يُصادف اليوم الثلاثاء (26.6)، اليوم العالمي لمكافحة المُخدرات، وتُعتبر مشكلة المخدّرات من أخطر المشاكل الصحيّة والاجتماعيّة والنفسانيّة الّتي تواجه العالم أجمع، وطبقًا لتقديرات المؤسّسات الصحيّة العالميّة، يوجد، اليوم، أكثر من 850 مليون إنسان يتعاطون المخدّرات أو يدمنونها.

وإدمان مخدّر ما يعني الرغبة القويّة والملحّة الّتي تدفع المُدمن إلى الحصول على المخدّر، وبأيّ وسيلة كانت وزيادة جرعته من آن إلى آخر، مع صعوبة أو شبه استحالة الإقلاع عنه، سواء أكان ذلك للاعتماد (الإدمان) النفسانيّ أم لتعوّد أنسجة الجسم عضويًّا؛ وعادةً ما يعاني المُدمن قوّة دافعة قهريّة داخليّة إلى التعاطي لسبب ذلك الاعتماد النفسانيّ أو العضويّ.

نعرض عليكم اليوم قصة من الحياة، أبطالها حقيقيون من واقع مجتمعنا العربي في إسرائيل، ليكونوا عبرة لمن اعتبر، وتكون قصتهم رادعًا للأشخاص الذين يفكرون أو خطوا خطاهم، نتمنى أن يكون مجتمعنا خاليَا من المخدرات والإدمان.

عبد يحدثنا عن معاناته...مع المخدرات وحياة الوحل

أدمنت المخدّرات في سنّ الـ 14!! كنت وحيدًا في المعركة! ..من إدمان إلى إدمان، ومن دمار إلى دمار بصعوبة يُمكنك أن تجد بضعة كيلوغرامات من الموادّ «النظيفة» في السّوق! خلال الـ«كريز» يصعب عليك تحديد مكان الألم عند اقتراب اللحظة كنت أجبن وأتراجع مجمتعنا العربيّ لا يرحم! 30 عامًا من الإدمان وأكثر، تكفي وتزيد!! «النشوة» وهميّة لا يوجد «لا أستطيع».. يوجد «لا أريد» تعاطيت جميع أنواع المخدّرات وأصعبها، إلى أن بدأت أشمئزّ من نفسي فللحياة طعمًا آخر

عالم جديد

دُعيت، قبل أكثر من أسبوع، إلى حضور لقاء خاصّ لمجموعة داعمة للمقبلين على الشفّاء من إدمان المخدّرات والسموم المختلفة؛ لأدخل بذلك عالمًا جديدًا سمعت عنه، لأتعرّفه عن قرب!

كان اللقاء غريبًا - نوعًا ما - ولكنّي جلست إلى جانب العامل الاجتماعيّ، أراقب ما يحدث. وقد حدث الكثير..! ولكن طُلب منّي عدم الإفصاح عمّا رأته عيناي أو سمعته أذناي، حفاظًا منهم على السرّيّة التامّة.

إلّا أنّ العدد الكبير للحضور أذهلني، الّذي لم يقتصر على فئة أو جنس أو دين أو عرق أو عمر، معيّنة، فقد وجدت شابّات حسناوات في مقتبل العمر، ومسنّين كذلك، عربًا ويهودَ.. مجتمعين معًا لهدف واحد ووحيد، الإعلان أنّهم، فعلًا، في مرحلة «شفاء»، مؤكّدين فيها أنّهم «نظيفون من السموم».

رغم القوانين الصارمة والخاصّة بهم، و«السرّيّة» الّتي تكتنف لقاءاتهم اليوميّة، دعوني للتعرّف بهم عن قرب، شرط الحفاظ على السرّيّة؛ لاكتشف أنّ الآراء المسبّقة عن عالم الإدمان والمُدمنين أساءَت وتسيء إلى عدد كبير منهم. فقد جمعتهم محبّة صادقة وإرادة قويّة للخروج من دائرة الإدمان وبدء حياة جديدة.. حياة «نظيفة».

وفي نهاية لقائي تواعدت أن ألتقي، بعد أسبوع، الحيفاويّ عبد (57 عامًا)، وهو مُدمن سابق، «نظيف من السّموم» حاليًّا، محاضر ومرشد وداعم ومساند ومساعد لكلّ مَن ينوي الخروج من دائرة الإدمان. أب لولدين وثلاث بنات، وجدّ لاثني عشر حفيدًا.

صراحةً، لم أكن واثقًا من أنّ عبدًا سيقبل بطرح تجربته مع المخدّرات خلال لقاء صِحافيّ، من دون أن يتردّد في الكشف عن هُويّته، ولكنّه فعل ذلك بلا تردّد، ليشرح لنا تجربته ومعاناته مع المخدّرات وشفاءَه منها، موعّيًا وملقّنًا الكثيرين درسًا في الحياة.

دفء ودعم وعطاء

أوّل مَن وصل اللّقاء، في أحد مقاهي جادّة الكرمل («بن غوريون») كان موطي شرعابي (عامل اجتماعيّ و«ضابط تربية» في السّجون، سابقًا)، منذ أكثر من 15 عامًا وهو يعمل مع المُدمنين بأنواعهم.

فاستهلّ حديثه، قائلًا: «أوّد، بدايةً، أن أشير إلى أنّ المتعاطي يعيش في دائرة الكذب والسرقة والغشّ والخداع والعنف؛ فهمّه الأوّل والأخير هو الحصول على «الوجبة» المطلوبة، مهما كلّفه الأمر. والأمر يختلف من مُدمن إلى آخَر ومن حالة إلى أخرى. وقد يؤدّي تعاطي المخدّرات - في حالات عديدة - إلى ارتكاب جريمة قتل لهدف الحصول على «الوجبة» المطلوبة، فمصلحة المُدمن فوق كلّ شيء، وتأتي، أحيانًا، على حساب أقرب المقرّبين إليه».

وأضاف: «يصعب التخلّص من الإدمان فسيولوجيًّا، بل لا يكفي ذلك، من دون أن يحيط المُدمن الدعم المعنويّ أو النفسانيّ. ومن هنا تأتي قوّة المجموعة الداعمة الّتي تساعد المُدمن في عبور مرحلة الشّفاء وفي الحفاظ على أن يبقى «نظيفًا من السّموم»، ليتخطّى المرحلة بشكل أسهل. إنّ الدفء والدعم والعطاء بلا شروط، يمنح الأشخاص القوّة النفسانيّة لتخطّي الصعوبات والخروج من دائرة السّموم والإجرام والعنف».

لا توجد في المجتمع العربيّ مجموعات داعمة!

