بينما تقترب حرب أكتوبر الثانية، من إنهاء النصف الأوّل لشهرها الثالث، أو أسبوعها العاشر، ووسط تسريبات متزايدة عن موعد أخير لإنهائها وضعته واشنطن، أو اقترحته على إسرائيل بلغة الدبلوماسيّة والسياسة، يتراوح بين نهاية الشهر الحالي كانون الأوّل ومعه العام الحاليّ 2023، أو الشهر القادم كانون الثاني، تعزّزه تصريحات الرئيس جو بايدن هذا الأسبوع، من أنه لا يتفق مع رئيس الوزراء بنيامين نتنياهو في معظم المواقف، أو الكثير منها ، والأنباء عن قافلة من المسؤولين الرسميّين الأميركيّين سيصلون إسرائيل، خلال الأيام القريبة، وفي مقدمتهم وزير الخارجية أنتوني بلينكن، ورغم عدم اتّضاح الصورة النهائيّة وحتى النتائج النهائيّة، سواء العسكريّة التي ستّتضح بانتهاء الحرب والعمليّات العسكريّة الميدانيّة، وتلك السياسيّة والاقتصاديّة والإنسانيّة التي ستّتضح معالمها تدريجيًّا، وستدوم لعقود طويلة كما يبدو، بات واضحًا أن الإسرائيليّين والفلسطينيّين على حدّ سواء يعيشون اليوم دوّامة من العنف الخطير، تمنع كلًّا منهم حتى إن أراد، من الاعتراف بإنسانيّة الطرف الآخر وفهم معاناته، أو مجرد الالتفات إليها حتى في المستقبل القريب ، وبالتالي لا مكان للحديث طوعًا عن وقف الحرب، أو صياغة أهداف واضحة وعقلانيّة لها، والقصد أهداف يمكن قياس مدى تحقيقها من عدمه، لكن الأمر المهمّ، بل الأهم هو أن إسرائيل التي يؤكّد مراقبون عسكريّون أنها لم تنجح حتى اليوم في تحقيق إنجاز، أو اختراق استراتيجيّ، رغم سلسلة من الإنجازات التكتيكيّة، نجحت وربما أكثر مما توقعت، أمام الولايات المتحدة والدول الأوروبيّة وكذلك بعض الدول العربيّة، في قرن اسم حركة "حماس" باسم حركة "داعش"، ليصبح الاسم "حماس- داعش" ، بكلّ ما يعنيه ذلك من عزف على أوتار الخوف من الإسلام المتطرّف والأصوليّ العنيف الذي يمارس القتل دون رحمة خاصّة ضدّ الأوروبيّين دون اكتراث بحياة مواطنيه وأبناء جلدته ودينه، ما يعيد إلى الطاولة بعد سنتين او ثلاث من الهدوء، قضية الحركات الدينية الإسلامية الأصولية، سواء تلك السنية ومنها "الإخوان المسلمين" في غزة ومصر و"داعش" الذي ما زال يتمركز في مناطق من سيناء وسوريا، حركة "بوكو حرام" في نيجيريا و"الشباب" في الصومال، أو تلك الشيعيّة وخاصّة حركتي" انصار الله" الحوثيّة في اليمن و"حزب الله" في لبنان، خاصّة وأن التجارب التاريخيّة في منطقة الشرق الأوسط ، تؤكّد أن الدين أو الأيديولوجيّات الدينيّة بكلمات أوضح وأكثر تحديدًا، يشكّل محفّزًا أساسيًّا للتشدّد والتطرّف والعنف في نهاية المطاف ، رغم أن هناك من يقول إن ذلك يرتبط بعوامل اجتماعيّة ترتبط بالفقر والجهل، وتدني المستوى التعليميّ والثقافيّ، وهو ادعاء لا يمكن التسليم به خاصّة وأن عددًا من قياديي الحركات الإسلاميّة الأصوليّة هم من الأثرياء ( أسامة بن لادن)والمثقّفين والمتعلّمين والأطباء( أيمن الظواهري) ومحمد مرسي وغيرهم، ما يبرر العودة إلى بحث القضيّة التي أشغلت العالم عامّة وأمريكا والدول الأوروبيّة خاصّة، منذ منتصف سبعينيّات القرن الماضي، منذ تطوّر الحركات الأصوليّة المسلّحة، ومنها حركات المجاهدين ضد التواجد السوفييتيّ في أفغانستان، والتي دعمتها أميركا وأوروبا ودول عربيّة منها السعوديّة، وبعدها "القاعدة" التي حاربتها أميركا بعد الحادي عشر من أيلول عام 2001، و"طالبان" وبعدها "داعش " في العراق ، وتشغل إسرائيل والمنطقة والعالم حاليًّا خاصّة بعد السابع من أكتوبر، وما حدث من فظائع نفّذها مسلحو حركة "حماس " داخل المستوطنات الإسرائيليّة في الجنوب.

