هناك في الافق البعيد ومن اعالي جبال فلسطين حيث الجمال والضياء وزرقة السماء ،  تطل قرية جميلة ببساتينها وحقولها الملتحمة ببعضها البعض . ومن تلة الى تلة يظهر بيت من الحجر جميل ، فوق واد تحفه اشجار العنب والزيتون يعلوه جبل صعب المرتقى ، تكسوه اشجار اللوز والتين ، تعيش بين جدرانه طفلة اسمها"  اماره  " ، قد منّ الله عليها بوجه كالبدر في السماء ، تنساب عليه خصل شعر سوداء ، وعيون كحلها الرب الرحمن ، فسبحان من اهداها هذا الجمال .

الفصل فصل شتاء قارص ، وفي ليلة عيد الاضحى ، يدخل والدها يحمل بيديه بيتا خشبيا صنعه بنفسه ، هذه هي هدية العيد التي وعدتك بها يا اماره . آه ما اجملك بنيتي ، قد اشتد عودك واصبحت تكتشفين الاشياء من حولك وتنطقين بالكلمات والجمل . غدا هو يوم العيد، فيه نلبس الثوب الجديد ، نكبر ونصلي صلاة العيد ، نصل الارحام ونزور المحتاجين ، هذا خروف العيد نضحي به ونطعم المحرومين . لقد اسدل الليل ستاره ، البرد شديد في الخارج، والدفء يملأ البيت وعلى غير العادة قررت " اماره " المبيت بيت ذراعي والدها ، ها هو يغني لها بصوت حنون اغنيتها المفضلة " اماره يا اماره  لا تطلعي على الشجرة ...." لقد تورد وجهها ، وارتسمت ابتسامة خفيفة على شفتيها الورديتين ، كانت تغط في نوم عميق كأنها تحلم بالعيد . واذا بالباب يهتز تحت ضربات قوية بالاقدام ، فزع ورعب ! الام تحمل اماره  ، والاب يفتح الباب ، اشخاص عُفرٌ كالرماد ، وعلى غفلة من اماره يلقون به على الارض . بدت اماره كأنها تسأل : من هؤلاء ؟ لماذا يضربون ابي ؟ ما هذه الاشياء الثقيلة التي في اقدامه ؟ والاساور التي يلبسونها له ، اهي اساور العيد ؟!

لماذا يعبثون في كتب ابي ويمسحون احذيتهم بملابسه ؟ اليس لديهم ملابس للعيد ؟ وهذه الاكياس التي يضعونها في زوايا البيت اهي هدايا العيد ؟! لماذا يغمضون عيني ابي ؟نعم !  انها " الغميضة " انها لعبه العيد . لكن لماذا تبكي امي ؟ هل اشتكى خروف العيد على ابي ؟ لكني سمعت ابي يقول له : سامحني ايها الخروف لولا ان الله قد حلل ذبجك ولولا ان ام احمد قالت ان احمد ودلال لم يأكلا اللحم منذ ان استشهد والدهما لما اقدمت على ذبحك ، لماذا فعلت هذا بأبي يا خروف العيد ؟ الكل في الخارج ، الظلام حالك ، البرد قارص ، والاب كأن الارض قد انشقت وبلعته ، واذا بصوت انفجار قوي يهز الارض تحت الاقدام  ويهز ارجاء المكان .

اصوات اقدام تغادر المكان ، وروائح دخان ، كأنه طقس من طقوس العيد . خيم الصمت على المكان . وانكشف الستار ، واذا بالاشياء تظهر شيئاً فشيئاً ، لقد تحول فضاء البيت الدافئ الى غيمه سوداء ،تفوح منها رائحة دخان كأن زلزالا قد اصاب المكان . عند وصولنا كانت " اماره " تحدق بعينين فاحصتين لترى ابعد مما قد يبدو للوهلة الاولى ، تبحث عن الاب الذي احتضنها قبل ساعات . وسرعان ما امتلأ المكان بالناس ، واختلط صوت بكاء النساء مع تكبير الرجال .

