في حالة العرب الفلسطينيين في إسرائيل، "التبرّج اللغوي" هو دلالة عجز ومؤشر على وجود ثقافة عليا وثقافة دنيا لاحتكاك الحضارات ببعضها البعض العديد من الأسباب المباشرة وغير المباشرة. ويتمثّل أحد النتاجات الهامة للاحتكاك الحضاري في استعارة حضارة ما من الأخرى. من المحتمل أن تنعكس الاستعارة سلوكيًا أو ماديًا أو لغويًا على الحضارة الأخرى.

الاستعارة من لغات أخرى هي ظاهرة معروفة ووُثِّقت عبر القرون في اللغات المختلفة. فاللغة العربية أثرت وتأثرت بعشرات اللغات. ونرى في التاريخ الحديث تأثير وتأثر العربية من التركية، وتأثير الفرنسية على العربية في شمال أفريقيا، والتأثر من الانجليزية في كافة الوطن العربي، وخاصة مشرقه. فبسبب عمق الاستعارة والانتقال من العربية الى الفرنسية وبالعكس في دول شمال أفريقيا، هنالك من يتحدث عن "عرنسية"، أي خليط من العربية والفرنسية. هذا الخليط هو أسلوب كلام له دلالات رمزية في معظمها لها صلة بمفاهيم الحداثة والمكانة اللغوية.

دخول الانجليزية الحلبة في جميع بقاع الأرض، بما فيها الوطن العربي، زاد من استعمال خليط من العربية والانجليزية (إن شئتم العرجليزية!!) التي لها ارتباط بالحداثة والمكانة العالية، ولا شك في أنّ العولمة وعلاقات القوة عززت هذه المفاهيم. سبب آخر هو النظر الى العربية، وخاصة الفصحى، على أنها تقليدية، وبمفهوم الكثير من الاشخاص في العالم العربي، لغة غير قادرة على مواكبة التطوّرات في المجتمع الحديث. وكما جاء على لسان مستطلعين في أبحاث عن اللغة في شمال أفريقيا، فقد تكرّرت المقولة "إنّ العربية لغة الربّ، والفرنسية لغة الحداثة". إذًا نتحدث ليس فقط عن استعارة لغوية، وإنما عن ظاهرة لغوية لها إسقاطات عميقة على الهُوية وتصور الذات. ففي استعمال خليط من لغتين، هنالك تأكيد على اللغة الأخرى وما لذلك من دلالات رمزية حول هُوية الآخر والتي لها مكانة عالية.

يوضح البروفيسور ياسر سليمان، الأخصائي المعروف في مجال اللسانيات، وأستاذ الدراسات العربية الحديثة في جامعة كامبردج، مخاطرَ ما أسماه "التبرّج اللغوي" في المجتمعات العربية، حيث يتمّ استعمال اللغة الأجنبية على حساب حضور العربية. ليست المسألة استيعاب مظاهر من اللغة الأخرى لسدّ نواقص في مجالات معينة، وإنما شعور المتكلم بمكانة عالية حين يستعمل مظاهر اللغة الأخرى في لغة الأم.
ما هو الوضع بين العرب الفلسطينيين في إسرائيل؟ هنالك استعارة مكثفة ومتزايدة من العبرية، والخليط بين اللغتين أصبح دارجًا وخاصة بين جيل الشباب. هذا الخليط شائع في كثير من مجالات حياتنا، الى حد ذهاب البعض إلى تسمية هذه الظاهرة بالـ"عربرية"، أي لغة ناشئة جديدة لا هي بالعربية ولا بالعبرية، أي لغة بينية. أهو الوضع كذلك؟ هذا ما سنحاول أن نبيّنه في هذه المقالة.