حالة إسرائيل هنا خاصّة ومميّزة، فالصدمة الإسرائيليّة في أعقاب السابع من أكتوبر عام 2023، كانت مضاعفة وأكثر من ذلك، لأسباب موضوعيّة كشفتها هجمات "حماس" ، أهمّها زيف التوجّه الذي غرسته الدولة، بحكومتها وخاصّة الحكومات برئاسة بنيامين نتنياهو، وجهازها العسكريّ نتيجة لذلك، من كون حركة "حماس" في القطاع عاملًا يمكن الاعتماد عليه، ليشكّل وزنًا موازيًا للسلطة الفلسطينيّة، أو سلطة تحكم قطاع عزة وتحول دون قيام وطن فلسطينيّ، أو كيان فلسطينيّ واحد سياسيًّا، وإن كان منفصلًا جغرافيًّا، إضافة إلى جيش من المحلّلين والمستشارين الإعلاميّين الذين، ورغم تكرار الجولات والمواجهات العسكريّة بين إسرائيل وقطاع غزة منذ العام 2007، رسَّخوا في عقول الكثيرين خطأً، أن "حماس" هي حركة اجتماعيّة في جوهرها ، أسسها شيخ مسن ومقعد هو احمد ياسين، أراد منها تأسيس إمارة إسلاميّة، لمصلحة مواطنيها ولتحسين أوضاعهم الاقتصاديّة والحياتيّة، وأن السلاح الذي يحمله أفرادها ويستخدمونه بين حين وآخر ضدّ إسرائيل، ما هو إلا وسيلة لتحقيق تلك الغاية، وأن الحركة مستعدة للتنازل عن السلاح إذا تم إيجاد بديل لذلك، خاصّة إذا دار الحديث عن بديل اقتصاديّ.

وباختصار، اعتقدت حكومات نتنياهو المتتالية أنه إذا أعطت القطاع الغذاء والماء والكهرباء والدواء، وإذا ما تم تحسين الوضع الاقتصاديّ فإن "حماس" ستتحوّل من نمر مفترس إلى حمل وديع، بمعنى أن حكومات نتنياهو خاصّة وإسرائيل عامّة، اتّبعت نهج "تمويل" حركة "حماس" وضمان سيولة نقدية مستمرة ومتواصلة عبر قطر وموفدها محمد العمادي، الذي وصل إسرائيل ودخل قطاع غزة، في موعد محدّد وثابت كلّ شهر، وبحوزته حقائب تحوي 30 مليون دولار نقدًا، تمّ توزيعها بواسطة الحركة نفسها على مواطنين غزيّين، دون أن تكبد الحكومات نفسها عناء الاهتمام الكافي ، بالحقائق الواضحة حول استخدام بعض هذه النقود لبناء الأنفاق والتعاظم العسكريّ وصناعة الصواريخ وغيرها، نحو بناء كيان فلسطينيّ منفصل، أو شبه مستقل في القطاع ، يكرِّس حالة الانقسام الفلسطينيّ الذي فشلت مفاوضات المصالحة في رأب صدعه، وربما كان هذا الدعم المالي الشهريّ، سببًا في إفشال هذه المفاوضات، وهو نهج تبنته الهيئات السياسيّة والعسكريّة والاستخباراتيّة في إسرائيل، جعلها تتجاهل تحذيرات المعارضين لهذا النهج وتحذيرات عدد من الضباط والجنود أثناء الخدمة العسكريّة، أو تفسير بعض المجريات العسكريّة والأمنيّة، ومنها كما اتضح التدريب العسكريّ، أو المناورات العسكريّة التي نفذتها "حماس" في الأشهر الأخيرة ، بما يتّفق وهذه التوجهات أو هذا الاعتقاد، أن الحركة لن تتّخذ أيّ خطوة تمنع، أو توقف تدفّق الأموال إليها شهريًّا، حتى أن أسوأ التوقّعات والتقييمات العسكريّة تطرقت إلى محاولة عشرات من مسلّحي النخبة التابعة لحركة "حماس" باجتياز الحدود الإسرائيليّة، حتى اتضحت الحقيقة وهي آلاف من مسلّحي النخبة، داخل المستوطنات والبلدات الإسرائيليّة، وأكثر من 1200 قتيل إسرائيليّ خلال يوم واحد.

