في لقاء خاص مع الدكتور توفيق قاسم أبو نصرة، أخصائي الأمراض العصبية والنفسية، يشرح لنا أسباب ارتكاب القاتل لجريمة قد تخلّف أكثر مِن ضحايا، وقد تودي في النهاية إلى انتحار الجاني، كما حدث في مجزرة دبورية التي خلفت خمس ضحايا من البلدة، عن أسباب الجريمة في مجتمعنا العربي في الداخل يخصنا د. أبو نصرة بهذه التفاصيل الهامة والدقيقة، إذ يقول: "في حالةِ القتل الذي يسببه الدافع الغريزي، يكون الحديث عن الحيوانات التي تقتُل مِن أجلِ صراع البقاء، بحثًا عن طعامٍ وتكاثر، وعائلة ومساحة جغرافية، كما يفعل الأسد لحماية نسله. أما الإنسان فلا يحتاج للقتلِ من أجلِ ذات الصراع، فالطعام متوفِر، والعيشُ آمِن، وحين يُضطر الانسان إلى القتل فإنّ سببًا آخر يقف وراء فعلته، كالدفاع عن النفس، وعن الكرامة، والأنا العليا، لكن عند الإنسان يُستبدل الدافع الغريزي الحيواني، بالسيطرة على الكائن الذي يرى فيه القوي ضعفًا، كالرجُل حين يرى أن المرأة ضعيفة، وبحاجة إليه، وهناك أسباب أخرى لقتلٍ بشع هو كسب الأموال والتسلّط على الآخرين، ماديًا ومعنويًا. كما تندرج العدوانية بين الأسباب التي تؤدي بالإنسان للجوء الى القتل، وفي هذه الحالة قد يصل الإنسان المُقبل على القتل إلى كتلة من الاحتقان النفسي والجسدي والنفسي وعدم التفهم الذاتي، وعدم القدرة على محاورة الآخرين، الأمر الذي يؤي في النهاية إلى مهاجمة الغير، أو الذات أو الانتحار.

أسباب العدوانية!
مِن بين أسباب العدوانية هي العولمة الموجودة، بكل تطوراتها الهائلة، التي تجعل الانسان لا يتحمل كل هذه التطورات من ناحية نفسية، فهو غير معتاد على التخلي عن عاداته وتقاليده وثقافته، ويصبح هناك فجوة داخلية نفسية هائلة ما بين العادات والتقاليد والمُباح مِن الإفراط في المشروبات الروحية وتعاطي المخدرات والمهدئات التي تؤدي لإضعاف الحواجز النفسية المسموح بها، أما العامل الثاني المُسبب لهذه الفجوة الداخلية النفسية فهي عدم الحصول على دعمٍ عائلي واجتماعي وعدم الإدراك أنّ هذا الشخص يمرُ بأزمة اقتصادية أو اجتماعية أو سياسية أو ورطة عائلية، كما حصل للقاتل في دبورية، الذي طلّق مرتين، وهذا يُشير إلى حالته النفسية، التي تؤدي في العادة إلى الاكتئاب، والمسماة باللغة النفسية (بسيخوباتية)، وهي عبارة عن اضطرابات نفسية وشخصية، بحيثُ قد يقتل القتيل ضحيته ويمشي في جنازته دون أن ترمش له عين، وهذه الشخصية البسيخوباتية لها علامات مسبقة، تعود الى فترة الطفولة، فقد يُصاحب هذه الحالة النفسية الصغار، عندما يخجل هؤلاء الأطفال من الترطيب (التبول اللاإرادي)، فيتحول الضغط النفسي إلى تصرفات مؤذية للحيوانات، وحتى قتلها أو إحراقها، أو إحراق النفايات، وحتى التدخين، أو استعمال الحشيش، إضافة الى الهروب من المدرسة، والتشاجر مع الأطفال أو المعلمين، وحين يكبُر الأطفال، يتحولون إلى مُسيطرين ويشعرون باعتزاز كونهم مِن مجتمعٍ ذكوري (بترويارخالي)، الذي ينظر إلى المرأة ككائن ضعيف، وكشيء في البيت، لا قيمة لها، ولا حاجة لها إلا في تربية الأبناء، ولا يسمحُ لها بالتحدث أو الجدال أو التمرُد، ويكون رده قصاصًا فيزيائيًا، وهكذا يحصل مع الكثير مِن النساء، إذا علمنا أنّ أكثر من ألفي شكوى نسائية قُدمت إلى الشرطة، وفقًا للقانون الصادر عام 91، الذي يُعاقب الرجل الذي يُعنّف المرأة.
يضيف: "الشخص )البسيخوباتي) لا يستطيع السيطرة على غرائزه ومنع عنفه، وهو موجود أيضًا بين النساء وليس فقط الرجال، فهناك أمهات يضربن أولادهن مثلاً، فيتربى الأطفال على العنف، فيضرب الواحد منهم الآخر، وما هذه السلوكيات الا مظاهر سلبية يتمتع بها بعض أبناء مجتمعنا، وهي إشارة على أنّ طفل المُستقبل، سيكبُر وسيُصبح "مشكلجي" وعنيفا ضد زوجته ومجتمعه أيضًا. ويؤكد د. نصرة أنّ هناك عوامل أخرى تتسبب في اندلاع العنف في مجتمعنا، مِن بينها: الإضطرابات النفسية، الانفصام في الشخصية، الهوس، الشك، الظنون، الكرب، القلق، الوسواس القهري. وهذه الحالات تولّد الشكوك في نفسية الزوج أو الزوجة، فقد تشكُ الزوجة بزوجها، فتقلب حياته جحيمًا لا يطاق. وقد يشكُ الزوج بزوجته، فينظر الى تفاصيل تافهة جدًا جدًا، ويبدأ بنسج قصة خيالية، ويعتقد أنها حقيقية وواقعية، وهي ليست كذلك أبدًا، وفي أحيانٍ كثيرة تودي هذه الشكوك بصاحبها الى التهلكة، بسبب الهوس عند الرجل أو المرأة.

