في أزمنة القحط، مثل الزمن الذي يمر به لبنان اليوم، لا غرابة في أن تضم لائحة الأسماء المتداولة للمرشحين للرئاسة معظم الوجوه التي حفظها اللبنانيون وعايشوا التجارب المرة معها منذ ما يقارب ربع قرن. وكأن الحياة السياسية اللبنانية أصبحت عاجزة عن إنجاب شخصيات جديدة، لا صلة لها بالحرب ولا تتحمل مسؤولية الدماء التي سقطت فيها.

توقفت عقارب الساعة قبل ربع قرن. وها إن أبرز مرشّحََين للرئاسة الآن، عن فريقي 14 آذار و8 آذار، هما الرجلان اللذان واجها بعضهما عام 1990 في حرب أطلق عليها «حرب الإلغاء»، وكانت نتيجتها الوحيدة هي إلغاء حرية القرار اللبناني.

قبل تلك الحرب، كان العماد ميشال عون خاض «حرب التحرير» بهدف إخراج القوات السورية من لبنان، كما أعلن يومها. لكن نتيجة تلك الحرب كانت النتيجة التي توقعها الجميع باستثناء عون، وهي هزيمة الجيش اللبناني الذي كان بقيادته في وجه القوات السورية، واقتحام تلك القوات مقر وزارة الدفاع وقيادة الجيش، وقتل وأسر عدد كبير من الضباط، فيما فرّ عون إلى مقر السفارة الفرنسية التي وفرت له بعد ذلك اللجوء السياسي في فرنسا. أما مصير لبنان، بنتيجة «حرب التحرير»، فكان الخضوع للوصاية السورية على مدى 15 سنة.

وبمقدار ما يمثل عون حالة فريدة في السياسة اللبنانية، لجهة قدرته على التحول من ضفة إلى أخرى، كما حصل مع سورية بالأمس، وكما هو حاصل اليوم في علاقته المستجدة مع تيار «المستقبل» الذي سبق أن كال لقيادته أبشع الشتائم والاتهامات، فإن الأحكام والتهم الموجهة ضد جعجع، أو التي صدرت بحقه، وبصرف النظر عن صحتها، تجعل اسمه مرتبطاً مباشرة بنزاعات الحرب، ولا تؤهله بالتالي ليلعب الدور المطلوب اليوم من رئيس الجمهورية الذي يجب أن يكون قادراً على كسب ثقة جميع اللبنانيين ليكون حَكَماً عادلاً في صراعاتهم.

إذا كان من تفسير لبقاء الوجوه نفسها المرشّحة للرئاسة، فهو أن العمل السياسي في لبنان يمر في حالة موت سريري، ولم يعد ينتج إلا السياسيين أنفسهم، على رغم الكوارث التي حلّت على أيديهم باللبنانيين، وبالمسيحيين منهم على وجه الخصوص.

أما التفسير الآخر، فهو أن قوانين المحاسبة، أي محاسبة السياسيين على ارتكاباتهم، وقطع الطريق عليهم لمنعهم من تكرارها مرة بعد أخرى، هذه القوانين سارية في معظم دول العالم، من الدول المصنّفة في عداد العالم الثالث إلى الدول المتقدمة، إلا في لبنان، مع أن أهله لا يترددون في التباهي بكونه بلد الإشعاع والنور! لا يمكن تصور بلد آخر يتيح شعبه لسياسييه القدرة على تخريبه مرة بعد مرة مثلما يحصل في لبنان.

لقد بلغ الشعب اللبناني درجة من الاستهتار ببلده وبمستقبل أولاده حتى لم يعد يرف له جفن حيال إمعان أهل السياسة في الاستخفاف بذكائه وبذاكرته، وفي الاعتماد على غرائزه الطائفية التي تدفعه إلى الوقوف إلى جانب «الزعيم»، بل وراءه، مهما بلغت المساوئ والمفاسد والصفقات التي يرتكبها.

ليس سمير جعجع وميشال عون مختلفَين عن معظم الوجوه التي تتعاطى السياسة في لبنان. وما الكلام عنهما تحديداً هنا سوى لأن اسميهما هما بين أكثر الأسماء تداولاً في بورصة الترشيحات الرئاسية، وذلك على رغم أن الرجلين أصبحا رمزين لمرحلة من الحرب الأهلية أدت إلى انهيار المؤسسات الدستورية والأمنية (بما فيها الجيش). كما خلّفت المواجهة بينهما عدداً كبيراً من القتلى والجرحى ودماراً هائلاً لم تتعرض المناطق ذات الغالبية المسيحية (المسماة شرقية آنذاك) لمثله في أشد مراحل الحرب.

إن مسؤولية القائمين على الطائفة المارونية مسؤولية كبيرة، طالما أن هذه الطائفة لا تزال تحتفظ بمنصب رئيس الجمهورية. مسؤولية الموارنة ومصلحتهم أن يكون مرشحهم أو مرشحوهم للرئاسة وجوهاً تفرض احترامها على الجميع بنظافتها وكفاءتها وبقدرتها على إدارة شؤون البلد وتكون رمزاً لسيادته. أما إذا كانت الترشيحات تقتصر على من نسمع ونرى، فإن من حق كثيرين أن يتساءلوا عن المفيد الذي يقدمه شاغل المقعد الأول في الدولة لخدمة لبنان والدفاع عن شعبه.

استعمال المضامين بموجب بند 27 أ لقانون الحقوق الأدبية لسنة 2007، يرجى ارسال رسالة الى:
[email protected]