فشل التوقّعات الإسرائيليّة من حركة "حماس" والتوجّهات تجاهها، هو أمر ستفحصه لجان التحقيق التي لا بدّ من تشكيلها بعد انتهاء الحرب، والتي ستحدّد هويّة المسؤولين، وستوصي بشكل قاطع بأن يدفعوا مقابل أخطائهم، لكن يمكن اليوم التأكيد، أو الجزم بأن السابع من أكتوبر عام 2023، كشف الهويّة الحقيقيّة لحركة "حماس" بمعنى كونها حركة ثوريّة دينيّة مسلّحة لا يهمّها تحسين وضع أو حال المواطنين، بل إنها وهي التي اعتقدت إسرائيل أنها خائفة وتم ردعها، تبادر ربما عمدًا إلى عمل عسكريّ، كلما اعتقد قادتها أو أشارت المعطيات إلى تحسّنٍ ما طرأ على حياة السكان في قطاع غزة، وتطلق رشقات صاروخيّة باتجاه إسرائيل لتردّ هذه بعمل عسكريّ محدود ، يتم بعده وقف إطلاق النار، أو التوصل إلى هدنة، رغم إن بعض هذه الصواريخ وصل مدينة تل أبيب، وحتى القدس ، أي أن عرابِّي التوجّه سابق الذكر، لم يتراجعوا عن اعتقادهم بأن مواصلة تغذية "حماس" ستعني استمرار هدوئها ، وذلك بهدف واحد هو منع إقامة كيان فلسطينيّ يشمل الضفة الغربيّة وقطاع غزة، ولم يدركوا أن يحيى السنوار وقادة الحركة، يتبنون نهجًا مختلفًا يقول إنه كلما ازدادت حدّة العمل العسكريّ كلما كانت لذلك مساهمة أكبر وأوضح في تعزيز سيطرة "حماس" على قطاع غزة، وربما توسيع ذلك نحو الضفة الغربيّة، في تأكيد على أن "حماس" تختلف عن غيرها من الحركات الأصوليّة التي تدعو إلى الجهاد ضد الغرب والأغيار عالميًّا، فهي تعزّز نهجها الدينيّ الأصوليّ عبر دمج أبعاد قوميّة فلسطينيّة داخله، بمعنى أنها تدعو إلى جهاد ضد إسرائيل والاحتلال فقط، وأنها تدعو إلى مكافحة الاحتلال الإسرائيليّ، وليس إقامة الخلافة الإسلاميّة، أو تحالف القوى والحركات الإسلاميّة ضد الجهات التي تسميها " أعداء الإسلام"، وبالتالي فإن محاولة إسرائيل اليوم قرنها بحركة "داعش" والادّعاء أنها تريد جرّ الشرق الأوسط، ومن ثمّ العالم إلى حالة من عدم الاستقرار بل الوحشيّة والبربريّة، ستصل الدول الأوروبيّة لاحقًا، إذا صمتت هذه الدول، ولم تقف ضد "حماس" ، في محاولة لتجنيد دعم عالميّ وأوروبيّ لمواجهة خطر تصفه إسرائيل بأنه عالميّ، وتحاول إلغاء البعد القوميّ له مقابل تأكيد وتضخيم البعد الدينيّ، وبذلك تريد كسب التأييد العالميّ للردود الإسرائيليّة في قطاع غزة، وتبريره باعتباره دفاعًا تخوضه إسرائيل مضطرة عن القيم الأوروبيّة والحريّة والتعدديّة والديمقراطيّة والتحرّر، عملًا بالقول الشهير لرئيسة الحكومة الإسرائيليّة السابقة غولدا