مصطفى درويش الكرد ابو الدرويش عَلمٌ من الأعلام المؤسسين لموسيقانا الفلسطينية المبتكرة من شرايين جذورنا وأعماق قضيتنا الفلسطينية وغير المستنسَخة او المقلّدة بعمىً لما هو مهيمن من حولنا. 

استطاع مصطفى الكرد ان يشقّ طريقه وأن يجد اسلوبه الخاص لحَناً وغناءً وعزفاً وأداءً والتزاماً بقضايا شعبه وناصرا للفقراء والمظلومين، مجبولا ببيئة مميَّزة، جعلته يبني تميّزه الخاص بقوة جيناته ومكتسباته، فما ورثه واكتسبه من الوالدين وتأثّره بهما سار جنبا الى جنب مع ما أَكْسَبَتْهُ له تجربته البيئية من تجاربه الحياتية، حيث عايش الفقر وحياة العمال والفلاحين والكادحين والمظلومين، وعاشر الباحثين والموسيقيين وتَلْمَذَ وتَتَلْمَذَ، فنحَتَ إبداعه من هاتين التجربتين، أي الجينية والمكتسبة.

الوالد صوفي الهوية ومبدعها

تأثّر مصطفى واستفاد من صوفية والده درويش الذي كان يمارس شعائر الأَذكار والتراويح والأغاني الصوفية، والذي كان ملمّاً باللغة العربية والقرآن والتراتيل، بالإضافة الى تأثّره من أغاني والدته المشحونة بالتهاليل والنواحيات والبكائيات. صوفية الوالد وغناء الأم عبّآ روحه فجعلاها تتشبّث بالموسيقى والغناء وساعدا في تكوين توجّه اسلوبه المشحون بالأداء الصوفي الدرويشي الشرقي. أليسَ في اسم مصطفى ودرويش اشارة الى انهما اسمان على مسميين المصطفى والدرويش؟

اصبحت الموسيقى جزءا من حياته. إنّ العنصر التصويري والأدائي لعبا دورا هاما في موسيقاه، وبخاصة انه عايش التجربة المسرحية الدرامية، فعندما يغني لا يخلو اداؤه من دراما ومسرح. لم يكتف بالمقام والصوت بل ايضا بتميّز الأداء.

كانت تلك أجواء غنائية موسيقية نغماتية ايقاعية روحانية تراكمت وتخزّنت في كيان مصطفى، وهي مخزونات لها دلالات جمالية إبداعية وفنية وروحانية وتصوفية ودرامية لما لها من علاقة وثيقة بالفن والأداء المسرحي، وكل ذلك لم يتناقض ومبدئة الاشتراكي الأممي الانساني الماركسي، بل مكمّلا وداعماً لهذا التوجّه التقدمي والثوري في شخصيته. لقد انجبلت شخصيته بكل هذه التجارب والممارسات.
لقد تكثّفت بداخله الحاجة الملحّة للتوجّه الى لفن الوطني الملتزم متشجّعا من وصول اعمال الشيخ امام واحمد فؤاد نجم الينا، وبخاصة بعد ان سمع "يعيش أهل بلدي".

كل ذلك ساهم في السمو بثقافته الفنية والشمولية حيث ألَمّ في مجال التلحين والعزف والغناء، ومارس التمثيل في المسرح، وذلك بانسجام تام مع انتمائه السياسي والثوري، والمرتبط بشكل عنيد ومتفانٍ بالقضية الفلسطينية.

بين العامية والفصحى

كتب كلمات أغانيه ولحّنها، وعزف على العامية والفصحى، وغرف من منهل الشعراء العظماء وغنّى موّاله من خلالهم من امثال محمود درويش وتوفيق زياد وسميح القاسم وفدوى طوقان وعز الدين المناصرة وكمال ناصر وحنا ابو حنا وناظم حكمت. اصبح واعيا الى لعبة المفردات التي تتحول الى جمل والجمل الى موضوع والموضوع الى اغنية ولحن، وكثيرا ما نسمع نتاجه فنشعر ان ما يقدّمه جزء من لساننا.

مصطفى الكرد فنان شمولي، فهو موسيقار وملحن ومغنٍّ وعازف وممثل، فقد صقلته التجربة الفنية، وزاوج في أدائه بين الأداء الموسيقي والأداء المسرحي، وهو أحد المواكبين والمساهمين والمشاركين في عملية تأسيس الحركة المسرحية في بداية السبعينات من القرن المنصرم، واشترك في التمثيل والغناء والتلحين في مسرح بَلالين، وصندوق العجب، وبِلا-لين، فشارك في مسرحيات مثل "القاعدة والاستثناء"، "مصارعة حرة"، "تَعْ ت اخرّفَك يا صاحبي"، "ترباية عمّي"، "عنتورة ولطّوف"(للأطفال) و"لما انجنينا".

