لم تستطع السنين الأربعة والعشرون التي أمضاها عميد أسرى نابلس إبراهيم الطقطوق أن تنسي عائلته ملامح وجهه التي تبدلت وتغيرت مع الزمن، بل كلما زاد البعد زاد الشوق والحنين والانتظار.
في سجن ريمون الصحراوي يمضي عميد أسرى مدينة نابلس الملقب "بالطقطوق" سنين سجنه، والتي بدأت منذ قرابة العقد وبالتحديد في 3/3 / 1989، حيث يتنقل من سجن لأخر ومن معتقل لآخر، يحمل معه ملابسه وذكريات محفورة في القلب والوجدان.

الميلاد والنشأة

في البلدة القديمة في مدينة نابلس، حيث العراقة والأصالة والتاريخ ورائحة الشهداء وجدران المدينة التي بقيت صامدة رغم كل اعتداءات الاحتلال طيلة سنوات، والتي تبدل عليها الأتراك والإنجليز واليهود.
نشأ إبراهيم، الشاب الفلسطيني الذي عشق تراب هذا الوطن فعاش اليتم ولم يبلغ من العمر سوى 13 عاما ً فاحتضنته الوالدة بين ذراعيها وهو أصغر أطفالها وأرضعته لبن العزة .

ومع بدء الانتفاضة الأولى وأول أيامها، ثار إبراهيم مع من ثار ورشق دوريات المحتل بالحجارة وأشعل النيران ورفع العلم الفلسطيني وارتدى الكوفية وتلثم بها، محاولاً إخفاء نفسه كما تعرض إبراهيم للإصابة بالأعيرة النارية ست مرات متتالية دون أن تستطيع هذه الرصاصات من أن توهن عزيمته أو تمنعه عن مواصلة النضال فاستمر بمقاومة المحتل وهو طفل صغير.
باءت كل محاولات العائلة بالفشل في أن تثني إبراهيم من إلقاء الحجارة خوفاً عليه فهو الإبن الأصغر لهذه العائلة المناضلة المكونة من ابنتين وولدين .

حكاية فقدان إبراهيم لبصره

في ليلة من ليالي الانتفاضة، اقتحم الاحتلال منزل إبراهيم وطلب من عائلته تسليمه، وحينها لم يكن إبراهيم متواجدا في المنزل، وقد كان ذلك من حسن حظه، وإلا سيكون مصيره الموت المحقق، ومن هذه اللحظة أصبح إبراهيم مطاردا.
أم رامي، شقيقة إبراهيم تقول في حديثها لمركز "أحرار" لدراسات الأسرى وحقوق الإنسان:" إن العائلة شعرت بالخوف على إبراهيم وشعرت أن الضابط جاد في تهديداته، لكن إبراهيم لم يكن يعبأ لمثل هذه التهديدات، وكان يقول دائما: "إن كان في العمر بقية فلن يستطيع أحد أن يقصره أو يطيله".

وتضيف أم رامي: "وما هي إلا أيام قليلة حتى نصب الاحتلال كمينا لإبراهيم وأطلق عليه رصاصة أصابت عينه اليمنى فوقع مغشيا عليه، الأمر الذي جعل أبناء ونساء الحي يهرعون إليه، واستقبلته أمه ووضعته على يدها وجن جنونها حين علمت أن طفلها الصغير هو المصاب وتذكرت كلام الضابط الذي هدد بقتله فحملته وباتت لا تدري أين تذهب به إلى أن تم نقله إلى مستشفى المدينة، وهناك تم نقله إلى مدينة القدس، حيث قرروا انتزاع عينه وبعد ذلك فقد الذاكرة قرابة ال40 يوما إلى أن عادت له بقدرة الله " .

"سأنتقم لعيني التي قلعوها"