مئير، التي قالت إنه يمكنها أن تسامح الفلسطينيّين على قتلهم أولاد اليهود فهم يكرهون إسرائيل واليهود، لكن لا يمكنها أن تسامح الفلسطينيين على إجبارها على قتل أبنائهم، مضيفة أن السلام مع الفلسطينيّين سوف يتحقّق فقط بعد أن يحب الفلسطينيين أبناءهم أكثر ممّا يكرهون اليهود، أي حين يقدّسون حياتهم أكثر من تقديسهم الرغبة في قتل اليهود والأعداء، وكأنها بذلك تشير إلى أن أفراد الحركات الأصوليّة الدينيّة لا يردعهم الموت، بل ربما يريدونه باعتباره الشهادة الحقيقيّة التي ستضمن لهم الجنة الموعودة، وبالتالي فهذه الحركات الأصوليّة المسلّحة تربّي أعضاءها على وجود خيارين لا ثالث لهما، فإما النصر وإما الشهادة، ما يعني عدم وجود أيّ رادع فكريّ تقليديّ لمسلّحي هذه الحركات أو قادتها ، يمنعهم من تنفيذ أجنداتهم، أو محاولة ذلك على الأقل.

أهداف الحرب، وتحديدًا تلك المعلنة منها تتحدث عن اجتثاث حركة "حماس" وأيديولوجيّتها من أرض قطاع غزة، ومنعها من لعب أي دور سياسيّ أو اجتماعيّ، أو عسكريّ أو سلطويّ، يشكّل عودة إسرائيليّة إلى محاولة تنفيذ ما حاولت دول كثيرة في العالم تنفيذه في دول مختلفة من الشرق الوسط وآسيا، ومنها العراق وأفغانستان وسوريا بشكل جزئيّ وليبيا وغيرها، والذي اتفق على تسميته " كبح التطرّف الدينيّ" وفق المصطلح الإنجليزي deradicalization . والسؤال من هو الذي سيسيطر ؟ السلطة الفلسطينيّة مثلًا، أو دون تحديد من هي الجهة التي ستكون صاحبة السيطرة على قطاع غزة لفترة زمنيّة، أو طوية للغاية حتى تتمكن من اجتثاث وجود يحيى سنوار وأسلحة جنوده ومسلحيه وليس ذلك فقط ، بل محاولة اجتثاث الفكر الدينيّ الأصوليّ، لمنع أيّ احتمال مستقبليّ لعودة "حماس" إلى الحكم، في تكرار للمحاولة الفاشلة التي حاول جورج بوش تنفيذها في العراق، حين حاول غرس الديمقراطيّة هناك بفعل تواجد القوات الأميركيّة والغربيّة على الأراضي العراقيّة، أو عبر إقامة هيئة جديدة فلسطينيّة، أو عربيّة توكل إليها إسرائيل مهمة" إعادة صياغة المواقف في غزة "، أو بكلمات أخرى محاولة إعادة تثقيف المواطنين الغزيّين وفق قيم تريدها إسرائيل، وهنا السؤال هل تولي إسرائيل أهميّة، أو تنظر بجديّة إلى الحركات والفصائل الفلسطينيّة التي تطالب بإقامة دولة فلسطينيّة إلى جانب دولة إسرائيل، وهي الفصائل التي اعتبرتها إسرائيل منذ نحو عقد ونصف، فصائل معادية عملت على إضعافها وتقزيمها، مقابل دعم حركة "حماس" ، أي هل ستعيد إسرائيل النظر في مواقفها وتعترف بحقوق الفلسطينيّين القوميّة، وهي بذلك ستخلق الخيط الفاصل بين "حماس" كمنظمة أو جسم متطرّف وعنيف في نظرها، وبين الفصائل الفلسطينيّة الممثّلة بالسلطة الفلسطينيّة التي تريد حلًا سياسيًّا، بدوافع قوميّة وليست دينيّة؟.

