سجّلت نساء عكا بعد الكارثة سجلاً حافلاً بالصمودِ والرغبةِ في البقاء رغم الوجع الكبير، نساءُ عكا اللواتي كُنّ يتحدثن إلى بعضهن من خلال الشبابيك، كانت ساعاتُ الودِ واللقاء تكتمل بفنجانِ قهوةٍ لدى الجارة اللحوح، لكنّ الكارثة حوّلت طعم اللقاءات الصباحية، إلى حسرةٍ سكنت قلوب الذين هُجروا مِن بيوتهم التي تهاوت فتساوت بالأرض، لكنّ الرغبة الجارفة بالعودةِ إلى البيوت، هي بالأساس نسائية، فنساءُ عكا اللاتي اعتدن هواء بحرها، والتعرجات الجميلة في قلبِ البلدة القديمة، زقاقات ودكاكين القديمة المُعتّمة، لا يمكنهن أن يخرُجن إلى حياةٍ أخرى، في فنادق حتى لو كانت خمسُ نجومٍ، فرائحةُ المكان وفرحِ العائلة لا تسكُن المكان مهما كان قريبًا مِن منزلها في عكا القديمة.

في عكا نساء مناضلات

نورا منصور، ابنة عكا، ناشطة اجتماعية وسياسية، تحملُ في داخلها شعورًا مشابهًا لسائر نساء عكا،تمتزجُ المشاعر لديها بين الحنين إلى الماضي وبين الحاضر القاتِل، الذي خلّف دمارًا، سيطولُ الزمن حتى ينساه أهلُ عكا.

نورا منصور، واحدة من صبايا عكا الذين تشبعوا بعطرِ المكانِ وحُبِ الوطن، وهِي لم تترُك أهل عكا لوحدهم، حين شعرت أن صرخاتهم تعلو فوق الأسوارِ ومن خلفِ الجدران.

تقول نورا: هي سبعُ عائلاتٍ فقدت جميع ممتلكاتها، بعد تهدُم بيوتها، وتبدو المرأةُ في هذه الكارثة أكثر قوةً وإصرارًا رغم الدموعِ وسيل الهموم، ولم تنجح موظفة صندوق المرضى "كوبات حوليم"، مِن كسرِ معنويات الأم العكاوية التي فقدت كلُ ما لديها، وبقيت بطاقة العلاج تحت الركام، قالت لها الموظفة، يجب أن تدفعي كي تحصلي على بطاقة أخرى، قالت السيّدة أنها لا تمُلك قرشًا واحدًا، فردّت الموظفة: "لا أستطيع مساعدتك"، عادت الأم إلى الفندق الذي تقيم فيه، احتضنت أطفالها وسهِرت حتى ساعات الصبحِ، إذ أنّ حبوب المنوم لم تشفع لها ولعائلات مِن النومِ دونَ قلقٍ وخوفٍ مِن المُستقبل.

تقول نورا: "المعنويات لدى النساء قوية رغمَ الوهن والضعف والقلقِ، لكنّ حُلم العودة إلى البيت "قاب قوسين أو أدنى"، وترفض العائلات وخاصةً النساءُ فيها التنازل عن حقهن في العودةِ إلى بيوتهن، مصدر الأمان الذي كن يشعرن فيه طوال سنواتٍ ماضية".
أما شقيقات، أحمد سعدي، الذي حاول الانتحار، فإنهن يعرفن أنّ الطابو بأيديهم هو سلاحهن في مواجهة سياسة البلدية ومحاولتها انتزاع آخر ما يملكنه، رغمّ أنّ البيت يحتاج إلى ترميم، ومُنعت العائلة مِن دخوله، لكنّ الشعور أنّ شيئًا مِن البيت بين يدي العائلة، هو مصدر سعادة رغم الضياع الحالي – تقول نورا.

في عكا تعرف جميع النساء أنّ الإرادة في البقاء لن يستطيع أن يزعزعها أيُ تهديدٍ أو وعيدٍ أو مخططات، أو محاولات تهجير، أو حتى بإلقائهم في البحر، فأهلُ عكا، وناسُها تسقطُ الأشياء مِن حولهم لكنهم أبدًا لا يتركون المكان.

النقب مُستهدفٌ: المرأة في النقب ليست ماكنة تفريخ!