وفي ردّ على سؤالي عن المجموعات الداعمة في مجتمعنا العربيّ، أجاب شرعابي: «في المجتمع اليهوديّ توجد عدّة مجموعات داعمة، بينما - للأسف - في المجتمع العربيّ لا توجد مجموعات داعمة. حاولنا التوجّه إلى البلدات العربيّة لعرض الموضوع بشكل تطوّعي، لكنّ طلبنا رُفض، رغم أنّنا توجّهنا من قبل جمعيّة مكافحة المخدّرات! فعلى ما يبدو ما زال المجتمع العربيّ يخجل من طرح الموضوع علانيَة ومعالجته».

وأضاف: «أنظر ما يحدث في حيفا، مثلًا، فهناك مجموعات داعمة للمُدمنين الّذين ينوون الخروج من دائرة الإدمان، وهذه المجموعات قائمة منذ عشرين عامًا تقريبًا، ولكنّها لم تفلح في دخول المدن والقرى العربيّة. هذه المجموعات تعمل على مساعدة المُدمن من تخطّي مرحلة الشفاء، وتدعمه معنويًّا ونفسانيًّا، وتشاركه مشاعره، من خلال فعاليّات خاصّة ودعم وإرشاد من قبل مُدمنين سابقين. فيجد فيهم ولديهم العُنوان».

- وماذا عن شروط الانضمام إلى المجموعة الداعمة؟

شرعابي: «لا يوجد أيّ شروط لدخول المجموعة، الشرط الوحيد هو أن يكون المنتسب مؤمنًا بأنّه سيمرّ في مرحلة شفاء ليصبح «نظيفًا»، وعليه أن يعمل على ذلك بدعم الموجودين. قد يصعب عليه التأقلم بدايةً، ولكن بعد جلسات عدّة يشعر بالانفتاح ويندمج ضمن المجموعة».

- وكيف يُمكنكم ضمان «نظافة» المنتسب من السموم؟

فأجاب: «عليه أن يكون صادقًا، أوّلًا، مع نفسه، وثانيًا مع أفراد عائلته والمحيطين به. تُمكننا معرفة ذلك بطرقنا الخاصّة؛ وغالبًا، مَن يعُد إلى التعاطي فسيقع في الفخّ وسينكشف أمره؛ فالموجودون هم مُدمنون سابقون ولديهم علاقات مع الجميع ويعرفون جيّدًا المتعاطين، فإن علموا أنّ أحدهم عاد إلى دائرة الإدمان فلن يتستّروا عليه».

قصّة حياتي شبيهة بقصّة حياة غالبيّة المُدمنين

وصل عبد (أبو محمّد) في الموعد المحدّد تقريبًا، ليجدني بانتظاره برفقة العامل الاجتماعيّ شرعابي، والزميل مصوّر الصحيفة الفوتوچرافيّ، وائل عوض.

- «هل لديك مشكلة في كشف قصّتك عبر الصحيفة؟»، كان أوّل ما سألته.

فأجاب: «سأحكي قصّتي مع المخدّرات، علّها تؤثّر في نفوس المُدمنين أو المتعاطين».

بدأ حديثه، لأكتشف أنّه يجلس أمامي إنسان صاحب خبرة حياة كبيرة، مثقّف، واعٍ، يشدّك لسماعه ويجبرك على احترامه، يذكر التواريخ والأحداث بأدقّ تفاصيلها، فيصعب عليك التغاضي عن الجلوس ساعات قُبالته للاستماع إلى تجربة حياة قاسية مرّ خلالها بمشاكل عدّة.. ومع عبد كان لي هذا الحوار الصريح والجريء والجادّ.

- أحيّي فيك جرأتك، وأشدّ على يديك.. حدّثني، بدايةً، عمّا دفعك إلى الانزلاق إلى هاوية المخدّرات؟

عبد: حياتي شبيهة، نوعًا ما، بحياة غالبيّة مُدمني المخدّرات؛ فقصص حياتنا ومشاكلنا ومعاناتنا ومصاعبنا متشابهة جدًّا. كلّ منّا تضرّر بشكل مختلف، ولكن في نهاية المطاف، جميعنا متضرّرون.. إلى أن نصل إلى نقطة اللا-عودة!!

بدأت تعاطي المخدّرات عام 1969، قبل أكثر من أربعين عامًا مضت، حينها كانت الأمور تختلف كثيرًا عمّا هي عليه اليوم. ولدت في مِنطقة «شيمن» الّتي كانت تعرف بـ(أرض الرّمال)، ونشأت في مكان عانى ساكنوه مشاكل عديدة؛ فقد كنّا نسكن في «مَعبَرة شيمن» (مخيّم انتقاليّ)، حوى خليطًا من سكّان غالبيّتهم من القادمين الجدد من دول عدّة، كتركيّا واليونان والعراق ومصر والمغرب، فكلّ أتى يحمل تفكيرًا مختلفًا، وتراثًا وثقافة مختلفين، ولغةً وتربية مختلفتين، ولكن ما جمعنا هو الوضع الاقتصاديّ الصعب. فترعرعت في أجواء غريبة، وغير مستقرّة.

أدمنت المخدّرات في سنّ الـ 14!!

تنهّد عبد، هزّ رأسه وبصوت حزين قال: «إنّ فقدان أخي دفعني إلى الإدمان»!!

- كيف ذلك؟

لقد كان لديّ شقيق يصغرني بسنة واحدة، وكانت تربطنا علاقة وطيدة جدًّا، فكان بالنسبة إليّ أكثر من أخ.. لقد كان نصفيَ الآخر. إلّا أنّني - للأسف - فقدته؛ فقدت أغلى ما أملك، فقد دخل البحر ليسبح، فغرق ولم يخرج. وفقداني نصفيَ الآخر، أصابني بصدمة كبيرة.

إنّ موت شقيقي أثّر فيّ كثيرًا، فلم أستطع مواجهة الصدمة والفقدان الأليم، فوجدت في الكحول طريقًا للهروب من الواقع. وتدريجيًّا، ومع الوقت، أدمنت الكحول، ثمّ عرفت الحشيش، وبعده استخدمت الأفيون؛ وهكذا، من مخدّر إلى مخدّر آخر، وفي كلّ مرّة يزداد شربي للكحول، تزداد الجرعة ويقوى المخدّر إلى أن تعاطيت غالبيّة السّموم/ المخدّرات وأصعبها».

- ما الّذي دفعك إلى المخدّر، ألم تكتفِ بإدمان الكحول؟

كنت واحدًا من شلّة من الشبّان، وكي أشعر بأنّي جزء فاعل وبأنّي أنتمي إليهم؛ تعاطيت ما تعاطوا من مخدّرات وسموم، كَيْلا أبدو مغايرًا أو «زرعًا غريبًا»؛ لقد وقعت في هذا الفخّ من جرّاء المصيبة الّتي ألمّت بي.. ففقدان أخي «كسرني».