تثبت التجارب التاريخيّة الحديثة والقديمة أنه ليس بالإمكان تنفيذ مشاريع تهدف إلى نزع التطرف من الحركات الدينيّة الأصوليّة، إذا كانت تتم عبر قوى خارجيّة سياسيّة أو عسكريّة، أو إذا كانت بعد حروب يتم حولها استخدام الرواية الدينيّة، أو تأكيد البعد الدينيّ، وربما تختلف فيها ديانة الأطراف المتحاربة، وهذا ما أكّدته محاولات أمريكا خلق نظام جديد في العراق يشكّل نموذجًا يحتذى به في الشرق الأوسط، ويسعى إلى الحريّة والديمقراطيّة، وهو هدف خصّص له الرئيس جورج بوش مبلغ 100 مليون دولار لتسويق قيم الديمقراطيّة في العراق والدول الإسلاميّة المجاورة ، علمًا أن أميركا حاولت تنفيذ ذلك عبر حملة تطهير واعتقالات طالت أعضاء وقادة حزب البعث العراقيّ الذي ترأسه الرئيس العراقيّ السابق صدام حسين، وحاولت إبعادهم عن مراكز التأثير واتّخاذ القرار سواء كان القطاع العام، أو المحاكم أو الجامعات، أو غيره، لكنها محاولات فشلت، لأن أميركا فشلت في إيجاد البديل، وهكذا اضطر العراق لبدء مشواره من نقطة الصفر ، لتنمو الحركات المتطرفة دينيًّا مرة أخرى، حيث وجد تنظيم "القاعدة" في العراق أرضًا خصبة لنشاطه ، عبر حركات إسلاميّة شيعّية تدين بالولاء لإيران، أزاحت المسلمين السنة عن مواقع التأثير والقرار، ليصبح العراق كما هو اليوم، دولة برعاية إيرانيّة، تشنّ المليشيات الشيعيّة فيها هجمات يوميّة على مواقع الجيش الأميركيّ، مع الإشارة إلى أنه تم هذا العام فقط وبعد 20 عامًا من انتهاء آخر بقايا نظام صدام حسين، إدراج موادّ تعليميّة في الجامعات حول فظائع النظام المذكور وضرورة انتهاج الديمقراطيّة، دون أيّ تطرق ولأسباب معروفة إلى الحركات الدينيّة الأصوليّة، فهي في نظر أميركا حركات إرهابيّة، لكنها في نظر العراقيّين مؤيّديها ووفق تعاليم مقتضى الصدر، حركات قوميّة أهدافها مشروعة، بينما نحج الأمر في حالة أخرى هي الحرب العالميّة الثانية، حيث نجحت أميركا ودول الحلفاء في فرض النظام الجديد الذي تريده على اليابان وألمانيا في نهاية الحرب ، ليتحوّل الشعبان الألماني واليابانيّ إلى شعبين يسعيان للسلام ويرفضان الحرب، وليتم تركيز كافّة الجهود الاقتصاديّة والصناعيّة والعلميّة، لأهداف التطوّر والنمو العلميّ والتكنولوجيّ.