وبدا من ملامحها انها تقول : هل هذا هو العيد ؟ اذا كان العيد هكذا ، فأنا لا اريد العيد !، اين ابي ، اين بيتي الخشبي ، واين ملابسي ؟ هذا جدها كأن الحياة قد حفرت على وجهه جروحا واهات ، الدموع تنهال من عينيه ،يدق الارض بالعصا يختلس النظر اليها يهز رأسه ويقول : آه  يا حفيدتي ، لقد طالتك يد العدو .اما الجدة قد احتقن وجهها بالألم والحزن والاسى . والعم والخال بديا كأنهما يقبضان على الجمر بأيديهم . اما اماره فما زالت ترقب وترقب فهذا جارنا ، وها هو بيته الم يشتكي خروف العيد عليه ؟ . ومن بين الركام تلمح شيئا كأن ريحا قوية طوحت به بعيدا عن الدمار وبخطى غامضة تصل اليه ، تنفض التراب عنه بيديها الحريريتين كأنها تقول : انه كتاب ابي المفضل  كان يصلي تارة ويقرأ  به تار ةً اخرى ، كان يقول لي اذا حفظت هذا الكتاب سنلبس انا وامك تاجاً من الؤلؤ والمرجان ، اعتصر قلبي من الحزن عليها ، قد جف الدم في عروقها ، وازرقت شفتاها ، وشحب وجهها . حملتها بين يدي ضممتها واغلقت عليها معطفي فانغلقت على نفسها كالصدفة ، كانت منهكة وضعيفة ، واذا بي اشعر بزفرات وانفاس متقطعة تخرج من داخل اعماق صدرها ، لقد لفحها برد الصباح القارص . مرت الايام تلو الايام والام تحمل في احشائها " وعد " . كانت تخفي عن اماره غيظا خانقاً يطحن نفسها الجبارة ، ومن هنا بدأت معاناة التنقل من بيت الى بيت . لقد هجرت" اماره " اللعب مع الاطفال وامسكت عن الكلام ، كأنهم نزعوا منها اللسان ، واصبحت تراقب الحركات والسكنات ، وتختلس السمع من الكبار ، تحاول ان تفسر الكلام ، وبدلت احلامها الصغيرة بحزن ومعاناة الكبار . في الليل تلتصق بأمها تلف يدها حول بطنها كأنها تحكي لوعد الصغيرة عن احلامها التي تبخرت قبل الاوان وعن بيتها الخشبي وألعابها التي تحت الركام.

 امها تخبرها بزيارة لابيها في " بيته الجديد "! . نامي يا صغيرتي ! سنصحو قبل طلوع الفجر فالطريق طويل . اماره تنظر باستغراب كأنها لم تسمع شيئا لقد تلاشت ذاكرتها الصغيرة مع الايام . وصلنا " المكان " فإذا بها تنتفض كالعصفور ، يبدو انها رأت شيئا اضاء في عقلها اشارة حمراء ، نعم انهم من سرقوا منها الاحلام .

اغمضت عينيها ، ودست رأسها بين كتفي وبسرعة ابعدتها عن الانظار . في الداخل تغيرت الوجوه  والملابس ، وبعد تفتيش طويل للصغير والكبير كان لها منه نصيب ازدادت غيظا واستنكارا . دخلنا مكانا يسمى " قاعه الانتظار "، مكان صغير تلفه بعض المقاعد الخشبية كان للبعض فيه مكان ، والاكثرية اتكأوا على الجدران . الحر شديد في الداخل والسكون يلف المكان ، كالعادة اماره تهرب بالنوم بعيدا عن الزحام ،ثم تصحو على اصوات الاطفال وهم يرسمون وجوه ابائهم في الفضاء ، وشيخ يعد البلاط بخطاه ، وزوجة شابة ترتب شالها عبر الزجاج المسلح بقضبان الحديد ، كأنهم اعتادوا شيئا ليس بجديد .