تركت مقاعد الدراسة

أشار عبد إلى أنّ ما كان قبل 40 عامًا يختلف عن اليوم بكثير، فلم يجد - حينها - أيّ توعية أو دعم من أحد للخروج من دائرة الإدمان. وأضاف: «استمررت في تعاطي المخدّرات والانتقال من مخدّر إلى آخر، ولم أجد من يسندني أو يقف إلى جانبي. كنت وحيدًا في المعركة! فتركت مقاعد الدراسة، رغم أنّي كنت تلميذًا متميّزًا».

وأكمل: «عام 1972 دخلت سجن «الدامون»، لأوّل مرّة، على أثر مخالفات «إجراميّة» من سرقات وما شابه، قبل أن أكمل الـ17 عامًا.. ليتوالى بعدها دخوليَ السجون».

تزوجّت في سنّ الـ17!

ضحك عبد، وقال: «لقد اعتقد والدايَ بأنّ الحلّ الأمثل والأفضل للمشكلة - كانا يعتقدان بأنّي مُدمن كحول، فقط! - هو تزويجي. كان ينقصهما الوعي للتعامل مع مثل هذه الإشكالات».

واستطرد: «تزوّجت، فعلًا، في سنّ الـ17، وفي سنّ الـ18 كنت والدًا. إلًا أنّي لم أستطع «التأقلم» مع الوضع الجديد، فوجود زوجة وطفل في حياتي زاد الأمر تعقيدًا وصعوبة، وشعرت بأنّي أمام عبء آخر سيثقل كاهلي ولن أستطيع تحمّله.. فوجدت، مجدّدًا، الحلّ بالهروب إلى المخدّرات».

كحول.. سموم.. وقمار

- ألم تحاول الخروج من دائرة الإدمان، وبناء حياة جديدة؟

سبق وقلت لك إنّه لم يكن هناك مَن يرشدني. كان الاستمرار في التعاطي هو الحلّ «الأسهل» للهروب من المشاكل. ووجدت، أيضًا، منفذًا آخر للهروب من مشاكلي بلعب القمار؛ فإلى جانب إدمان الكحول والمخدّرات أدمنت القمار!! وهكذا بدأت حياتي تنهار.. من إدمان إلى إدمان، ومن دمار إلى دمار. أصبح من الصعب إيقاف كرة الثلج المتدحرجة!»

- وكيف استطعت الحصول على الأموال لتمويل حاجاتك؟

كنت أزاول أعمالًا عدّة كي أحصل على المال، لكن ذلك كلّه كان من دون جدوى، فكلّ ما كنت أجنيه وأكثر، أصرفه على المخدّرات والقمار. كلّ تعبي كان يذهب سدًى على السموم والجرعات القاتلة. إلّا أنّني استمررت في التعاطي، غير آبهٍ لشيء؛ ومع الوقت، بدأت الجرعات تزداد والمخدّرات تقوى.

دخلت المستشفى مُدمنًا 100% وخرجت منه مُدمنًا 120%!

سكت هُنَيْهة، ثمّ أكمل، قائلًا: «كما ذكرت لك آنفًا، لقد اعتقد والدايَ بأنّي مُدمن كحول فقط؛ فبعد أن فشلت مساعيهما بإقناعي بالكفّ عن تعاطي الكحول بعد أن سبّبت لهما مشاكل كثيرة، قرّرا في عامي 76–77، إدخالي إلى مستشفى «مِزراع» للأمراض النفسانيّة؛ فدخلته مُدمنًا 100% وخرجت منه مُدمنًا 120%»!!

- وكيف ذلك؟!

وهنا تدخّل العامل الاجتماعيّ شرعابي، شارحًا: «لم تكن هناك توعية في السابق لكلّ ما يتعلّق بكيفيّة التعامل مع المُدمنين أو علاجهم.. فعاملوهم كما عاملوا المرضى النفسانيّين. اعتقدوا بأنّه عن طريق معالجتهم بأدوية مهدّئة ومخدّرات سيساعدونهم، فعالجوهم بالمورفين، وهو مخدّر خطير يؤدّي إلى الإدمان».

وقال عبد: «بدأت الأمور تتدهور، وكرة الثلج بدأت تكبر وتكبر، وطلبي المزيد من الجرعات المخدّرة بدأ يزداد.. وهكذا دواليك، إلى أن أصبحت أقضي جزءًا من وقتي داخل السجون والجزء الآخر خارجها، بحثًا عن المخدّرات. أصبح محور حياتي يدور حول التعاطي والإجرام والسجن، كنت أدخل السجن وأخرجه بوتيرة عالية.. لم يعنِني، حينها، سوى الحصول على وجبتي من المخدّر. لم أهتمّ لا ببيت ولا بزوجة ولا بأطفال. لقد انصبّ كلّ تفكيري في دائرة واحدة ووحيدة - المخدّرات».

..ودخل المخدّر الأصعب!

أكمل عبد حديثه مستذكرًا أدقّ التفاصيل والتواريخ، قائلًا: «دخل المخدّر الأصعب (الهيروين) السوق عام 79، وحينها عرفته وتعاطيته لأوّل مرّة في حياتي».

يسكت للحظات ثمّ يؤكّد لي بأسف، أنّ ذلك كلّه حدث معه لسبب عدم وجود أطر توعية حاضنة، ومجموعات داعمة، كما هو اليوم.

وأضاف: «إنّ تجّار المخدّرات كان أوّل من استفاد من دخول الاتّجار بالهيروين، ونحن كنّا أوّل المتضرّرين. فقد جنى التجّار على حساب المُدمنين أموالًا جمّة، ولكن - في نهاية المطاف - كان الجميع يدفعون الثمن، التاجر والمُدمن».

واستطرد: «لم استطع الكفّ عن التعاطي، وبدأ وضعي يزداد سوءًا وتأزّمًا، وأصبحت السجون والمخدّرات والسرقات والإجرام وحياة الذلّ عادات أمارسها بشكل شبه أعمى».

- بعد أن زادت جرعاتك، وأصبح المخدّر أقوى، كيف استطعت تمويل ثمن المخدّرات؟

من الصعب تمويل ثمن الهيروين دومًا، خصوصًا وقد وصلت بي الحال إلى التعاطي، يوميًّا، جرعات يصل سعرها إلى ما يعادل الـ 1500 شاقل، ما دفعني إلى الاتّجار بالمخدّرات أيضًا - عدا السرقات - لتوفير ثمن الوجبات! كنت أحاول - بأيّ ثمن - توفير الأموال، وبأساليب عدّة، لأحرقها، لاحقًا، على السموم والمخدّرات الّتي كانت بدورها تحرقني.