مصر هي مثال آخر وأقرب على صعوبة إن لم يكن استحالة اجتثاث الفكر الدينيّ الأصولّي، خاصّة في حالة حركة" الإخوان المسلمين" وحركة "حماس" فرع من فروعها، وهي تدمج بين أكثر من بعد واحد في بنيتها، اجتماعيّ ودينيّ وسياسيّ، فالرئيس المصري عبد الفتاح السيسي، والذي يسيطر على مصر منذ تنحية محمد مرسي عام 2013، يحاول منذ ذلك الحين دعم توجّهات جديدة يسميها" الحوار الدينيّ الجديد"، ويهدف بذلك إلى مواجهة ومحاربة التطرّف الدينيّ، أو التوجّهات الدينيّة الأصوليّة، كما أكّد عام 2019 خلال المؤتمر الوطنيّ للشباب، من أن تفسير بعض الآيات القرآنيّة يتم وفق تفسيرات محافظة لم تتغيّر منذ مئات السنوات، ولا يمكنها أن تجاري العصر والتطوّرات، وما يؤدّي إلى تشجيع هذه التفسيرات لتوجّهات دينيّة متطرّفة تشرعن العنف من منطلقات دينيّة، وأنه يجب إذا ما أريد وضع حدّ لهذا التطرف، صياغة حوار دينّي جديد، يبتعد عن الأصوليّة والتطرف، ويدعو إلى الحوار ويمنح الآيات القرآنيّة تفسيرها الصحيح، ويبعدها عن الاجتهادات المتطرّفة، ولذلك ألزم كافّة الأئمة في المساجد بالحصول على ترخيص من الدولة المصريّة ووزارة الأوقاف تحديدًا، وتوحيد خطبة الجمعة من حيث الرسائل والمواضيع والمضامين، وترخيص كافّة المساجد التي أقيم بعضها في منازل خاصّة، أو أحياء عديدة، وهي خطوات كان من المفروض أو من المتوقع ، أن تمنحه السيطرة على كافّة المساجد في مصر، وعلى مضامين خطبة الجمعة ونشاط وتفسيرات الأئمة ورجال الدين، وهذا إذا ما أضيف إلى سيطرته على جهاز التربية والتعليم، سيضمن له تحقيق ما أراد وفق عنوانه" حوار دينيّ جديد"، ليكتشف رسميًّا، أن النشاطات الهادفة لمنع التطرّف لا تأتي أكلها إذا كانت مدعومة من النظام السياسيّ، أيّ إذا كانت حكوميّة ورسميّة وموجّهة خاصّة من نظام دكتاتوريّ يمارس يوميًّا المسّ بحقوق الإنسان، ويعتبر الجهات الداعية إلى الديمقراطيّة حركات متطرفة وخطيرة، وأنها لا تضمن بأي حال من الأحوال الاعتدال، أو الولاء للدولة، أو اجتثاث التوجهات الأصوليّة وحتى نشاط الجماعات المسلحة الدينيّة، وحركة "حماس" إحداها، خاصّة وأن أي نشاط من هذا القبيل يتم تفسيره من قبل الشارع والناس على أنه محاولة من السلطة للسيطرة على حياة المواطنين، وهو الحال باختلاف بسيط في تركيا التي يشنّ زعيمها رجب طيب أردوغان، حربًا شعواء ضد معارضيه الذين يتهمهم بالإرهاب، ومنهم حزب العمال الكرديّ، وحركة رجل الدين فتح الله غولان، خاصّة بعد محاولة الانقلاب الفاشلة عام 2016، وبالتالي ينضم إلى العراق الذي شنّ حملة تطهير ضد حزب "البعث" ومصر التي حاولت اجتثاث حركة "الإخوان المسلمين"، محاولًا تطهير الحركات المعارضة عبر طرد مؤيّدي المعارضة من مناصبهم ومواقع تأثيرهم.