مع نهاية سنة 1948 هُجّر مصطفى الكرد مع عائلته الى أريحا من حي البقعة، وهو احد احياء القدس، عقب إصابة عمّه في معركة النوتردام، وبقوا هناك حتى بداية سنة 1950، ثم عادوا الى القدس ليستقروا في حي "باب حُطّة" ومن ثم في حي "باب السعدية" وحي "باب العامود". لم يدر ظهره للقضية الوطنية بعد ان اشتهر، ولم تُغْرِهِ الشهرة طمعاً في العالمية كي يهرب من القضية الأم.

وعندما  اعتقلته سلطات الاحتلال الاسرائيلي في 28/12/76 خُيِّر بين البقاء في السجن او الإبعاد الطَّوعي فاختار الإِبعاد الطوعي الى الاردن،

ومنها الى بيروت حيث بقي هناك من سنة 1977 حتى سنة 1979.

غبار النكسة

في اوج الهزيمة ظهر هؤلاء الفنانون العصاميون من امثال مصطفى الكرد ونفضوا عنهم غبار النكسة او الهزيمة، بعد أن كانوا قد ذاقوا قبلها مرارة النكبة والتشرد والتهجير، وبدؤوا مسيرة الانبعاث والنهضة من جديد، فساهموا كثيرا في فترة المدّ القومي والوطني المنبعث من تحت الحطام ورماد الاحباطات والهزائم، فأغنوا ساحاتنا بالمعنويات والفن الملتزم، فظهرت أغنيته التي اصبحت شعارا لتلك المرحلة: "هات السكّة وهات المنجل اوعى بيوم عن ارضك ترحل" ومن ثمّ "الأمل"، و"الأرض".
كان من الطبيعي ان يكون امتدادا طبيعيا لمؤسسي المدّ الابداعي الموسيقي والشعري والغنائي لعالمنا العربي منذ سيد درويش والشيخ امام واحمد فؤاد نجم وصالح عبد الحي وبيرم التونسي ورياض السنباطي وبليغ حمدي ومحمد الموغي وعبد الحليم حافظ ومحمد عبدالوهاب، فنحن مهما فرَّقتنا تقسيمات "سايكس بيكو" نبقى جزءا عضويا لا يتجزّأ من عالمنا العربي.

مصطفى الكرد فنان عصامي بكل جدارة. ولد في بيت فيه اربعة اخوة واخت وهو الخامس بين اخوته. توفي والده وهو لا يزال في الثالثة عشرة من العمر فأصبح هو المسؤول عن إعالة العائلة، وأصغر اخوته لم يبلغ بعد عاماً ونصف من العمر.
في اوائل الستينات عمل مصطفى في الحدادة، وفي الوقت ذاته تعلم العزف على آلة العود على يدي صديق له من نابلس، والذي لم يتحمس كثيرا

لكي يدرّسه الموسيقى لأنَّ ذلك سيكون على حساب إعالة العائلة، لأن الموسيقى لا تطعم خبزا، فقد تسحبه الموسيقى من مسؤولياته العائلية، فتزيد البيت من الفقر فقراً، ولكنّ حبّ مصطفى للفنّ لم يثنِه عن القيام بالواجبين معاً.

تطويع العود وتليين الحديد

مهنة الحدادة وما يشوبها من مخاطر على جسده كانت تتناقض مع حاجته لسلامة أنامله التي يحتاجها لكي يمسْكَ بها ريشة عوده وليداعب أوتاره، ولكنّ إرادته القوية مكّنته من تليين الحديد وتطويع العود. حبّه للغناء والعزف جعله توأما متلاصقا مع عوده كالتصاق التوأمين السياميين. 

الحدادة والموسيقى حالتان بعيدتان كل البعد عن بعض، فالموسيقى تحتاج الى رقة وأنامل ناعمة، بينما الحديد يحتاج الى الخشونة والمخاطرة الجسدية، ولكن الاصرار على الحياة والإرادة القوية جعل الجماليات الابداعية والموسيقية والغنائية تهوّن من قَساوة الحديد، ومن خلالها طوّع الحديد وليّنه.
وكما عزف حكواتينا العربي الفلسطيني على اوتار صوته وجسده معزوفة اللعبة المسرحية التغريبية التهويلية ولم يكن متنبّها للناحية التنظيرية الكامنة فيها الى ان نظّر لها المسرحي الألماني بيرتولد بريخت والتي اطلق عليها ملحميّة التغريب ممارسة وتطبيقا، فهكذا ايضا اصبح مصطفى الكرد واعيا لهذا الموروث المؤسس له فقط بعد ان درس أبحاث العربوالغربيين خلال إقامته في اوروبا،والذين قيموا الموسيقى الشرقية والفن الشرقي بشكل علمي. لم يكن يدرك أنّ عمقها التاريخي وتميّزها الحضاري يحوي بداخله نظريات متماسكة الا بعد أن قرأها وسمع عنها، مع انه مارسها بشكل طبيعي كجزء من رصيده الشرقي الموروث والمكتسب. تعرف على البروفيسور الفلسطيني حبيب توما وعلى باحثين غربيين وقرأ أبحاثهم وشارك في منتدياتهم.