على الرغم من ارتفاع عدد المثقفات والمتعلمات في النقب، فإن الصورة العامة للنساء لا تزال قاسية، وفيها إشارة واضحة إلى الغُبن اللاحق بالمرأة البدوية. وليس مستهجنًا أن يكون ثلث النساء البدويات يعانين اضطرابات نفسية بسبب الاكتئاب، ويُعانين ضغوطاً اجتماعية عائلية، في ظلِ عاداتٍ قديمة تفرض على المرأة شريك حياةٍ لم تختره، وتُلزمها الإنجاب كماكنة تفريخٍ لا تتوقف إلا بعد أن تتعطّل، إضافة إلى ظاهرة تعدُد الزوجات، وهو نهجٌ بدويٌ متوارَث لم تستطع عجلة العصرِ أن تمنعه ولا حتى إسرائيل التي يبدو أنّ قانونا لديها في شأن منع تعدد الزوجات لا يُطبَّق في النَقب. كما أنّ عددًا من النساء يعانين ظروفاً صحية صعبة، خاصة في أوساط سكان القرى غير المعترف بها، حيث لا يحظى النقباوي بالخدمات الصحية الأساسية، ومن بينها التطعيم.

معظم النساء في النقب معطلات عن العمل كما الرجال، وفي بعض الأحيان يتم استدعاؤهن للعمل في التنظيف في فنادق بعيدة عن مكان سكناهن كفنادق البحر الميت، الأمر الذي يبدو غريبًا ومُستهجنًا وغير مقبولٍ، بينما تُضطر غالبية النساء للعمل في الزراعة كأجيرات من ساعات الصباح حتى آخر النهار، بمعاشٍ زهيد وظروف عملٍ قاسية".

تعقّب صفاء شحادة مديرة جمعية "معًا" الداعمة للنساء في النقب بالقول: «الوضع الاجتماعي في النقب للأسف لا يتحسن، بل أرى أنه يعود إلى الوراء من النواحي الاقتصادية والاجتماعية، ويزيد الفقراء فقرًا، ما يدفع النساء إلى سوقِ الزراعة، وهو سوقٌ للعبيد، ويُسيطِر المقاولون على النساء ويجبرونهن على البدء في العمل من الرابعة صباحًا حتى ساعات العصر، حيث تترك الأم أطفالها مهملين في الشوارع، مِن أجل تحصيل أجرٍ شهري لا يزيد على 2000 شيكل».

ارتباط الوضع الاجتماعي بالسياسة

ويبدو جليًا أنّ العوامل الاجتماعية التي أثرت في سكان النقب وجعلتهم فقراء ومضطربين وباحثين عن مصدرِ رزقٍ، مرتبطة ارتباطا كبيرًا وخطيرًا بسياسة الإقصاء الممنهجة التي سعت الدولة العبرية إلى فرضها منذ أن تحولت البقعة الجغرافية الصحراوية إلى منطقة عسكرية، وأقيم جدارٌ في منطقة "السياج"، ليُبعدهم عَن سائر فئات المجتمع الفلسطيني.

خلّف هذا الإقصاء المتعمّد أبعاد اجتماعية سلبية كثيرة، وغيّر نمط حياة شريحةٍ سكانية كانت مكتفية وراضية بِما لديها، حيث كانت تعتاش على زراعة القمح وتربية المواشي، ورأس مالها "كرامتها"، لكن بين ليلةٍ وضحاها - تقول شحادة – "أُجبروا على أمرين: حياة مدنية مختلفة كليًا عن نمط حياتهم وعاداتهم المألوفة، وتحولوا من ملاكين إلى معدمين، من دون فرص عملٍ مُتاحة. والأمر الثاني هو توطينهم في حاراتٍ، بحيث صارت كل عائلة تسكُن في حارةٍ، بينما لا تواصل بين هذه العائلات، حتى أنّ الحارات تُسمى بالأرقام، ما يعني الإبقاء على الإطار القبلي لا العكس، فظلّ العرب في النقب مجتمعًا بدويًا وليس عربيًا، بفعلِ السياسة المقصودة للدولة المحتلة".

أما ما يُعرف باسم "المكاتب الاجتماعية" في الجنوب، فهذه المكاتب لا تقوم بدورها كما يجب، ولا تؤثر في المعطيات القاسية التي يعانيها أهل النُقب، ولا سيما بسبب ظاهرة تعدد الزوجات.

وتقول شحادة: كيف يمنعون هذه الظواهر السلبية إن كان 90% من مديري المدارس أزواجاً لأكثر من امرأة؟!

استعمال المضامين بموجب بند 27 أ لقانون الحقوق الأدبية لسنة 2007، يرجى ارسال رسالة الى:
[email protected]