هل لدينا إستراتيجية وطنية جامعة؟ هذا عنوان مطروح للنقاش، خصوصاً في هذه المرحلة الحساسة بالذات، ذلك أن الوضع الفلسطيني برمته يشهد تراجعاً في ظل متغيرات دراماتيكية عربية وإقليمية ودولية، ومع وجود طرف إسرائيلي قوي ويستأسد على الجميع بما في ذلك حليفته الولايات المتحدة الأميركية.

هذه المتغيرات حساباتها مختلفة عن حسابات الوضع الفلسطيني، ويبدو للناظر والمتابع أن المحيط العربي قلق ومقلق، وهناك دول عربية كثيرة منشغلة جداً بأوضاعها الداخلية، وأما الدول الكبرى الغربية فهي منشغلة في قضايا تعتبرها مهمة وملحة في ذات الوقت، أولاها الملف الأوكراني وتداعياته، وكذلك الحال بالنسبة للملف السوري الذي يشكل امتداداً لجوهر الأزمة بين الغرب والأميركان من جهة، والروس وحلفائهم من جهة أخرى.

يضاف إلى هذه الانشغالات، الملف النووي الإيراني الذي تلتئم حوله الاجتماعات بين طهران والغرب، من أجل التوافق وإيجاد آلية مناسبة تدعو إيران لوقف تخصيب اليوارنيوم بمستويات عالية وبالتالي وقف صناعة سلاح نووي.

كثيرة هي الملفات المعقدة التي تطغى على الملف الفلسطيني في الأولويات، بالرغم من أن الإدارة الأميركية سعت كل الوقت لإطلاق مفاوضات ومدها "بالأوكسجين" الاصطناعي حتى تتوفر عوامل تمديدها وإطالتها بين الطرفين الفلسطيني والإسرائيلي.

الطرف الإسرائيلي يمثل "الغيلان" أو ما يسمى "بالحيتان" في موضوع المفاوضات، فهم يعتمدون على منهج واضح ورؤية يتفقون عليها في الجوهر وقد يختلفون عليها أمام الإعلام، وهم أكثر من يتمسكون بما يسمى الثوابت الخاصة بهم.

أكبر دليل على ذلك، أن إسرائيل منذ اتفاق أوسلو تبنت سياسة الاستيطان، وظلت متمسكة بحقها في التوسع الاستيطاني والعمراني، والآن هناك سياسة واضحة تجاه القدس الشرقية، حيث تعمل تل أبيب بقوة على تهويد هذه المدينة وضمها إليها.

وليس قديماً كشف رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو رؤيته ورؤية بلاده التي تدعو الفلسطينيين إلى الموافقة على يهودية الدولة، وهذا يعني أن هناك إستراتيجية إسرائيلية تقوم على أن إسرائيل إذا أرادت الموافقة على سلام مع الفلسطينيين فإنه لا بد أن يخدم تطلعاتها وأجندتها وأن يتفق مع الإستراتيجية التي وضعتها.

الكل الإسرائيلي يغرد داخل السرب، والجميع متفق على أن الثمن الذي ينبغي أن تدفعه تل أبيب لتمديد المفاوضات لا بد أن يكون بخساً جداً ولا يلبي الحد الأدنى من المطالب الفلسطينية، الأمر المنعكس بقوة على المشهد المفاوضاتي الحالي.

فلسطينياً، لو وضعنا الحالة الفلسطينية برمتها تحت المجهر، فإننا سنلاحظ الكثير من القضايا الخائبة، وفي مقدمتها أن البنية السياسية الفلسطينية ملتبسة ونتائج الانقسام الداخلي وفرت وغذت حالة الالتباس هذه، إلى جانب أن الوضع الاقتصادي الفلسطيني صعب للغاية، وإذا كان هناك حديث عن التنمية بشموليتها، فإما أنها متراجعة أو متوقفة أو في أفضل حالتها "متسلحفة".

لا يمكن الحديث عن تنمية اقتصادية واجتماعية بدون وضوح في الرؤية السياسية، وبدون التسلح باستراتيجية وطنية تشكل خط سير العمل الفلسطيني، مع العلم أن الانقسام الداخلي أحدث شللاً كلياً في الجسم الفلسطيني وأعادنا إلى الوراء على مستويات كثيرة.