وهنا، لا بدّ من سؤال ضروريّ وهامّ، هو هل ستنضم إسرائيل إلى قائمة الدول التي يشنّ قادتها حربًا ضد التطرف الدينيّ والعقائديّ، ومنها مصر والعراق وتركيا، وهي دول لم تنجح بما أرادت تحقيقه، بل ربما فشلت، أو أن هناك فوارق شاسعة بين ما أرادته هذه الدول الثلاث، وهو كبح التوجّهات المتطرّفة والأصوليّة، وبين ما تم تحقيقه، وهو جعلها حركات تتغير من حيث التسمية، لكنها لا تتغير من ناحية الأهداف، خاصّة وأن إسرائيل نتنياهو هي التي غذت حركة "حماس"، كما أنها تغذي التوجهات الدينيّة والسياسيّة والعقائديّة المتطرّفة للمستوطنين المتطرّفين، بتواصل احتلالها للضفة الغربيّة وتكريس الاستيطان، والسؤال الآخر وبناءً على ما سبق، هو ما إذا كانت إسرائيل، وعلى ضوء ما تشهده ساحة الحرب في غزة، واستمرار الرشقات الصاروخيّة على مناطق مركز البلاد، ستحاول اتّخاذ أيّ خطوة أو خطوات، مغايرة تختلف عما اتبعته حتى اليوم، عسكريًّا وسياسيًّا واقتصاديًّا، تجاه السلطة الفلسطينيّة وقطاع غزة، فربما حان الوقت كي تغيّر إسرائيل نهائيًّا من سياستها خاصّة في المجال الاقتصاديّ تجاه الفلسطينيّين في الضفة الغربيّة وقطاع غزة، وهي توجهات فرضها اتفاق باريس من العام 1995، والذي وقّعته السلطة الفلسطينيّة وإسرائيل، لترتيب العلاقات الاقتصاديّة بين الكيانين إسرائيل والسلطة الفلسطينيّة، وصولًا إلى الفصل التامّ بين الاقتصادين بما يعنيه ذلك من كفّ إسرائيل عن جباية الضرائب والجمارك للسلطة الفلسطينيّة( أموال المقاصّة)، بل وضع موعد وجدول زمني لذلك، علمًا أن قطاع غزة بإمكانه الوصول خلال فترة ليست طويلة إلى اكتفاء ذاتيّ من مياه الشرب والطاقة والزراعة، إذا ما شاركت دول العالم وخاّصة قطر في تمويل البنى التحتيّة لذلك، حتى لو تم الأمر في ظلّ سيطرة إسرائيليّة أمنيّة وعسكريّة وبمعزل عن "حماس"، أو بعد هزيمتها، فاستمرار العلاقات الاقتصاديّة، أو المشاركة والوحدة بين اقتصادي إسرائيل والفلسطينيّين ، تشكّل تكريسًا لما أراده موشيه ديان منذ العام 1967، من إلغاء للحدود، وخلافًا لما أراده وزير المالية الإسرائيلّي آنذاك، بنحاس سبير من فصل تامّ للاقتصادين، وبالتالي أصبح الاقتصاد الفلسطينيّ منذ 1967، متّكلًا على الاقتصاد الإسرائيليّ ومتعلّقا بتلابيبه، دون أيّ محاولة لبناء مؤسسات اقتصاديّة مستقلّة وتوفير أماكن عمل، ومصانع تعتمد على التصنيع والتصدير للخارج.

