لا شيء يجمع بين "سعد حرز الله، و"عماد جرادة"، و"جبر البنا"، القاطنون في مدينة غزة، فهم لم يتقابلوا وجها لوجه في حياتهم، لكنهم يتقاسمون "ذاكرة مؤلمة" لـ"مجزرة" عاشها آبائهم قبل 66 عاماً، جنوبي إسرائيل.

سعد وعماد وجبر

فالثلاثة (سعد وعماد وجبر) هم أبناء لثلاثة لاجئين فلسطينيين، نجوا من "مذبحة" ارتكبتها الجماعات "الصهيونية" بحق مدنيين فلسطينيين، في مثل هذا اليوم (23 مايو/أيار من عام 1948)، في مدينة بئر السبع، جنوبي فلسطين المحتلة، وذلك بعد أيام قليلة مما يعرف بـ"نكبة فلسطين"، التي حدثت في 15 مايو/آيار من ذات العام.

وبعد بحث طويل عن حمدي حرز الله، وحبيب جرادة، ومحمد البنا، الذين نجوا من تلك المجزرة، تفاجأ فريق وكالة الأناضول في قطاع غزة، بأنهم رحلوا عن الحياة خلال السنوات العشر الماضية.

غير أن الفريق واصل البحث عن عائلات هؤلاء "الشهود" كي يشحذ منهم الذاكرة ليرووا حكاية تلك "المجزرة" التي "لم توثق بعد".

وما إن وصلت وكالة الأناضول إلى سعد حمدي حرزالله (60 عاماً)، حتى بدأ في سرد ما تعرض له والده عام 1948:"كان والدي ممن بقوا في مدينة بئر السبع، بعد حدوث النكبة منتصف شهر مايو/أيار، حيث رفضوا ترك ديارهم".

و"بينما كان والدي متوجهاً إلى جنوب المدينة، عثر على ملجأ تحت الأرض، كان بداخله 7 فلسطينيين، غالبيتهم من كبار السن والنساء والأطفال، يحتمون به، والخوف يسيطر على كل منهم، خشية أن يتم إعدامهم من قبل الإسرائيليين" يكمل سعد.

ويضيف "ما هي إلا ساعات قليلة، حتى اكتشف اليهود المكان، وكان معهم خمسة فلسطينيين آخرين، وحينها أمر الإسرائيليون الفلسطينيين، وعددهم 12 شخصاً بينهم مسنين ونساء بالاصطفاف إلى حائط ورفع أيديهم، قبل أن يطلقوا النار عليهم، ويقتلوهم بدم بارد".

تفاصيل تقشعر لها الابدان

"عناية الله أنقذت ثلاثة فلسطينيين، تظاهروا بالموت، أحدهم، كان والدي"، يستدرك سعد "كان مشهدًا مروعًا يصعب عليّ تخيله كلما قصّ والدي عليّ تفاصيل تلك المجزرة".

وبعد أن تأكد حرز الله (الأب) من مغادرة الإسرائيليين لمكان "المجزرة" التي ارتكبوها، مخلفين قتلى ورائهم، نهض وسار باتجاه صحراء النقب (جنوب)، وتاه فيها لأيام إلى أن وصل إلى مدينة الخليل (جنوبي الضفة الغربية)، ومنها انتقل لمدينة غزة، حيث عاش فيها بقية حياته".

وعندما وصلت الأناضول إلى "جبر البنا" نجل الشاهد الثاني "محمد البنا"، أكمل تفاصيل الحكاية التي عرفها من والده الذي توفى عام 2004.

البنا يتحدث

يقول البنا (63 عاماً): "الطائرات الإسرائيلية باغتت بئر السبع، بقنابل عشوائية أسقطتها على رؤوس ساكني البيوت دون إنذار مسبق، صاحب ذلك اقتحام لمنازل المواطنين، وإطلاق الرصاص على كل من فيه، وهو ما دفع السكان للهرب".

بقي والدي وجدي بالإضافة للعشرات من السكان في المدينة، وذلك قبل أن تقتحم القوات الإسرائيلية البلدة، في 23 مايو/أيار، وتقتل كل من وُجد آنذاك" يكمل جبر.

ويضيف" لجأ الإسرائيليون لحيلة لاكتشاف مكان الملجأ الذي كان يختبأ فيه أبي، مع عدد من جيرانه، حيث ألقوا القبض على فلسطيني من عائلة (جرادة)، فأشعلوا فيه النار، وتركوه، وذلك بغرض التوجه للملجأ كي يطلب من رفاقه إخماد النار المشتعلة في ثيابه".

و"بالفعل كان هذا ما حصل، حيث اتجه جرادة صارخاً باتجاه الملجأ، طالباً من رفاقه إنقاذه، ليتمكن الإسرائيليون من اكتشاف مكانه، وتقع حينها المجزرة، حيث تم إعدام الجميع بدم بارد".

