وأنا لديه لاحظت أنه حتى يومنا هذا لا يُنادي على زوجته إلا "مدامتي، حبيبيتي" (رغم) أنه تزوجها منذ أكثر من ستة عقود، وهو ليس لطيفًا معها فقط، بل هو لطيف بطبعه، فهو أيضًا لطيف مع "الحيوانات" حيث أنه مثلا يُربي في بيه عددًا من القطط ويعتني بها، بل ويذهب أحيانًا ليشتري لها "النقانق" خصيصًا..!

إنه جميل حسن عبد الملك خليل.. كان يعزف على "الشبابه" في الأعراس، وكان لديه فرقه من 20 شابًا يعزفون ويدبكون لإحياء المناسبات السعيدة.

لصديقنا الحاج ( وهو اليوم في السابعة والثمانين من عمرة – بارك الله له في عمره) حكاية حب وزواج مثيرة جدًا من فتاة تدعى جميلة حسن الشورى من قرية الطنطورة المهجرة.

كانت اللقاء الأول بين المحبين في زيارة قام بها جميل إلى قرية الطنطورة، فكان جميل قبل يعمل أيضًا في بيارة في "زمارين" لدى شخص يهودي، وهذا في العام 1946، وطلب منه صاحب العمل أن يحضر عربه من الرمال من الطنطورة، وهناك وجد حمارًا هزيلا مربوطًا عند باب أحد البيوت، وكان هذا البيت هو بيت جميلة (حبيبته وزوجته وأم أولاده مستقبلا) فكان مع جميل شعيرًا لبعيره الذي معه، فقال للفتاه التي تبلغ من العمر 13 عامًا أن خيل صاحب العمل لا تريد أن تأكل فخذي هذا الشعير لحمارتكم، إلا أنها لم تعره أي إهتمام ودخلت البيت، فخرجت أم جميله وأخذت الشعيرات واطعمت الحمار، وشكرت هذا الشاب وتوسمت به خيرًا.

يؤكد الحاج جميل أنه لم يقدم هذا "العرض" من الشعير " على بعير الفتاه "ليتحرش بها" أو لأنه يبحث عن ذريعة ليتحدث معها، بل لانه حقًا قد أشفق على الحمار ولأنه يحب الحيوانات كثيرًا ليس إلا.

بعد أسابيع زارت خالة جميل من الطنطورة بيتهم، فأخبرها عن حكايته مع الشعير والحمار، ووصف لها البيت، كانت تعرف الفتاة وأهلها فاقترحت عليه أن تزوجه إياها..! ففرح جميل لذلك وأبدى موافقته.

المُختار المُرتشي..!

مُختار قرية الطنطورة (أبو بديع) حينها رفض الموفقة على هذه الجيزة، وقال أن الفتاة ما زالت صغيرة، وكان عمرها حينها (13 عامًا)، ولا يجوز أن يزوجها، إلا أن عائلة خليل قدمت له بعض الليرات فغير رأيه، وقرر أن هذا السن مُناسبٌ للزواج..!

النكبة.. وفراق الحبيبين

وقعت النكبة.. واحتُلت الفريديس، واستلم أهلها الهوية الإسرائيلية، بينما رفض أهالي الطنطورة أن يستسلموا، وأغلقت الطرق، وخَوَن أهالي الطنطورة أهالي الفريديس لأنهم قبلوا بالهويات الإسرائيلية فتفككت العلاقات بين أهالي القريتين.

استعد أهالي الطنطورة للمواجهة، فسمعوا صوت طائرة حربية تحوم فوق قريتهم، فظنوه "جيش الإنقاذ" فصعدوا إلى السطوح يُشوحون ويُصفقون لأهالي الطنطورة، إلا أن الحقيقة كانت أن هذه الطائرة تابعة للاحتلال الإسرائيلي، فقصفت الطائرة الشبان المُجاهدين على أسطح المنازل، وارتكب الاحتلال الصهيوني في حق أهالي الطنطورة مجزرة رهيبة، وكان هذا في أيار عام 1948، وحمل النساء والأطفال بالحافلات ونقلوا إلى منطقة طولكرم، ومن هُناك توزعوا إلى العراق ولبنان والأردن وسوريا، فيما فيما اعتقل الرجال في صرفند نحو العام قبل أن يتم تهجيرهم هُم أيضًا.

"العروس" جميلة كانت من ضمن النساء اللواتي نقلن إلى طولكرم، وبقيت هُناك، حيثُ سكنت مع أهالها لمدة أربع سنوات وعملت مساعدة لطبيبة في مستشفى طولكرم.

جميل رفض الاستسلام.. وبقي يبحث عن محبوبته

"العريس" جميل لم يستسلم للواقع المُر، خاصة أن الناس أشبعوه كلامًا عن أن جميلة تزوجت وأن لها أولادًا..!

بعض النساء كُنَ يُحاولن إغرائه ليزوج إحداهن، إلا أن جميل بقي وفيًا متفانيًا لحبه، وقرر أن ينتظر عروسه جميلة حتى لو استمر انتظاره إلى آخر يوم في حياته..!