الماضي يختلف.. والسموم كذلك!

- معلوم أنّ الهيروين مخدّر خطير جدًّا، خصوصًا إذا كان «مزيّفًا» أو «مضروبًا».. فكيف استطعت تعاطيه مدّة طويلة؟

عبد: في أيّامنا، كان الهيروين «نظيفًا» كالكريستال. لم يكن مغشوشًا أو مزيّفًا، كما هو اليوم. الماضي يختلف، وسمومه تختلف، أيضًا. لا توجد، تقريبًا، سموم «نظيفة» في البلاد اليوم، أعتقد أنّه بصعوبة يُمكنك أن تجد بضعة كيلوغرامات من الموادّ «النظيفة» غير المضروبة أو المغشوشة، كالهيروين.

فعلى سبيل المثال، كان المُدمن، سابقًا، يدفع 100 دولار ثمن غرام واحد من الهيروين (النظيف) بينما، اليوم، يبيعونك 5 غرامات أو أكثر بـ100 دولار. السعر قلّ ولكنّ المادّة الّتي يبيعونك إيّاها مغشوشة، غير «نظيفة»، فأنت تحصل على سموم ضارّة أكثر من المخدّر. فمَن يشترِ «كيس» الهيروين لا يُمكنه ضمان ما في داخله! يخلطون الموادّ المخدّرة بموادّ مصنّعة وسموم ليبيعوها بثمن بخس فيربحوا أكثر. في السابق كان المخدّر أقوى و«أنقى»!!

فتنطّح موطي، قائلًا: «من حسن حظّنا أنّ الـ«كراك» لم يصل البلاد، وإلًا حلّت كارثة، فهو مخدّر سّام وخطير ومميت».

حقنة الهيروين.. وقمّة التدهور

وتابع عبد حديثه عن الهيروين، قائلًا: «لا يُمكن للمُدمن تعاطي الهيروين عن طريق الحقن بدايةً، فتأتي الأمور بشكل تدريجيّ وتفاقميّ؛ في البداية، استعملنا الهيروين عن طريق الشمّ، ومع الوقت تفاقم الوضع، إلى أن بدأ استعمال الحقن، وهذه هي أحقر حالات التدهور وأسوأُها!»

وهنا أضاف موطي شرعابي: «تفاقَم استخدام الحقن مع مجيء القادمين الجدد إلى البلاد. فازدادت الأمراض المنتشرة بين بعض المُدمنين منهم، كأمراض الكبد والسلّ ونقص المناعة المكتسَب (الـ«إيدز») وباقي الأمراض الخطيرة المُعدية، من جرّاء استخدام الإبرة ذاتها؛ حيث كان المتعاطون يحقنون بعضهم بعضًا بالإبرة نفسها.. فعن طريق الحقن يكون مفعول الهيروين أقوى بكثير؛ حيث تصل المادّة إلى الدماغ بسرعة «جنونيّة»».

قوّة.. أمن وأمان!

- «كيف كنت تشعر لدى تعاطيك الهيروين؟» - سألت عبد.

فأجاب: كنت أشعر بالأمن والأمان. كنت أشعر بأنّي قويّ، بأنّي أعيش اللحظة، بأنّي أحيا من جديد. فعند حصولي على الجرعة، كنت أشعر بأنّي إنسان آخر. ولكن لحظة تعاطي الوجبة كنت أفكّر في كيفيّة البحث والحصول على الوجبة الثانية، كَيْلا يفوتني الوقت بين الجرعة والأخرى، وأدخل في حالة من الـ«كريز» (حالة عصبيّة أو نوبة صرع).

فقال موطي: «كلّ مُدمن يحاول الامتناع عن الوصول إلى المعاناة، إلى حالة الـ«كريز»، لذا تدور حياته حول كيفيّة ضمان الوجبات في الموعد المحدّد. قد يستغرق ذلك لدى البعض 3-4 ساعات أو حتّى أقلّ؛ حيث يبدأ الدماغ بإرسال إشارات، ويحفّز الجسم على تعاطي الهيروين، قبل أن تظهر أعراض الـ«كريز»».

- حدّثني عن الـ«كريز»! - قلت لعبد.

فقال: «هو حالة غريبة تتمثّل بآلام حادّة جدًّا في جميع أنحاء الجسم، مصحوبة بدوران شديد، إسهال، تقيّؤ، آلام حادّة جدًّا في الدّماغ، آلام في المفاصل والعظام؛ مصحوبة بنوبات شديدة من السخونة والعرق وصعوبة التنفّس؛ خلال الـ«كريز» يصعب عليك تحديد مكان الألم، فالآلام حادّة وغير محتملة، فتحاول جاهدًا الحصول على المخدّر كي ترتاح من معاناتك».

- وما هو الوقت اللازم لحدوث مثل هذه الحالات؟

«يختلف الوضع من مُدمن إلى آخر، ويتعلّق ذلك بنوعيّة المخدّر ونقاوته وقوّته، وبالشخص المتعاطي وبسنوات إدمانه.. ولكن في النهاية، جميعهم يبحثون عن وجبة المخدّر القادمة، هروبًا وخوفًا من الوقوع في حالة الـ«كريز». فإن كانت المادّة المخدّرة «جيّدة» تكفيه لساعات أطول من تلك «غير الجيّدة»»!

وأضاف: لدى دخول المُدمن مرحلة الـ«كريز»، فهو يشكّل خطرًا على نفسه وعلى كلّ مَن يحيط به. يُمكنه أن يؤذي نفسه أو غيره، كي يحصل على مبتغاه؛ يُمكنه أن يتحوّل إلى إنسان عنيف، يسرق ويهاجم حتّى يُمكنه - في حالات معيّنة - أن يرتكب جريمة قتل! لهدف حصوله على أموال بأيّ طريقة، كي يؤمّن له وجبة تنسيه آلامه لبضع ساعات فقط، وتعيد له «حياته» لبعض الوقت. حتّى إنّ البعض قد يصل به الأمر إلى حدّ التهجّم على والديه أو أحد أفراد عائلته.

يقتل الرحمة والإنسانيّة

- حدّثني عن علاقتك بأفراد العائلة وقت كنت مُدمنًا..

ماذا يُمكنني أن أحدّثك؟! لقد كانت علاقتنا صعبة جدًّا. كنت بمثابة أب اسميّ فقط، ولكن، فعليًّا، لم أنوجد في البيت، ولم أقُم بواجبي الأبويّ. كنت أقضي أوقاتي ما بين السجن وخارج البيت. فعندما يتعاطى الوالد المخدّرات، أو أيّ إنسان كان، يقتل في داخله معنى الرحمة والإنسانيّة ليحوّلهما إلى أنانيّة. فالعالم عندي كان يدور حولي، فقط؛ باعتباري أنا المركَز.