تُعتَبر العبرية اليوم لغة مركزية في المخزون اللغوي للفلسطينيين مواطني دولة إسرائيل. العبرية ضرورية لكل عربيٍّ فلسطينيٍّ في إسرائيل، لأنها اللغة السائدة في جميع المجالات العامة تقريبًا، سواء في أماكن العمل، في المكاتب الحكومية، في التعليم العالي، في المؤسسات الصحية، أو في وسائل الإعلام والكنيست. ومن الصعوبة لعربي أن يُصرَّف أموره بدون اكتساب معرفة كافية بالعبرية خارج مكان سكناه. لكن الاستعمال المفرط للغة العبرية لا يقتصر على سدّ حاجات يومية، بل يتعداها لمسألة الهوية والثقافة.


أصبح قاموس حياتنا اليومية يعجّ باللغة العبرية. فأفواه أهلنا، من صغير وكبير وذكر وأنثى شمالاً وجنوبًا، مليئة بمفردات اللغة العبرية. في أحايين كثير تُستعمل العربية ولا تكاد تخلو جملة من استعمال مفردات عبرية، إلى حد أنّ المرء لا يعرف أن اللغة عربية أم عبرية، أو الصحيح أن يقال أنها ليست عبرية وليست عربية، وإنما "عربرية"، لغة هجينة. استعمال اللغة العبرية كثيف وعميق ومتغلغل في كل مناحي حياتنا. فنرى المشهد اللغوي بلافتاته يعج بالعبرية، وفي بلدات معينة نجد اللغة العبرية لغةً وحيدة، أكثر بروزًا وهيمنةً من العربية. في المدارس العربية، وخاصة في المرحلة الثانوية، هنالك مواضيع تستعمل بها اللغة العبرية، أو مدرِّسون (وخاصة بالعلوم) إما يتحدثون، أو يكتبون، أو يستعملون المصطلحات العبرية في تعليمهم. إلى حد بدا هذا الخليط بين اللغتين مشروعًا للكثير منا.


لربما لن يفقد العرب الفلسطينييون لغتهم العربية، ولكن ستكون "العربرية"، وهي لغة بينية، سمة بارزة في مخزوننا اللغوي. ذهب البعض الى نعت مثل هذه الظاهرة بالعجز. فعندما يكون خليط من هذه النوع ستكون هنالك دلالات واضحة بأنّ هنالك ثقافة عليا وثقافة دنيا، وفي هذا السياق الثقافة العربية الفلسطينية هي الدنيا، والثقافة الإسرائيلية اليهودية هي العليا. والأهم من ذلك أن هذه اللغة الجديدة ستكون انعكاس لمدى تذويت الأسرلة بين العرب-الفلسطينيين في الداخل، وأيضا لربما تعتبر بعض من نجاحات الحركة الصهيونية من أن يتبنى أبنائنا لغة بينية، تعكس هُوية العربي-الإسرائيلي المفصّلة على مقاس الدولة اليهودية، والتي طالما دأبت المؤسسة الاسرائيلية على تنميتها وتعزيزها.


عادة عند الحديث عن الهوية العربية-الفلسطينية نتحدث عن البعد العاطفي. لكن ليس أقل أهمية هو الممارسة لهذه الهوية على أرض الواقع. واللغة من أحد أهم المؤشرات والمركبات لهذه الهوية. لزامًا علينا ترجمة الانتماء لهُويتنا ليس فقط عاطفيا، وإنما بالممارسة للغتنا العربية على مستوياتها المختلفة وفي شتى المواقع، وممانعة نشأة "العربرية"، هذه اللغة الهجينة والبينية والتي تعكس تراخيًا في هُويتنا، إن لم يكن أكثر من ذلك. 

(محاضر في كلية بيت بيرل ومدير وحدة الأبحاث في "دراسات" – المركز العربي للحقوق والسياسات)

أحببت الخبر ؟ شارك اصحابك



 

استعمال المضامين بموجب بند 27 أ لقانون الحقوق الأدبية لسنة 2007، يرجى ارسال رسالة الى:
[email protected]