قتل مسنة لانها ذكرت اسم النبي محمد

ويستطرد جبر "بعد أن أحاطت العناية الإلهية، بوالدي الذي نجا من الموت، سقط أسيرًا في يد الإسرائيليين، على أطراف المدينة، حيث كان متوجهاً إلى غزة، فقرروا إعدامه، حيث رفع أحد الضباط مسدسه تجاهه، لكن مشيئة الله شاءت أن ينجو للمرةالثانية، فحينما رفع الضابط مسدسه باتجاه أبي، مرت بجواره امرأة فلسطينية مسنة، كانت تبحث عن متاعها الضائع، حيث كانت متوجهة مع عشرات النسوة باتجاه غزة، فكانت تلك المرأة تصرخ وهي تبحث عن متاعها: (بصلاة محمد..مين لقي (وجد) كيس (حقيبة) ملابسي؟)، فاستفزت كلمة النبي محمد، الضابط اليهودي، أشد استفزاز، فنقل المسدس من ناحية أبي، ووجهه للمرأة، وأطلق عليها النار، فأرداها قتيلة".

"يبدو أن مقتل المرأة العجوز، أصاب الضابط بالتوتر الشديد، فلم يجرؤ على قتل والدي، حيث أشار له بالتحرك، والتوجه نحو غزة".

اعتقال للمرة الثالثة

ومرة ثالثة، اعتقل البنا (الأب) على حدود مدينة غزة، وقرر الإسرائيليون قتله، لكن جسده الهزيل، وبشرته الشاحبة، من هول ما تعرض له خلال الأيام الماضية، جعل الجنود الإسرائيليون يتراجعون عن قرارهم، حيث قال أحدهم: (خسارة فيه ثمن الرصاصة)، ليكمل بعدها طريقه لغزة، حيث عاش فيها بقية عمره، بحسب نجله.

عماد جرادة

محطة الوصول الثالثة لفريق الأناضول كانت "عماد جرادة" نجل الناجي الأخير "حبيب جرادة"، والذي قدم ذاكرة متطابقة لذاكرتي "حرز الله" و"البنا"، اللذين يصغرهما بنحو 10 سنوات، حول حقيقة ما جرى.

جرادة (50 عاماً) يسرد الحكاية التي سمعها من والده الذي توفي عام 2007 عن عمر يناهز 85 عاماً :"كانت الطائرات تقصف المدينة، بشكل عشوائي، لتجبر سكانها على الرحيل، وعبر مكبرات الصوت نادت القوات الإسرائيلية على السكان الذين تمسكوا بالبقاء في مدنية بئر السبع، ورفضوا الخروج منها بعد احتلال فلسطين، وأمرتهم بالخروج من بيوتهم والتجمع عند الساحة الكبيرة في المدينة".

ويضيف "القوات اعتقلت والدي مع عدد من السكان، وطلبت منهم أن يوجهوا وجوههم نحو الحائط، ويرفعوا أيديهم للأعلى، حتى بدأت الأفكار تتوارد إلى أذهان السكان متسائلين ماذا عساهم فاعلون بنا؟ ولماذا طلبوا منا أن نرفع أيدينا عالياً وندير أعيننا عنهم؟".

و"ما هي إلا دقائق حتى أطلقت القوات الإسرائيلية النار باتجاه الفلسطينيين في عملية إعدام بدم بارد" ، يتابع عماد الذي استطرد، قائلاً "سقط كافة من تجمع من السكان أرضاً مضرجاً بدمائه، إلا 3 منهم بينهم والدي، أنقذهم خوفهم وانعدام قدرتهم على الحركة، فقد أجادوا تمثيل دور المقتول في ذلك الوقت، بشكل جعلهم ينجون من الموت الحقيقي".

و"بعد أن غادرت القوات الإسرائيلية، الساحة، استيقظ والدي ومن معه من فاجعة المجزرة، ليشاهدوا كافة السكان الذين تواجدوا في الساحة غارقين بدمائهم، ليهرول الثلاثة إلى خارج المدينة، متسللين عبر أسطح المنازل الطينية، ومختبئين خلف جدرانها، إلى أن استقر بهم المقام في مدينة غزة".

بئر السبع من أكبر وأقدم مدن فلسطين التاريخية

وتعد مدينة "بئر السبع"، من أكبر وأقدم مدن فلسطين التاريخية، وتبتعد مسافة 71 كيلومتر إلى الجنوب من مدينة القدس، وهي أكبر مدن منطقة النقب الصحراوية.

وغالبية سكان المدينة حالياً من اليهود، بعد أن تم تهجير معظم سكانها العرب عام حرب 1948، ويعيش غالبية الفلسطينيين المهجرين من المدينة في الأردن، كما يعيش بعضهم في مدينة غزة.

7.2 مليون لاجئ بحلول نهاية عام 2020

وقال الجهاز المركزي للإحصاء الفلسطيني في إحصائية صدرت منتصف الشهر الجاري، في الذكرى الـ"66" للنكبة إنّ عدد اللاجئين الفلسطينيين حتى نهاية العام الماضي 2013، وصل إلى 5.9 مليون نسمة، ومن المتوقع أن يبلغ عددهم 7.2 مليون لاجئ بحلول نهاية عام 2020.

ويؤكد الجهاز المركزي للإحصاء الفلسطيني أن 66% من الفلسطينيين الذين كانوا يقيمون في فلسطين عام 1948 تم تهجيرهم.

ودمّرت الجماعات اليهودية المسلحة، وفقًا للجهاز، في حرب عام 1948 ، 531 قرية ومدينة فلسطينية، وارتكبت "مذابح" أودت بحياة أكثر من 15 ألف فلسطيني.

استعمال المضامين بموجب بند 27 أ لقانون الحقوق الأدبية لسنة 2007، يرجى ارسال رسالة الى:
[email protected]