- ألم يدفعك الرابط الأسريّ إلى التفكير، مليّـًا، في الخروج من حلقة الإدمان والإجرام؟!

فكّرت مرّات عديدة، وكنت، دائمًا، على استعداد لذلك، ولكن عند اقتراب اللحظة كنت أجبن وأتراجع. فكريًّا، أردت ذلك، ولكن فعليًّا، كان ذلك صعبًا، وصعبًا جدًّا. كلّ مُدمن يريد أن يخرج من هذه الحلقة ولكن عندما تدقّ الساعة يتهرّب ويؤجّل الأمر. ليس من السهل الخروج من هذه الدوّامة، ولكنّ ذلك غير مستحيل، بالتأكيد! وبحكم تجربتي أقول لك إنّ هذه الأمور يجب ألّا تؤجّل، بل يجب العمل عليها فورًا للخروج من حالة الإدمان.

30 عامًا من الإدمان!

- كيف قرّرت، إذًا، أنّ الوقت قد حان، وقد آن أوان الشفاء؟

لقد مللت، يكفي! إلى متى تُمكنك معاركة الحياة؟! 30 عامًا من الإدمان وأكثر، تكفي وتزيد!! تعاطيت خلالها جميع أنواع المخدّرات وأصعبها، بدأت أشمئزّ من نفسي. لقد أسأت إلى أفراد عائلتي وأقرب المقرّبين إليّ.. فبعد أن كبر أبنائي وبناتي وصار لديّ حُفَداء (أحفاد)، أصبحت أرى الأمور بشكل مغاير، لم أرِد أن يترعرع حُفَدائي في عالم موبوء؛ وبالإضافة، لم تبقَ فيّ أيّ قوّة - لا سحريّة ولا مادّيّة - للاستمرار في العالم الموبوء الّذي كنت أعيش فيه.

ليست لديّ قوّة لدخول السجون، بعد.. وأساسًا، أنا، اليوم، أختلف عن عبد المُدمن، حتّى لو أغروني بالقيام بسرقة أحصل من خلالها على عشرة ملايين دولار مقابل السجن لمدّة عام واحد فقط، فلا ولن أرضى. فأنا، اليوم، إنسان آخر «نظيف».

وأشار عبد إلى أنّ المُدمن لا يُضرّ بنفسه فقط، أو بأفراد عائلته الّذين يسكنون في البيت ذاته فحسْب، بل يُضرّ بأخته المتزوّجة أو بأخيه المتزوّج؛ أو بابنته المتزوّجة أو بابنه المتزوّج؛ أو بعمّه أو بخاله، فيكفي أن يعاير أحدٌ أقرباءَه - خلال جدال أو نقاش - بأنّ قريبهم مُدمن.. ف مجمتعنا العربيّ لا يرحم!

ابن عنيف!

وأضاف: كان من الصعب على ابني أن يتقبّل سماع أيّ كلمة جارحة في حقّي، فكان منزويًا خائفًا كَيْلا يذكرون أمامه أو يذكّرونه بأنّ والده مُدمن. حتّى إنّه تحوّل - في مرحلة معيّنة - إلى فتًى عنيف، يستعمل العنف لإخراس الآخرين. فبإدماني هذا نقلت الأمر إلى ابني عن طريق العنف؛ فكان إسكات الآخرين لديه يتمّ عن طريق لكمة أو عراك أو أكثر!! وهكذا - بشكل غير مباشر - نقلت إدمان العادات السيّئة - بأشكال مختلفة - إلى أبنائي وأبناء العائلة المحيطة بي.

إنسان فارغ وميّت!

وعن نظرة الآخرين إلى المُدمن، قال عبد: «يعتقدون أنّ المتعاطي يعيش «نشوة»، ولكنّه - في الحقيقة - يعيش أسوأ حالاته. إنّ «النشوة» وهميّة وتتلاشى بعد دقائق معدودات، ليعود بعدها إلى حالات الاكتئاب؛ فداخليًّا، هو إنسان فارغ من فحواه، ميّت في هذه الحياة.

وُلدنا لنكون أحرارًا، لا سجناء

وأضاف: هناك مثل يقول إنّ «السجن للزلام»؛ وأنا أقول لك: «السجن للكلاب».. وُلدنا لنكون أحرارًا، لا سجناء. يعيش المُدمن داخل سجنين، السجن العاديّ والسجن الحقيقيّ الداخليّ الّذي يبنيه لنفسه، فهو مَن اختار أن يسجن نفسه ليتحوّل إلى سجّان وسجين، في آن.

سجنت نفسي داخل غرفتي

ويذكر عبد بعض الأحداث الصعبة الّتي مرّ بها، قائلًا: «كانت تمضي عليّ فترات أدخل فيها البيت أحجز نفسي داخل غرفتي لمدّة أسبوع بأكمله، لا أخرج منها، فلا يهمّني ما يجري خارج باب غرفتي، طالما أملك المادّة (المخدّرات) الّتي تكفيني لمدّة أسبوع، وكأنّي بذلك أملك الدنيا بأكملها.. أسبوعًا بأكمله كنت أتعاطى المخدّرات وأخلد إلى النوم، وهكذا دواليك، لحين انتهاء المخدّر، وحينها - كالمجنون المتوحّش - كنت أترك الغرفة، وأنزل الشارع بحثًا عن المنقذ، بحثًا عن المخدّر».

«لم أفكّر في زوجة ولا أولاد.. كلّ ما كان يعنيني هو المخدّر فقط، لقد بنيت لي سجنًا داخل منزلي، وكأنّه كان ينقصني سجن إضافيّ»!

كنت أسرق الأموال من البيت!!

ويحدّثني عبد عن الأيّام الّتي كان فيها مُدمنًا، قائلًا: «أقولها عن نفسي، في مرّات عدّة كان برّاد البيت فارغًا تمامًا، لا تجد فيه سوى زجاجات مياه الشرب، لا حبّة بندورة أو خِيار أو حتّى رغيف خبز، كما كان ينقصنا بالون غاز.. داخل جيبي كان مبلغ 2000 شاقل، وأولادي بحاجة إلى الخبز والحليب، وعندما كانت تسألني زوجتي عن النقود، كنت أنكر أنّ لديّ أيّ نقود، بل أطالبها أنا بالنقود، وآخر همّي أن يجوع أفراد العائلة، فالأهمّ كان أن تكون النقود في حيازتي كي أقتني بها وجبتي».