قرر إبراهيم الثأر لعينه، وأقسم أن رأس جندي لن يكفيه لهذا الثار.
توسلت له أمه، وطلبت منه أن ينسى ذلك الأمر فقال لها: " ليس على هذا ربيتني"، ومضى يخطط للأمر وهو لم يتجاوز من العمر 17 عاما، لكنه الإصرار والقوه والإرادة .
ومع مجموعة من الفتية الصغار، ربط إبراهيم على إحدى مباني مدينة نابلس القديمة، وهناك كان قد أعد حجرا كبيرا يطلق عليه بلغة المدنية لقب (ساقوف)، وبصعوبة بالغة استطاع إبراهيم رفع الحجر نظرا لكبر حجمه، ثم انتظر مرور رتل من الجنود قبل أن يلقي الحجر الكبير الذي حطم رأس جندي منهم وأرداه قتيلا.
هرب إبراهيم ومن معه محاولا أن يخفي الأمر، لكن وبعد اعتقال عدد من الجيران كشف أمر الفتى الذي قرر أن يصبح مطاردا، وأن يصبح المطلوب رقم (1) في المدينة .
اقتحم الاحتلال منزله مرات عدة، وأبلغوا العائلة أنه سيتم اغتيال إبراهيم، ومع كل ذلك أصر على البقاء مطاردا .
تشرد وتنكر
تقول أم أحمد شقيقة الأسير :" إن إبراهيم امتاز بحس الدعابة وكان من أكثر شباب الحي نشاطا وحيوية، حتى أنه في إحدى المرات، اقتحم الجيش منزلنا وكان إبراهيم موجودا فاختفى في غرفتي وارتدا ملابسي ووضع منديلا على رأسه ولبس حذاءا نسائيا، وحين طلبت قوات الاحتلال منا الخروج، خرج إبراهيم متنكرا بزي فتاة، وقد ذهلنا جميعا"، وتكمل أم أحمد:"لقد مر إبراهيم من جانب أمي التي لم تتمالك نفسها، وابتسم لها وقال لها بصوت نسائي "الله يحميه ابنك يا أم حلمي"، وخرج من بين الجنود، وما إن وصل إبراهيم آخر الطريق، وتأكد أنهم لن يستطيعوا الإمساك به، حتى نزع المنديل ونظر إليهم وشتمهم ولاذ بالفرار، الأمر الذي أفقد الجنود صوابهم .
لم تطل مطاردة إبراهيم، فقد تم اعتقاله ذات مرة، واقتيد لإحدى مراكز التحقيق، وحينها، لم يكن قد تجاوز ال17 عاما ،وتعرض هناك لتحقيق قاس قبل أن يصدر حكم المؤبد ضده .

رحيل الأم

لم تستطع أم إبراهيم الطقطوق تحمل فراق ابنها طويلا، فأصابها المرض والإعياء وبات جسدها غير قادر على حملها للذهاب لزيارته، فكانت سيارات الصليب الأحمر تقوم بنقلها إليه وهي على كرسي متحرك، إلى أن فارقتها المنية فكان ذلك اليوم الأصعب على إبراهيم، وأصعب من فقدانه عينه بسبب الاحتلال.

حرمان من الزيارة

تضيف الشقيقتين، أم أحمد وأم رامي أنهما بالكاد تستطيعان زيارة إبراهيم مرة واحدة في العام، وذلك بعد وساطات لمؤسسات حقوقية وتدخل الصليب الأحمر، وفي كل مرة تكون هناك حجة واهية، لعدم وجود صلة قرابة أو ما شابه، الأمر الذي يزيد من قلق الأخوة على إبراهيم الذي لازالوا يعتبرونه الطفل الصغير، كونه "آخر العنقود"، كما تقول شقيقته أم أحمد للمركز الحقوقي "أحرار".

صفحة على الفيس بوك

ابنة شقيقة إبراهيم، سهام الطالبة الجامعية في السنة الثانية في كلية الهندسة بجامعة النجاح الوطنية، والتي ولدت وخالها قيد الأسر، أنشأت لخالها الأسير صفحة على الفيس بوك باسم "عميد أسرى نابلس إبراهيم الطقطوق"، والتي من خلالها تقوم سهام بنشر صور خالها والحديث عنه والتذكير به.
وتقول سهام لمركز "أحرار" :" لجأت لمثل هذه الفكرة من أجل تعريف العالم بخالي ومعاناته، ومعاناة زملائه، خالي الذي عشقت ذكره واسمه من جدتي التي ماتت وهي تتحدث عنه".

وتضيف سهام :" يؤسفني هذا الضعف الإعلامي في التعريف عن أسرانا ومعاناتهم في سجون الاحتلال، لذلك عمدت إلى مواقع التواصل الاجتماعي للتعريف بخالي الأسير، ونقل معاناته".

مديرمركز أحرار لدراسات الأسرى وحقوق الإنسان، فؤاد الخفش، أشاد بتاريخ إبراهيم النضالي على طول السنين، والذي يعتبر إحدى الشخصيات المحبوبة على مستوى السجون .
يذكر، أن إبراهيم من مواليد 5/1/1971، وكان عمره عندما اعتقل 18 عاما، أمضى منها 24 عاما، حيث اعتقل في 3/3/1989.


 

استعمال المضامين بموجب بند 27 أ لقانون الحقوق الأدبية لسنة 2007، يرجى ارسال رسالة الى:
[email protected]