فتح الباب لندخل مكاناً اخراً فيه حاجز زجاجي من خلفه يخرج رجال الواحد تلو الاخر ، يتخذون مكانهم خلف الزجاج ، في عيون كل واحد منهم قصة حياة . الاولاد يتراكضون كل الى ابيه ، الزوجة الى زوجها ، الام الى ولدها ، وكل الى ذويه . وهناك يقف شاب ملتح ٍ ، جميل الملامح يتدفق النور من وجهه النضر كان يحدق بنا، واماره ترتشف تفاصيل هذا الانسان البهي ، بقوه غريبه اشاحت بصرها عنه ، لقد تغيرت ملامح وجهه الهادئ وبدت عليه الدهشة .

برزت عيناه واختنق وجهه ، اقترب الجميع منه "واماره" تعصر عنقي بيديها وتدفع بي الى الوراء . كان همي الوحيد ان تحظى برؤيته فالوقت قصير جدا ، اندفعت نحوه بقوة وقدمتها على الجميع ، لقد تحشرج الكلام في فمه وهو يتأمل جسدها المرتجف . بنظرة منه وضعنا سماعة الصوت على  اذنها وهنا بدأ الصراع والرفض . وفجأة صرخ بصوت عال قرأناه على ملامح وجهه " انظري الي يا بنيتي " واذا بنظراتهما تتلاقى عبر الزجاج ، صار يلوح برأسه ، ويتمتم بكلام قد احبته اماره يوما ما واذا بجسدها الصغير بتمايل يميناً ويساراً كأنها ترقص ، ارتسمت على وجهها ابتسامة عريضة ، وانفرجت اسارير وجهها . والحياة قد رجعت اليها من جديد ، كان يغني لها اغنيتها المفضله " اماره يا اماره لا تطلعي عالشجرة والشجرة عالية وانت بعدك صغيرة ..... " الصقت صدرها وخدها الايمن على الزجاج كأنها تقول : احضني يا ابي ، لقد عرفتك انت ابي وها هي تنطق بالالف والباء والياء . لقد اعلِن عن  انتهاء الزيارة كانت تودعه بعينيها وتوصيه بصمت ، لا تتركني مرة اخرى يا ابي . مرت الشهور ،وعلى بُعد مسافة من الركام بني البيت، واشرقت الدنيا بقدوم " وعد " بملامحها المشدودة القوية . لقد اقدم العيد ، وحظيت اماره بزياره لوالدها تبادلت الحديث معه عن العيد وعن " وعد الصغيرة " ثم سألت : من سيذبح خروف العيد لدلال واحمد يا ابي ؟ ل اجابها والدموع تترقرق في عينيه ، لا تخافي يا بنيتي قد اوصى خروف العيد اصدقاءه واقاربه الاهتمام بهم . تفرح اماره من جديد لقد ايقنت ان خروف العيد لم يكن هو السبب . مرت السنون واصبحت اماره تنافس اختها الصغيرة وعد من ستبدأ بالحديث مع والدها عند الزياره المقبلة ، ومن التي ستتقن رسم ملامحه في الفضاء . ها هي الان تواسي اباها بكلمات تخفف عنه ظلمة السجن والبعد عن الاحباب :
           
                   قد حكم عليك ابي بمائتين من السنين واكثر
                                                          فلا تحزن ابي فحكم الله عليهم هو الاكبر
 
كبرت  " اماره " واصبحت تتدفق حيوية وعذوبة ، ها هي تمسك بالالوان والورق ، وتتخذ من تحت ركام بيتها مكانا ترسم فيه احلامها الصغيرة بألوان زاهية على الورق . لقد رسمت الاهل والبيت والوطن . وعلى باب البيت يقف شاب طلق المحيّا ، يخفي وراءه بيتاً خشبياً ، يطوق رأسه تاج من لؤلؤ ومرجان ، يحمل بيده اليمنى كتاباً ذهبياً يلفت اليه القريب والبعيد ، وبيده الاخرى يمسك خروف العيد
 
                                                                                                                   
                                                                                     
استعمال المضامين بموجب بند 27 أ لقانون الحقوق الأدبية لسنة 2007، يرجى ارسال رسالة الى:
[email protected]