في العام 1952 صدر بلاغ من إسرائيل جاء فيه أن كل من لديه زوجة في منطقة طولكرم أو قطاعات أخرى، يجب أن يُحضر الأوراق الثبوتية التي تُثبت ما يقوله، إلا أن مختار القرية سجل أن جميلة هي عروسة جميل وليست زوجتة وبالتالي لا يستطيع جميل إحضارها..!

جميل تحدى كُل من حوله وقرر أن يتحدى حتى النهاية، وصمم على تجاوز كُل العقبات والمصاعب من أجل إعادة محبوبته.

حاول الشاب المُخلص أن يستعين ببعض معارفه اليهود لمساعدته لإحضار عروسته، ويقول الحاج جميل: "لقد سخر لي الله سبحانه وتعالى بعض الأشخاص الذين صححوا الأوراق، وحولوا جميلة، من عروستي إلى زوجتي".

تمكن جميل من الحصول على تصريح لدخول منطقة المُثلث، ومن هُناك وصل جميل إلى باقة الشرقية حيث كانت زوجته جميلة تنتظره هُناك وكان معها والدتها وأشقائها وسلموه العروس.. ومن هُنالك بدأت سلسلة جديدة من العقبات التي بحاجة إلى الكثير من الإصرار والتحدي.. وهي مشكلة الحصول على تصريح للعروس للدخول إلى البلاد.

في "مُغامرة" العودة، التقى جميل بشخص من قريته اسمه "عبد الشطروبي"، وطلب منه مساعدته لدخول (إسرائيل).. وكان هذا الشخص يعمل سائق شاحنة ويحمل تصريحًا للتنقل بحُرية، فجلست العروس جميلة بجانب السائق، ولما وصلت الشاحنة إلى الحاجز، قرب "برديس حنا"، فجاء الضابط على الحاجز وسأل سائق الشاحنة عن الفتاة التي تجلس بجانبه، فأجابه أنها زوجته، فمرت الشاحنة بأمان..!

رحلة الحصول على تصريح لجميلة

كي يستطيع العروسان، جميل وجميلة الوصول إلى الفريديس، وكي لا تعتقل العروس التي لا تمتلك تصريحًا إسرائيليًا، استمر جميل بالاستعانة ببعض معارفه الذين كان يعمل معهم في البيارة، ووصلت بالعروسين الأمور إلى أن وصلوا إلى قطعة أرض زراعية تابعة اشخص يهودي صديق في عتليت عاش فيها جميل وجميلة مدة شهر كامل في "براكية" في المكان حتى تحل المشكلة عن طريق محام يهودي من حيفا، لكن قبل قرار المحكمة بيوم واحد ذهب جميل وجميلة إلى قريتهم، الفريديس، فأصبح موضوع قدومهما حديث الساعة في القرية، مع أنه كان من المفروض أن يبقى موضوع وصولهما سرًا..!

في الليلة الأولى لهما في الفريديس جاءَت سيارات الشرطة وأخذت جميلة وأعادتها إلى طولكرم، فجُن جنون جميل وكاد يفقد عقله، حتى جاء المُحامي في اليوم التالي وبحوزته الأوراق اللازمة التي تُجيز وجود جميلة في البلاد.

النهاية السعيدة

استطاعت جميلة عن طريق شيخ من باقة الغربية العودة الى المنطقة التي تحت النفوذ الإسرائيلي، وعند وصول الزوجين إلى الفريديس تجمع أهل البلدة ليشاهدوا جميل وجميلة وليقدموا التهاني للعروسين بعد رحلة طويلة، مليئة بالصعوبات والمخاطر والتحديات، وأقيم في القرية عرس كبير، كان جميل فيه هو العريس وهو عازف الشبابة أيضًا.

بقيت جميلة فتاة عذراء حتى يوم عرسها الكبير وتمت دخلتها فقط في هذا اليوم.

ثمرة هذا الحب الصادق والمخلص هو عائلة سعيدة ومتفاهمة، وأنجبوا 6 صبيان و 5 بنات مُتعلمين مُثقفين، من خيرة أبناء قرية الفريديس، واليوم لديهم 75 حفيدًا.

هذه هي حكاية جميل وجميلة التي فيها الكثير ممن التفاصيل التي تُجسد تضحية المُحبين، المُخلصين لبعضهما البعض.. قصة من تحدى الصعوبات والعوائق، وواجه التحديات، خاصة تحديات الاحتلال.

في ختام اللقاء طلب مني الحاج جميل وقال لي: "أكتب أنني حتى اليوم لا أنسى فضل كُل من ساعدني على إحضار زوجتي عزيزتي، حبيبتي ورفيقة عُمري لنبني معًا هذا البيت الدافئ الذي أحبه".

وعندما طلبت منهما أن ألتقط لهما بعض الصور، جلست بجانبه باحترام وخجل وابتسمت ومالت عليه، والتقطت لهم بعض الصور..!

استعمال المضامين بموجب بند 27 أ لقانون الحقوق الأدبية لسنة 2007، يرجى ارسال رسالة الى:
[email protected]