يقول مصطفى: "حياتي مع العمال واقترابي طبقيا من حياتهم وحياة الفلاحين صقل حياتي وتجربتي. تعلمت ما معنى الصراع الطبقي والفرق بين الطبقات المسحوقة من الفقراء والْمُستَغَلين وبين الطبقة البرجوازية والثرية. هذا التنبّه رافقني بشكل دائم إحساساً وممارسةً قبل ان أُثَقّف نفسي قراءة او تنظيرا من النظريات المكتوبة. لقد عشت ذلك ومارسته بدون الارتباط الذهني بالنظرية. كنت أفسِّر الأشياء بناء على علاقتي بالواقع وليس عبر أبحاث ونظريات مكتوبة".

ترك بيروت الى المانيا حيث فُتح امامه باب الابداع من اوسع ابوابه فقد عرف قيمة الحضارة العربية والشرقية والاسلامية ومختلف الثقافات العالمية. احس بأهمية قضية فلسطين من أوسع أبوابها، فزاد ذلك من شمولية معارفه وثقافته، واكتشف ان له رفاقا وعزوة متضامنين معه ومع قضيته، وأن لديه جيشا من المضطَهَدين والمظلومين في العالم. وضع نفسه جنديا في هذه الحركة العالمية وأصبح من خلالها يرى بُعدَه الانساني، الأممي العالمي الذي يعطي القيمة الكونية للقضايا الانسانية والقضية الفلسطينية كجزء اساسي فيها.

وهكذا ففي اوروبا وفي المانيا بشكل خاصبدأ الكرد يتثقف على الابحاث والنظريات التي نبّهته الى حقيقةِ مدى عمق حضارتنا وموسيقانا الشرقية والعربية.

العالم الروحاني الابداعي

أيقن مدى قوة ثقافتنا الشرقية الموجودة أعماق تراثنا وسيرنا الشعبية وفي الصوفية والقرآن وموسيقى الجوامع والمشايخ وفي طقوسنا الديني وتقاليد أفراحنا وأتراحنا، بمفهومها الروحاني الجمالي الذائقي والابداعي والتأملي، وليس بمحدودياتها التعصبية والمتشنجة. 

الابحاث التي تعرّف عليها من كبار الاساتذة الغربيين والعرب في اوروبا ومن خلال قراءاته ومخالطاته جعلته يكتشف مدى عمق تراثنا وحضارتنا العربية والشرقية بشكل عام. أيقن أننا امتداد للموصلي والأرمون والفارابي وابو الفرج الأصفهاني وزرياب وطويس والموشحات وموسيقى الدراويش والصوفيين ورقصاتهم المتسامية، وكم كانت فرحته كبيرة عندما حلّ ضيفا على جامعة برلين وتعرف على البروفيسور الباحث الفلسطيني المعروف حبيب حسن توما الذيقدّم اطروحة الدكتوراة عن "مقام البيات"،بينما قدّمت زوجة البروفيسوراطروحة الدكتوراة عن "الأذان".

وعندما عاد عودته الدائمة من المانيا الى فلسطين سنة 1983 استعاد مجهوده الابداعي في البلاد بعد أن انتدبه مؤسسو مسرح النزهة الحكواتي(فرانسوا ابو سالم، ادوار معلّم، راضي شحادة، ابراهيم خلايلة، جاكي لوبيك) وبدعم من مجلس امنائهم الجديد بإدارة مركز الموسيقى في المسرح، ومن خلال مركز الموسيقى قدّم اجمل الحانه وموسيقاه لمسرحية "عنتر في الساحة خَيّال" و"الف ليلة وليلة من ليالي رامي الحجارة" و"يويا" للأطفال و"حكايات الصلاة الأخرى".

درويش فخر بط عوّام

يؤمن مصطفى ان مسيرته تتوجت وتكللت عند بناء عائلته الصغيرة منذ زواجه من الدكتورة الالمانية "هيلغا باونغارتن" استاذة العلوم السياسية في جامعة بير زيت، حيث رُزقا بابنهما درويش الذي اسمياه كذلك على اسم جده درويش. كان هذا التتويج حالة ولادة طبيعية ناتجة عن قناعات مبدئية ولم تكن بالصدفة، بل جزء من القناعة والايمان بما يفكر مصطفى من قناعاته الاممية والانسانية. درويش فرخ بط عوّام اكتسب الموسيقى واللحن جينيا وبيئيا، وهو يقوم بإكمال مسيرة والده المصطفى على أتم وجه.
مصطفى الكرد فخر لنا ورصيد ملازم لقضيتنا العادلة كقضية حضارية يقودها فنانون ومبدعون ويقومون بخدمتها بشكل سامٍ لا يقل سموا عن أشكال النضالات السياسية والنضالية.

* راضي د. شحادة- مسرحي وكاتب فلسطيني من الجليل

استعمال المضامين بموجب بند 27 أ لقانون الحقوق الأدبية لسنة 2007، يرجى ارسال رسالة الى:
[email protected]