وأضاف: «بيني وبين نفسي كنت أحتقر نفسي وألعن تصرّفاتي، ولكنّي كنت أعيد الكرّة».

المُدمن يعيش اللحظة، فلا يعنيه الغد

وحدّثنا عبد عن فترة ازدادت فيها عمليّات السرقة والقتل، قائلًا: «في بداية الثمانينيّات تفشّت ظاهرة سرقة المسنّات وقتلهنّ، وبعد التحقيق تبيّن أنّ المُدمنين وراء ذلك، فالمسنّات والمسنّين كانوا لقمة سائغة لهم؛ فلم يهمّهم ما يقترفون أو مَن هي الضحيّة، فكلّ ذلك يسهل لقاء الحصول على المخدّر. فرغم علم المُدمن أنّ إقدامه على قتل المسنّة، مثلًا، سيدفع به إلى السجن المؤبّد، لم يهب ذلك؛ لأنّ الأهمّ بالنسبة إليه هو إحضار المخدّر، لأنّه يعيش «اللحظة»، فلا يعنيه الغد!

- وهل حاولت العلاج عن طريق أساليب الفطام المختلفة؟

نعم، فعلت ذلك، لقد تمّ ذلك عام 98، حيث خضعت لعلاج في مَصَحّة حيفا («إشپوزيت حيفا») - مركَز للمعالجة من الإدمان - في شارع الكرمة («هچيفن»)، ومن هناك خرجت نظيفًا. لقد تمّت معالجتي عن طريق الدعم والنصائح والحديث مع عاملين اجتماعييّن اختصاصيّين، وهذا ساعدني كثيرًا؛ فالعلاج - بغالبيّته - مبنيّ على دعم نفسانيّ. ولكلّ مُدمن طريق شفاء خاصّة به، وأسلوب تعامل مغاير.

عندما دخلت للعلاج كنت عنيفًا كلاميًّا وجسديًّا؛ فلم يجدوا لغة مشتركة للتعامل معي، فكنت مُدمنًا من رأسي إلى أخمص قدميّ، غارقًا في أصعب أنواع السموم. إلى أن جاءني العامل الاجتماعيّ، قائلًا: إن أردت أن أساعدك، ساعد نفسك، أوّلًا!!

تغييرات إلى الأفضل

وقال عبد: خلال فترة الفطام، بدأت، تدريجيًّا، أكسبُ وزنًا، وأصبحت أستحمّ، يوميًّا، بعد أن كنت أستحمّ مرّة كلّ ثلاثة أسابيع أو أكثر. بدأت أستردّ صحّتي تدريجيًّا، ولمست التغيير، فعلًا، من قبل المحيطين والمقرّبين والأصدقاء، ما شجّعني على إتمام العلاج. لم يعد الناس يهابونني ويتهرّبون منّي، وهذا أعطاني هذا الدعم والقوّة. أصبحت لديّ شهيّة للأكل، بعد أن كانت الشهيّة - وقت الإدمان - مفتوحة على المخدّرات، فقط! ومن هنا دخلت عالمًا جديدًا أفضل.

- هل وجدت صعوبة خاصّة، بصفتك مُدمنًا لمدّة طويلة، خلال الفطام؟!

لقد مررت بمشاكل وآلام عدّة لا توصف، ولكنّ الإرادة كانت قويّة. وعندما تمرّ بعلاج مركّز يكون الأمر أسهل. في مَصَحّة حيفا («إشپوزيت حيفا») التقيت أشخاصًا يشبهونني، ومعًا مررنا الصعوبات، وحالات الـ «كريز»، ولكن - في المقابل - كان العامل الاجتماعيّ يدعمنا ويشجّعنا ويبعث فينا الأمل.

- كيف كنت تتصرّف عند إصابتك بالـ«كريز»؟!

كنت أدخل إلى الحمام لاستحمّ.. فالمياه الباردة كانت تخفّف من حدّة الـ«كريز» وتحسّن الوضع، قليلًا.

- ألم تحطّم أو تضرب؟

لا، أبدًا. كنت أتعامل مع الحالة بشكل مغاير. ففي المَصَحّة كان العنف الكلاميّ والجسديّ ممنوعًا. كانت هناك طرق عدّة للعلاج، فعندما كنت أشعر بسوء وآلالام كنت أتوجّه إلى المرشد والعامل الاجتماعيّ فأجد لديهما آذانًا صاغية وكتفًا داعمة. المُدمنون يحتاجون جدًّا إلى الدعم.. ينقص المُدمنين الدعم والمحبّة والاهتمام والعناية اللازمة.

- هناك اعتقاد أنّ طريق العودة إلى الإدمان بعد الفطام أسهل منها قبله..

قولك صحيح، ولكنّ ذلك يتعلّق بالشخص. أنا، اليوم، بصفتي نظيفًا من السموم، لن أعاشر أولئك المُدمنين الّذين كنت أعاشرهم سابقًا. لا يُمكنني أن أجول في الأماكن ذاتها الّتي كنت أجول فيها سابقًا، فلا أجد ما أفعله هناك. لا يُمكنني، اليوم، أن أجلس مع مُدمن، فلا سبب يدعوني إلى ذلك، فلا توجد بيننا أيّ لغة مشتركة بتاتًا، بينما مع شخص نظيف من السموم سأجد لغات كثيرة مشتركة.

الخوف موجود، دائمًا

- هل تخاف - بعد كلّ ما مررت به - أن تنكسر أو تنجرف وتعود إلى الإدمان؟

الخوف موجود، دائمًا. وهذا مؤشّر جيّد وطبيعيّ. أنا في حرص مستمرّ على أن أبقى على ما أنا عليه، وفي قلق دائم للعمل على الحفاظ على ذلك. أنا لا أريد أن أعود إلى ما كنت عليه. أنا، اليوم، أمتنع عن الجلوس على البار مثلًا، بجانب شاربي الكحول؛ لأنّي لا أريد العودة إلى الحلقة ذاتها. يُمكنني أن أتمالك نفسي لربّما في اليوم الأوّل أو الثاني أو الثالث، ولكن بعد ذلك، قد أنجرف؛ لذا أمتنع عن الجلوس، مسبّقًا، بجانب الكحولييّن.

مرّة واحدة قد تكفي لانجرافي.. أنا أعلم أنّني لست ممّن يجترعون الجِعة (البيرة)، لكنّ الإدمان الداخليّ يدعونني، أحيانًا، إلى اجتراعها، لكن ماذا بعد اجتراع كأس من الجِعة، فحينها براميل منها لا تكفيني!

قلت لك إنّ الخوف موجود. ولكن الانجراف والانحراف ممنوعان. لا أحد يُمكنه أن يجبرني على التعاطي من جديد، لا أحد سيشهر مسدّسه في وجهي ويرغمني على التعاطي.