ويشير د. توفيق أبو نصرة أنّه يصعُب على الشخص أن يتخلص من شكوكه ولا ينجح بالتخلص من هذا الأمر إلا بالاستعانة بطبيب نفسي أو عامل اجتماعي. وأحيانًا كثيرة لا تنتبه عائلة المريض أنّ الزوج، ابنها يتصرف بشكلٍ يدلُ على أنّ حالته شاذة، وتصرفاته مُريبة، ومُتسرع جدًا، لذا وجب الانتباه والتحذير من التصرفات الخارجية الصعبة والخطيرة.

د. توفيق ابو نصرة: 12.5% من المرضى النفسيين يتوجهون إلى العلاج النفسي
يقول الدكتور أبو نصرة أنّ مجتمعنا العربي لا يتمتع بالثقافة النفسية، وأنّ نصف أفراد المجتمع يعانون من اضطرابات نفسية، ومظاهر قلق واكتئاب. ويرى أنّ العنف والقتل سببهما اضطرابات الحالة النفسية، "وإذا علمنا أنّ 1800 شخص قاموا بإطلاق الرصاص والشرطة لم تُحرك ساكنًا،وهذا ليس حالة واحدة من الحالات النفسية، بل هي أكثر من حالة نفسية، والعدوانية واحدة منها، ومع العدوانية تتسع بقعة العنف في مجتمعنا العربي، مع انعكاس في الوضع الاقتصادي والعائلي والاجتماعي في هذه الفترة، إلا أنّ كل ذلك لا يبرر الحق في ممارسة العنف".

كيف نمنع استمرار الجرائم في مجتمعنا؟!
يقترح د. أبو نصرة عدة حلول بينها: التفّهم وتقبل الواحد للآخر والتخاطُب بلغة مشتركة والإصغاء لبعضنا البعض. ويقول: في يومنا هذا هناك ضغوطات كثيرة، واضطهاد مترسخ في داخل العائلة، فأحيانًا كثيرة تُساهم المرأة في إضعاف المجتمع وطمس أخلاقياته، ففي بعض الأحيان تضطهدُ المرأة – المرأة، فقد تعتبر الحماة (والدة الزوج)، ابنها (مش زلمة)، إذا احترمَ طلبات زوجته، هذه الكلمات، من حيثُ ندري أو لا ندري كفيلة بخلق العنف. كما أنّ الزواج المتبادل مِن أسوأ أنواع الزواج، فإذا كان الشخص سعيدًا مع زوجته، بينما أخته غير سعيدة مع زوجها، فإنّه قد يُفرض عليها أن تنصاع للأوامر دون مناقشات.

وعلينا كعائلة أن نحترم مسألة الهرمية، الأب والأم والأبناء الكبار ثم الصغار، وفي ذلك تكون التربية الصحيحة واحترام الآخرين.
كما ينصح الدكتور أبو نصرة بالتعامل بهدوء ورصانة مع النساء، دون إقحام الصراخ في التعامل مِن قبل الأمهات أو الآباء، حتى ينشأ جيل جديد أكثر احترامًا وتقديرًا لوالديه ولعمله.

يرى د. أبو نصرة أنّ للعنف أسبابًا بيئية، مثل الضغوطات والازدحامات في السكن، والوضع الاقتصادي السيء والبطالة والضوضاء وقضايا اجتماعية أخرى، كما أنّ عاداتٍ وتقاليد مهمّة زالت مِن واقعنا حاليًا، كاحترامِ الكبير للصغير، وعدم الاهتمام بالصرعات الحديثة مثل مسألة العولمة، وحينَ نتحدث عن العادات والتقاليد، أذكُر المشهد الذي أراه لأكثر مِن مرة في المطاعم، إذ يجلس الأصدقاء في حلقةٍ معًا، يطلبون مشروبًا باردًا أو ساخنًا، لكنّ أيًا منهم لا يتحدث إلى الآخر، فكلُ شخصٍ منهم يقوم بتقليب جهاز الآيفون. وكلٌ منهمك برسائله البريدية عبر الـ.اس ام اس. بينما تغيب الأخلاق الإنسانية عن اللقاء، ولم يكذب المثل الذي قال "لاقيني ولا تغديني"، بمعنى أنّ الغذاء النفسي أهم من الغذاء والطعام، وإن اختلفنا فإنّ الرأي العام مختلف، لكن الاختلاف لا يُفقد للودِ قضية.

استعمال المضامين بموجب بند 27 أ لقانون الحقوق الأدبية لسنة 2007، يرجى ارسال رسالة الى:
[email protected]