المرجعية الفلسطينية ملتبسة وهذا الرأي يتبناه أناس كثر في الداخل والخارج، إذ ينبغي تجديد منظمة التحرير الفلسطينية حتى تعبر عن المجموع الفلسطيني، وكذلك الحال بالنسبة للمجلس التشريعي المعطل منذ بدايات الانقسام منتصف حزيران 2007.

إذا كانت المرجعية ملتبسة والتشريعي معطل، فإن الحياة الفلسطينية أيضاً معطلة، وهي كذلك مسيَّرة بواسطة سلطتي قطاع غزة والضفة الغربية، وهذا الفعل السلطوي ينعكس على الأداء الفلسطيني العام المترهل الذي يعاني من ضربات الانقسام الملعون.

إسرائيل تغرد داخل السرب ونحن نغرد خارجه، هم موحدون ومنظمون إلى أبعد الحدود، ونحن مختلفون في الرؤية والمنهج والمعتقد، وكل فصيل يحيل موقفه بناءً على خطه السياسي ومعتقداته الخاصة، وفي النهاية لا أحد يعرف إن كانت هناك استراتيجية وطنية جامعة ومتفق عليها.

السلطة الفلسطينية وكذا المفاوض يؤمنون بالسلام خياراً استراتيجياً، والحكومة في قطاع غزة ترفض كل أنواع وأشكال المفاوضات وتتبنى المقاومة المسلحة، لكنها تعجز عن ضبط إيقاع وحدوية هذه المقاومة إلا حينما تريد وكيفما تشاء.

هذا البون الشاسع في الرؤية والمنهج لا يمثل حقيقةً الإستراتيجية الوطنية الفلسطينية الجامعة، لأن هذه الأخيرة تقوم على مرتكزات من ضمنها وحدة الحال ووحدة الرؤية والخطاب، ومثل هذا الانقسام في المواقف يضعف القضية الفلسطينية.

لا أحد يعرف ما هي الحدود الدنيا للمقبول والمرفوض في حال توقفت أو استكملت المفاوضات، ولا أحد يعلم إن كانت بالفعل هناك خطط بديلة للتعامل مع وقت الأزمات، وكل ما يجري هو محاولات خجولة للعودة عن الانقسام الداخلي في ظل غياب التوافق بين أطرافه.

إن الوضع الحساس الذي تشهده أزمة المفاوضات، يستلزم من القيادة الفلسطينية صياغة خطاب جديد يستند إلى رؤية تستهدف الكل الفلسطيني، وهذه المرحلة الصعبة ينبغي فيها على الجميع أن يتحمل مسؤولية عالية لإعادة اللحمة الوطنية.

الاستراتيجية الوطنية إن لم تكن غائبة فهي غير موجودة، وتتطلب توافقاً حولها وهذا يعني التخلص من الانقسام واعتماد شراكة وطنية قائمة على المرجعية الشعبية، ويحتاج الموضوع إلى معالجة جذرية تعني استنهاض وإحياء جميع المؤسسات واعتماد برنامج وطني موحد ومؤهل للتعامل مع مختلف الأزمات.

ولا يقتصر الأمر عند هذا الحد، وإنما يتجاوزه إلى الاتفاق حول مسائل المقبول والمرفوض والثوابت في العمل الفلسطيني، وإيجاد طرق لإعادة تمكين الشعب الفلسطيني بثوابته وهويته الوطنية وتفعيل علاقته وبناء الثقة بقيادته.

ويجوز القول، إن الاستراتيجية الوطنية الجامعة تمثل صمام الأمان للجميع، للقيادة والفصائل والشعب أيضاً، وهي تشكل عامل قوة وثبات في وجه المخططات الإسرائيلية، لأن وضوح الرؤية مع الاستناد إلى قاعدة جماهيرية عريضة، توفر السلام وتحصن المشروع الوطني الفلسطيني.

أيضاً لا يمكن إغفال أهمية الارتكاز إلى عمقنا العربي مهما كانت حالته، فهذا العمق يعزز من قدرة الشعب الفلسطيني على مواجهة الاحتلال، لكن إذا كانت الاستراتيجية الوطنية حاجة ومطلبا ملحا للنهوض بالحالة الفلسطينية، فإن البحث عن قوة دولية جديدة تدعم الفلسطينيين، ينبغي أن يؤخذ في الحسبان، لأن الوسيط الأميركي لن يكون في أي يوم نزيهاً.

استعمال المضامين بموجب بند 27 أ لقانون الحقوق الأدبية لسنة 2007، يرجى ارسال رسالة الى:
[email protected]