الكحول قناع الهيروين!

وهنا يتدخّل موطي، قائلًا: إنّ هدف المخدّر هو تغيير الوعي والإدراك لدى الإنسان، وهو لا شكّ يؤدّي إلى التعلّق والإدمان. وإنّ كلّ مَن يريد أن يحافظ على النظافة من السّموم، عليه أن يتخلّى عن كلّ أنواع السّموم؛ ومَن يدّعِ أنّ إقدامه على شرب الكحول لا يعتبر إدمانًا، أقُل له إنّ الكحول قناع للهيروين، فمن لا يجد لديه الإمكانيّة لاقتناء المخدرات يجد حلًّا في الكحول؛ لسبب سهولة الحصول عليها وسعرها الرخيص.

- منذ متّى لم تقترب من أيّ نوع من أنواع السموم؟

ابتسم عبد وأجاب: منذ 9 أيّام و12 سنة - حتّى يوم الاثنين الأخير، موعد اللقاء - أنا نظيف كلّيًّا من أيّ مخدّر أو سمّ كان.. كنت مُدمنًا، واليوم أنا نظيف من السموم.. أعدّ ذلك بالأيّام.

- ألا تضعف و«تحنّ» إلى تلك الأيّام، أحيانًا؟!

بالتأكيد لا. فمن خلال البرنامَج الّذي نمشي حسَبه، هناك وعي كبير. فلو عدت، اليوم، إلى دائرة الإدمان، فهناك الكثير لأخسره؛ سأخسر، بدايةً، نفسي وسأخسر إيماني بنفسي وبقدراتي. سأخسر جميع مَن ساندني وآمن بي ووقف إلى جانبي. سأخسر عائلتي وأبنائي وحُفَدائي إلى الأبد.. فلن أقبل أن أخسرهم من جديد وأن أحوّل كلّ ما وصلت إليه - في لحظة تهوّر - إلى فشل.

أنا معروف، اليوم، كإنسان يتماثل من إدمانه، وأنّني نظيف من السموم. فقد قرّرت أن أسير في الطريق الصحيح. المتماثلون من إدمانهم يدعم الواحد منهم الآخر، فلا يفرّقون بين جنس وطائفة وعرق، يدعمون لهدف المساعدة والمحبّة.. فالهدف أن نبقى جميعنا نظيفين من السموم. نساعد وندعم بعضنا بعضًا.. نجتمع، يوميًّا، في تمام الثامنة لنؤكّد أنّنا نظيفون.

- كيف ينظر إليك المجتمع، اليوم؟

أسير، اليوم، في الشارع مرفوع الرأس؛ لأنّي أدرك نفسي وأعي ما أفعل. لم يعد أحد يهابني. سابقًا، كان الناس يهابونني، ويشمئزّون منّي، ويضعون أيديهم في جيوبهم، خوفًا من أن أقوم بسرقتهم. اليوم، أنا إنسان مختلف تمامًا، ولا توجد قوّة في العالم تستطيع إعادتي إلى الإدمان. لديّ إيمان قويّ بنفسي وبربّي.

- حسَب تجربتك، هل يستطيع كلّ مُدمن الخروج من دائرة الإدمان، أيًّا كان؟

بالتأكيد.. إن أراد هو ذلك. لقد أدمنت أصعب المخدّرات، وها أنا اليوم أمامك، أكبر مثال على ذلك.

حرقت أموالي وحياتي

على مدار 30 عامًا تقريبًا، وأزيد، صرفت الأموال الطائلة وعشت حياة موبوءة مذلّة، مارست الإجرام ودخلت السجون.. ولكن، أساسًا، فقدت احترام الناس لي. واحترام النفس أثمن من الأموال جميعها. اليوم، أنا أحترم نفسي، كي يحترمني الآخرون؛ أعيش في طمأنينة وراحة بال رغم أنّ المشاكل تطاردني، لكنّي أنظر إلى ما وصلت إليه، وأحمد اللّه عليه.

للحياة طعم آخر

أستيقظ صباحًا لأسمع زقزقة العصافير من دون ألم أو أيّ همّ، فلم تعُد تعنيني الأموال ولا البحث عن المخدّرات؛ أصبحت أمور عائلتي تشغلني وتعنيني. أنا سعيد ومرتاح، أحتسي القهوة مع زوجتي في ساعات الصباح، وأقضي أجمل الساعات مع أولادي وحُفَدائي.. أشعر بأنّ هناك أهمّيّة لحياتي اليوم، وبأنّ للحياة طعمًا آخر.

كنت - في السابق - أستيقظ وأغادر المنزل مسرعًا قبل أن أغسل وجهي بحثًا عن المخدّرات، أمّا الآن، فأستيقظ لأتمتّع مع أفراد عائلتي، فصباحي أصبح مختلفًا.

مجتمعنا العربيّ يتهرّب

وعن الوعي في مجتمعنا العربيّ لخطورة التعاطي، قال عبد: «المشكلة الأكبر تكمن في مجتمعنا العربيّ الّذي يغضّ الطرف عن الموضوع، ولا يعمل على زيادة الوعي. مجتمعنا العربيّ الحيفاويّ أجد لديه الوعي الكافي نسبيًّا لكلّ ما يتعلّق بالموضوع، ولكن في قرانا ومدننا العربيّة نفتقد التوعية، رغم أنّ فيها عددًا كبيرًا من المُدمنين على الكحول والمخدّرات، لكنّهم ما زالوا يهابون الحديث عن ذلك، يطمرون رؤوسهم في الرمال كالأنعام؛ خوفًا من الحديث عن الموضوع».

وأضاف: «نسمع، يوميًّا، عبر وسائل الإعلام المختلفة، عن عمليّات العنف والطعن والقتل في القرى والمدن العربيّة، فلا يكاد يمضي يوم من دون أن تسمع بمثل هذه الأحداث. كلّ ذلك لسبب عدم الدعم والتوعية؛ حتّى إنّ هناك أشخاصًا لا يعلمون من يتوّجهون إليه في حال وُجد مُدمن داخل جدران بيتهم. لا توجد مجموعات داعمة في مجتمعنا العربيّ، ولكن في حيفا، هناك عدد من الأماكن الّتي يُمكن التوجّه إليها للمساعدة والدعم».