الأسئلة الملحّة كثيرة، والاجابات عنها ليست بسيطة في الوضع الحالي، وأقصد انعدام قيادات في الطرفين الفلسطينيّ بشقيه في غزة والضفة، والإسرائيليّ يمكنها اتّخاذ خطوات "تكسر القوالب المتبعة" تتميز بالشجاعة وبعد النظر، فإسرائيل تفتقر اليوم إلى قيادات وربما إلى مواطنين أيضًا، يريدون أو يمكنهم النظر بموضوعيّة وعقلانيّة إلى ما يمكنهم من الخروج من نار جهنم التي يعيشها الشعبان الإسرائيليّ والفلسطينيّ فيها منذ السابع من أكتوبر، وكذلك الأمر لدى الطرف الفلسطينيّ ، فقنوات الاتصال السياسيّ والفكريّ والإنسانيّ معدومة، حتى بأبسط معانيها من فهم ومتبادل كلّ لمعاناة الآخر، أو حتى استعداد للنظر إلى معاناته، وفهم مدى آلامه وأوجاعه، وبالتالي تتغلب رغبات الانتقام ومشاعر الغضب والصدمة وتغييب لغة المنطق وهي التي تميز القادة العظماء، كما قال هنري كيسنجر في كتابه "عالم مُستعاد" من أن القائد والزعيم السياسيّ هو ذلك الذي يملك القدرة والقوة، لفهم ميزان القوى الحقيقيّ، (ليس العسكريّ فقط)، واستخدام معرفته لخدمة أهدافه، أو كما قال كيسنجر نفسه عام 1973 للملك حسين العاهل الأردني الراحل، من أن فن السياسة هو أن تقدم التنازلات طوعًا قبل أن تضطر لذلك، وأن تعمل اليوم أقل ممّا ستضطرّ لعمله غدًا. وبالتالي يبقى السؤال هل سيتكرر سيناريو أكتوبر 1973، بمعنى أن تتحقّق نبوءة كيسنجر الذي قال إن الحل لا يأتي قبل أن تتصاعد الأمور، أو أن تُفْرَج قبل أن تستحكم حلقاتها؟ أي أن التصعيد الحاليّ هو المقدّمة لاتفاق يضمن الهدوء، وهل سيكون لدى القادة في الطرفين القدرة والرغبة والشجاعة في الاعتراف بالحقيقة، وفهم الوضع بشكل صحيح واتّخاذ القرارات الصائبة، وهل كان قادة "حماس" على دراية كافية لأبعاد ما تم في السابع من أكتوبر، وفهم صحيح لموازين القوى السياسيّة والعسكريّة والاقتصاديّة، أم أنهم اعتمدوا على الحقيقة القائلة أن الشعوب العربيّة لا تعاقب قادتها الذين تسببوا بالهزائم والخسائر والويلات لشعوبهم، وذلك لعدم إدراك قدرتها، أو لانعدام دور الشعب في مراقبة نشاط وتصرّفات قياداته التي ترتكب الغبن بحقه. وهل ستدرك القيادات في إسرائيل أن دوامة العنف وسفك الدماء لن تتوقف إلا إذا تمت إقامة كيان فلسطينيّ مستقلّ وقابل للحياة ودولة فلسطينيّة مستقلة، ما سيوفّر للجيل الشاب الفلسطينيّ والإسرائيليّ الهدوء والسلام والاستقرار والازدهار، والحياة الكريمة.

وأخيرًا وبعلاقة وثيقة لما سبق، وما إذا كانت الحرب ستنتهي بقرار أميركيّ، أو نصيحة أميركيّة دبلوماسيّة، لا بد من الإشارة إلى تغيير بسيط لكنّه هامّ، وهو أن الإعلام الإسرائيليّ الذي تجنّد منذ بداية الحرب كوقفة رجل واحد، وكرَّس موجاته المفتوحة لتغطية الحرب، دون أسئلة أو استفسارات، ووسط رفض تامّ للحديث، أو الإشارة إلى ما بعدها من باب القول:" الآن نحارب ولا نتحدث عن المستقبل"، يتحدّث في الأيام الأخيرة، وبشكل متزايد عمّا بعد الحرب، وعن انعدام أيّ خطط إسرائيليّة لذلك، ويطالب بإجابات حولها، إضافة إلى تساؤلات حول الأهميّة الحقيقيّة، وهي صغيرة للغاية، لما تم اعتباره إنجازات إسرائيليّة في غزة، فهل هي الأحرف الأولى من رسالة تكتب على الحائط ربما ببطء، لكنّ مضمونها واضح منذ اللحظة؟؟؟ 

استعمال المضامين بموجب بند 27 أ لقانون الحقوق الأدبية لسنة 2007، يرجى ارسال رسالة الى:
[email protected]