منذ أن وعت ذاكرتنا الشبابية المبكرة وتفتحت مشاعرنا الوطنية، ونحن نتخذ الناصرة لنا مثالا ونقتدي بمآثرها. أول مدينة عربية عرفناها كانت الناصرة، وأول عاصمة لنا كشعب كانت وتبقى الناصرة. الناصرة بلد المسيح والبشارة.. بلد التسامح والتآخي والمشاركة.. بلد التحدي والاصرار والمدرسة الوطنية.. بلد الثقافة والفن والعلم والتاريخ.

أولى زياراتي الى مدينتنا العربية الأولى كانت في مرحلة الدراسة الثانوية، مع صديقي وزميل الدراسة المرحوم نبيل الشيخ (الذي أصبح مهندس بلدية شفاعمرو)، حيث كانت دار خالته، فكنت أرافقه في زياراته، وكنا ندخل سوق الناصرة ونتمتع بالتجول فيه، وندخل البيوت دون أن نعرف بيت من وما هو دين أصحابه. وفي تلك المرحلة سمعنا عن طلاب الناصرة الذين استقبلوا رئيس الحكومة آنذاك اسحاق رابين بأغنية "هزي يا نواعم" التي تحولت الى نشيد وطني لذلك الجيل. واليها تنادى الطلاب الثانويون العرب، وكنا من بينهم، متحدين السلطتين البلدية والحكومية، اللتين حاولتا افشال المهرجان الأول لهم بقطع التيار الكهربائي عن قاعة سينما الناصرة، وكان الطلاب العرب قد التحدي وأعلنوا عن قيام اللجنة القطرية للطلاب الثانويين العرب، في الناصرة عاصمة العرب.

وموعدي الثاني مع الناصرة كان أثناء دراستي في دار المعلمين العرب، حيث توطدت علاقة صداقة متينة مع زميل الدراسة النصراوي المرحوم أيضا المربي غصوب جرجورة، ابن حارة الروم والنشيط الكشفي، وكنا كثيرا ما نشد الرحال الى عاصمة الجماهير العربية، وهناك نلتقي شلة الأصدقاء من الناصرة وشفاعمرو وعين ماهل ويافة والرينة والمشهد وكفر كنا، ونقوم بجولات في المدينة العريقة. ومن خلال الصديق غصوب تعرفت الى الناصرة بشكل أعمق وأوسع، حيث كان يصطحبني الى بيوت أصدقائه في أحياء المدينة المتعددة، نتعرف الى أصدقاء جدد ويحتفون بوجودنا بينهم، دون أن نعرف أو نسأل حتى عن طائفة ودين، وهل كان من يفكر بذلك أو ينتبه له حتى بملاحظة بريئة، فكنت أشعر أن أي بيت نصراوي هو بيت ليس للنصراويين فحسب بل للعرب أجمع، فهي عاصمتنا بحق وحقيق.

وفي تلك الأيام حصل الانقلاب الكبير الذي جاء بجبهة الناصرة بكل مركباتها الى قيادة البلدية، واستلم الشاعر الوطني توفيق زياد رئاسة البلدية، وكنا نتجند ونحضر للمساهمة في بناء ناصرة الكرامة والخدمات من خلال العمل في أيام العمل التطوعي، وقضاء أجمل السهرات الشعبية والوطنية.

وفي المرحلة الجامعية توسعت شعبة العلاقات مع أهلنا وأبناء شعبنا في الناصرة، وأسسنا في شفاعمرو "رابطة الطلاب الجامعيين" وعقدنا اللقاءات المشتركة مع رابطة الجامعيين النصراوية والذي تحول قسم منهم الى قيادة للمدينة في البلدية وهيئاتها السياسية والثقافية، لنتبادل الخبرة ونستفيد من تجربة رابطة الناصرة التي كانت أحد مركبات الجبهة التي أحدثت التغيير الكبير في ادارة بلدية الناصرة وفي وجهها الناصع.

وفي تلك الأيام أوكل إلي الشاعر سالم جبران، الذي كان يرأس تحرير مجلة "الجديد" أن أعد تقريرا عن رابطة الجامعيين في الناصرة ودورها في تحقيق الانقلاب التاريخي في بلدية الناصرة كأحد مركبات الجبهة، بعدما لاحظ مدى اهتمامي بموضوع روابط الجامعيين، وانطلقت الى الناصرة في زيارات متعددة ولقاء شخصيات أكاديمية نصراوية، ولأن العمل جاء جديا ومعمقا وتقديرا منه للدراسة نشرها على حلقتين مانحا المادة مكانة الصدارة في أعداد مجلة "الجديد".

وأصبحت الناصرة قبلتنا، فالمهرجانات السياسية الكبيرة والأعمال الفنية من مسرح وسينما ومعارض وندوات، تقام في الناصرة وتحولت الناصرة الى عاصمة لنا وباتت قطعة من قلوبنا تسكن وتقيم في الناصرة. فالناصرة لم ننظر اليها يوما على أنها لسكانها فقط، كما أن أبناءها لم ينظروا إليها كمدينتهم الخاصة، ولم يستأثروا بحبها لوحدهم.

واليوم عندما ينفطر قلبنا على الناصرة، ونحن نرى شعلتها تخبو وأركانها الانسانية تتهاوى.. لا نقول هذا من باب المجاملة أو التعاضد، انما لأننا نشعر بأن الناصرة تخصنا وتخص كل مواطن عربي، وله فيها ما لأبناء الناصرة فيها.. كيف ننام ونحن نرى الناصرة بحاجة لمن ينصرها، وأبناؤها يتصارعون ويتباعدون، بعدما كانوا متلاحمين لا تقوى رياح الحقد والعداء والنميمة من دخول مسامات علاقاتهم الاجتماعية.. ولأن الناصرة عاصمتنا ولأن الناصرة وجهتنا، لا نضعها في قلوبنا فحسب، كما تعلمنا من شاعرنا أديبنا العربي – العالمي جبران خليل جبران، بل نعيش في قلبها الحي الذي يشملنا بمحبته، والذي نصلي كي يبقى قلبا حيا يجمع جميع العرب في خيمة محبته إلى الأبد. آمين. 

استعمال المضامين بموجب بند 27 أ لقانون الحقوق الأدبية لسنة 2007، يرجى ارسال رسالة الى:
[email protected]