من يتنكّر لمشكلته سيبقى في دائرة الإدمان

وأكمل: «اليوم، هناك متطوّعون مستعدّون للتضحية من وقتهم لهدف المساعدة. لا يوجد لديّ أيّ مانع من المساعدة والدعم؛ توجد في البلاد، اليوم، 132 مجموعة داعمة، جميعها في المجتمع اليهوديّ لا العربيّ، ولكن هناك مَن يجد نفسه من العرب في هذه المجموعات. في مجتمعنا العربيّ متعاطون، ولكن لا توجد مجموعات داعمة، حتّى إنّ البعض يحاول أن يتهرّب من حقيقة أنّه مُدمن، فكيف يُمكنه أن يواجه مشاكله وحلّها إن لم يعترف بمشكلته، أوّلًا. لمَ عليه أن يتنكّر.. فمَن يعِش في الإنكار، لا يعرف كيف يخرج من دائرة الإدمان؛ فالإنكار لن يحلّ المشكلة بل سيزيدها تعقيدًا».

وهنا يتساءّل عبد: «لِمَ - مثلًا - في الناصرة العليا («نتسيرت عيليت») والمجيدل («مچدال هعيمق») مجموعات داعمة، بينما مدينة الناصرة تفتقر إلى ذلك؟! وبعدها يبكون من تفشّي العنف وعمليّات السرقة والإرهاب والقتل؟! إن لم يجد المُدمن مجموعات داعمة تخرجه من دائرته وتقوقعه، فسيبقى غارقًا في حلقة المخدّرات؛ لمَ لا نوفّر لهم ذلك، فأنا مستعدّ لأن آتي للتطوّع لهدف مساعدة المُدمنين وإنقاذهم».

لا يوجد «لا أستطيع».. يوجد «لا أريد»

- ماذا تنصح الشباب المُدمن؟!

لا يوجد في القاموس «لا أستطيع»، فالإنسان يستطيع.. بل مَن

«لا يرِد» لا يستطِع!! صحيح أنّ القضيّة مقرونة بمشاكل وآلام وصعوبات جمّة، ولكنّ النتيجة تستحق التضحية. ما أجمل أن تعود إلى ما كنت عليه قبل الإدمان.

هناك حياة أخرى، حياة أفضل من الإدمان. مَن يحتَج إلى مساعدة فأنا موجود ومستعدّ لذلك؛ حبّذا لو وجدت، حينها، مَن يساعدني ويرشدني، وأنا هنا أمدّ يد العون بكلّ محبّة لكلّ محتاج.. ومعًا سنتغلّب على المشاكل لإخراجه من دائرة الإدمان، علينا التفكير في غد أفضل.

فمن خلال عملي التطوّعيّ والتوعويّ هذا، لا أبحث عن الأموال، بل أبحث عن الراحة الجسديّة والنفسانيّة لديّ ولدى الآخرين.

أدخل السجون محاضرًا لا مُكبّلًا مذلولًا!

وأشار عبد إلى أنّه يدخل سجونًا عديدة في البلاد، بكونه محاضرًا، عارضًا قصّته الشخصيّة، موعّيًا، متطوّعًا من أجل السجناء. يدخل السجن باحترام بعد أن كان يدخله مكبّل الأيدي مذلولًا. وأكّد عبد أنّه يكفيه أن يوعّي ضمير سجين واحد أو يساعد في إنقاذ آخر، ليشعر بالراحة ويجني ثمار تطوّعه.

المجتمع العربيّ يعنيني

شدّد عبد على أنّ المجتمع العربيّ يهمّه، وخصوصًا الجيل الصاعد، فلِمَ لا يوجد علاج ملائم ومجموعات داعمة، بينما الإدمان والعنف آخذان بالتفشّي.

وقال: في المدارس العربيّة لا توجد توعية كافية، ألقيت بعض المحاضرات التوعويّة في بعض المدارس العربيّة، وحكيت قصّتي كي أنبّه الطلّاب وأحذّرهم. علينا توعية الجيل الصاعد في الوسط العربيّ.. هناك مرشدون يوّعون الطلّاب في المدارس اليهوديّة، لمَ لا يتمّ ذلك في المدارس العربيّة.

وأضاف: صحيح أنّني أذهب وأحاضر إلى جانب عاملين اجتماعيين وأحكي تجربتي في جامعة حيفا، ولكن يؤلمني أننّي لا أقوم بذلك لتوعية أبناء شعبنا، طلّاب الإعداديّة والثانويّة في مدارسنا العربيّة. كلّ ما أقوم به هو تطوّع من أجل التوعية. ولا يهمّني أن أصل حتّى القرى والبلدات العربيّة، أيضًا.

تنقصنا الفعّاليّات والنوادي الملائمة

إنّ قلّة التوعية تؤدّي إلى الاستمرار في الإدمان.. ينقص هذا الجيل النوادي الملائمة والفعّاليّات المناسبة، وخصوصًا في القرى والمدن العربيّة. فبدل أن ينهي الطالب تعليمه ودروسه ويذهب إلى المكتبة أو النادي ليمارس لعبة الـ«باولينچ» مثلًا، وليلتقي - تحت سقف واحد - أبناء جيله وأصدقاءه، فيمارسون النشاطات الرياضيّة المراقَبة؛ ينهي دراسته وينزل الشارع أو حتّى الحدائق العامّة ليلتقي بعض أصدقاء السوء فيدخّن معهم النارجيلة أو يشرب الكحول، وقد يجرّب الحشيش. وهكذا تبدأ الأمور تتدهور، ثمّ يتعاطى حبوب الـ«إكستازي»، وقد يدفعه حبُّ الاستطلاع إلى طلب المزيد.. ولكن لو وجدت التوعية لأضرار النارجيلة والمخدّرات والكحول وما إلى ذلك، لما وصلنا إلى ما وصلنا إليه.

مسؤوليّة التوعية تقع على رجال الدين، أيضًا

وعن ذلك قال عبد: على رجال الدين أن يحذّروا من الإدمان وخطورته، في الكنائس والمساجد؛ وأدعوهم إلى دخول البيوت المستورة، وخصوصًا تلك الّتي أحد أفرادها مُدمن، فأطفالهم في أمسّ

الحاجة إلى الحليب والخبز، فبيوت المُدمنين ينقصها الكثير - أقولها عن تجربة.

- كلمة أخيرة..

أشكركم على سماعي ونشر تجربتي، يكفيني أن يؤثّر لقائي في مُدمن واحد ويغيّر حديثي فيه أشياء.. فما مررت به لا أرضاه لغيري، وخصوصًا أبناء مجتمعي العربيّ.

ولكلّ مدمن أقول، إن استطعت فيمكنك الخروج من هاوية المخدّرات ومن الحياة الموبوءة الّتي تحياها؛ تذكّر لا يوجد «لا أستطيع» يوجد «لا أريد»!!

استعمال المضامين بموجب بند 27 أ لقانون الحقوق الأدبية لسنة 2007، يرجى ارسال رسالة الى:
[email protected]