربع مرات في المجموعة، وما لتغييب الزمن من موقف، وظهور ذلك بأشكال أخرى مثل إدخال ألـ "الموصوليّة" التي تتعامل مع الفعل كما لو أنه اسم، بالإضافة الى ارتباط صيغة المصدر بحق العودة كقيمة فلسطينية وطنيّة. تلا ذلك حديث عن جفرا الأغنيّة وجفرا المرأة وترميز كليهما بفلسطين.


ثم انتقلت المداخلة للحديث عن "جفرا والجفر- العالم الرئيويّ الغيبة والعودة" فأشار د. حمد الى التشابه بين كتاب الجفر المنسوب للإمام علي بن أبي طالب، والمجموعة عودة جفرا، من حيث العالم الرئيويّ واختصاصه بالمستقبل وبالحلم الفلسطينيّ، والغموض الذي يكتنف المرجعين، وأهميّة الأرقام في الترميز لدلالات كامنة فيهما، فمثلا الرقم 9 عدد القصائد ، مشيرًا الى المرأة الحامل التي توشك على الولادة، في حين هنالك مقطوعات داخل المجموعة لم تحسب ضمن الترقيم التساعيّ، مما يعني الحمل والخصوبة، وهذا يتوافق مع جفرا المرأة التي تمظهرت بتعابير مختلفة تعبّر عن هذا المعنى، مثل استحضار فاطمة لمحمد نفاع، وجفرا لعز الدين المناصرة، وتأنيث اللغة:
حبّات النور، طاقات الأنفاس، ظلمات الأنوار، فضاءات العتبات الصابرات، انطلاق الأغنيات من رفوف الذكريات، وشيوع استخدام الفعل الماضي مع تاء التأنيث للتأكيد على فاعلية الجفرا، أو بدلالة الخصوبة كما في:
تزرع، تحصد، تتلاقح، تتعمشقها أعناق الأنهار، أثداء
لقد تكررت جفرا في قصيدتين فقط: عودة جفرا، وجفرا
في الأولى 21 مرة (عدا العنوان)
وفي الثانية 22 مرة (عدا العنوان)
والرقم 21 يشير الى الشباب والخصوبة بوصفه بداية الربيع، والرقم 22 دليل على جفرا كبرت وهو سنة صدور المجموعة، وربما بفضل العلاقة التراثية مع جفرا عز الدين المناصرة إذ إن القصيدة الثانية مكرسة لهذه العلاقة.
في حين تخلو جميع قصائد الديوان الباقية من اسم جفرا، وهذا يشير الى قصدية واضحة.


ومع الغلاف الخارجي والداخلي وعناوين القصيدتين والمجموع 21+22 يصبح الرقم 49 وهو سنة ولادة الشاعر.
والشاعر طبع مجموعته في دار عنات في رام الله، وعنات إلهة الخصوبة لدى الكنعانيين، فمفهوم الخصوبة واضح من خلال المركبات السابقة.
وتحدث د. حمد عن الميتاشعر كشكل من أشكال الكتابة الواعية لذاتها، من خلال قصيدة شهوة الإبداع، واستحضار شخصيات تتعاطى الكتابة كمحمد نفاع وعز الدين المناصرة، والتناص مع قصيدة جفرا، وحضور اسم الشاعر نفسه داخل المجموعة.


كما أفرد د. حمد حديثًا عن موتيف الزنزانة وتداعياته داخل المجموعة، وأنهى المداخلة بالحديث عن رمزيّة جفرا كمعادل موضوعيّ لفلسطين، وأن الأغنية الشعبيّة جفرا، وجفرا المرأة ليستا بعيدتين عن هذا الرمز، لأن المرأة تمثّل الجغرافيا، وتمثّل الخصوبة، وتمثّل غنائيّة الشاعر وصوته الميتاشعري.


يجدر بالذكر أنه تخلل الأمسية قراءات شعرية ثم كلمة شكر للشاعر مفلح طبعوني، منها
عينا جفرا
مطر، عاصفة، تابوت
يا جفرا
لا املك غير النبوت
والرقص على أنقاض النصر المهزوم
يجرحني في الظهر المشطور
سيف الاهل يخون

وفي الختام قدمت كلمة تحية الفنانة التشكيلية سميرة كنعان امطانس حيث زين معرض لوحاتها الفنية الأمسية.

استعمال المضامين بموجب بند 27 أ لقانون الحقوق الأدبية لسنة 2007، يرجى ارسال رسالة الى:
[email protected]