تحل الذكرى الـ 62 لثورة 23 يوليو المصرية المجيدة في ظل أوضاع حرجة وفوضى تعم الوطن العربي، وفي ظل عدوان جديد يقوم به الاحتلال الاسرائيلي على أهالي قطاع غزة، والذي يحصد عشرات الضحايا يوميا من النساء والأطفال والشيوخ ويخلف مئات المصابين والجرحى، في حالة انسانية حرجة من نقص الأدوية والمعدات الطبية والوسائل العلاجية الضرورية، ناهيك عن حياة الجوع والضنك التي يحياها أهالي القطاع. هذا من ناحية ومن ناحية أخرى يتواصل قتل وتهجير أبناء الأقليات الدينية مثل المسيحيين والشيعة والصابئة وغيرهم، من قبل العصابات الارهابية التي تعيث فسادا وإجراما باسم الإسلام في العراق وسوريا، والاسلام منها براء ومن أعمالها الشيطانية التي تتعارض مع أبسط القيم الانسانية والدينية، كما يتم الاعتداء على ممتلكات وبيوت الناس، اضافة الى احراق وتدمير الكنائس والأديرة والمساجد والمقامات المقدسة.

كل هذا يجري بعد تكالب كل القوى الاستعمارية والمأجورة على ما تبقى من أنظمة قومية، والقضاء عليها واحدا تلو الآخر. تلك الأنظمة التي اعتورتها سلبيات وممارسات غير ديمقراطية، لكنها لم تصل الى هذا المستوى الهمجي والوحشي في تعاملها مع المواطنين. فالذين رقصوا فرحا لسقوط أنظمة صدام في العراق والقذافي في ليبيا وصالح في اليمن، وانتظروا سقوط نظام الأسد في سوريا بسرعة، وكل ذلك بتدخل أمريكي- غربي مباشر أو غير مباشر، باتوا اليوم بمعظمهم يندمون على ما ذهبوا اليه، وبات الكثير من الناس يتمنون عودة تلك الأنظمة التي حفظت الأمن والأمان للمواطن، بل أن البعض وصل به الأمر إلى أن يحن لأيام حسني مبارك في مصر وزين العابدين في تونس رغم فساد تلك الأنظمة، نظرا لبشاعة ما تقوم به عصابات التكفير والشيطنة، أمثال "داعش" و"النصرة" وغيرها. ففي ظل الأنظمة القومية لم يجر اضطهاد المسيحيين واحراق كنائسهم والاعتداء على ممتلكاتهم أو تهجيرهم (وهنا لا أقصد نظام مبارك بالتأكيد). بل على العكس تمتع المسيحيون بحرية العبادة وبحياة آمنة وعاشوا مثلهم مثل سائر المواطنين. في ظل الأنظمة القومية على علاتها لم نر تلك الفرق الهمجية المعبأة بالكراهية نحو الاخر، والمستغلة للدين والتي فاقت بأعمالها الحركات النازية والفاشية في أوروبا.

وتأتي الدول الغربية وتحت شعارات "الحرية وحقوق الانسان والديمقراطية" لتدعم قوى الشر والبطش ضد ما تبقى من الأنظمة القومية، وكان مفجر ثورة 23 يوليو القائد جمال عبد الناصر، وبحكم خبرته وبصيرته الثاقبة قد تنبه الى هذا الأمر ورد عليه بعبارة واضحة يجب أن يضعها القوميون وجميع العرب لافتة أمام بصائرهم "إذا كانوا يتكلمون حقا عن الحرية.. فكان الأولى بهم أن يتكلموا عن حرية شعب فلسطين وحقوق شعب فلسطين وعودة شعب فلسطين." واذا كان دعاة الجهاد والحرب الدينية يريدون الجهاد المقدس، فعليهم بدل أن يتوجهوا الى سوريا والعراق ولبنان وغيرها أن يتوجهوا الى فلسطين، حيث المقدسات التي تحتاج الى حماية والشعب الذي يتوق الى حريته واستقلاله، وخاصة في هذه الأيام التي يتعرض فيها أهالي قطاع غزة الى حرب إبادية.

اليوم في ظل انهيار كل القيم الانسانية والقومية والدينية في الدول العربية.. كيف لا نترحم على أيام عبد الناصر، كيف لا نشتاق لأيام القومية العربية التي جمعت في أحضانها كل أبناء الوطن العربي دون تفرقة على أساس ديني أو طائفي. بل أن القومية احترمت الأديان والانتماءات الدينية وجعلتها تتعايش جنبا الى جنب بسلام ووئام، فتعانق الهلال والصليب وارتفع الآذان بجوار رنين الأجراس وسار الشيخ الى جانب الكاهن في المظاهرات والمناسبات الوطنية وساد الشعار الخالد "الدين لله والوطن للجميع". هكذا فهمت القومية الحرية الدينية والانتماء الديني، حيث شكل الدين الاسلامي والدين المسيحي جناحي القومية العربية، التي رفرفت في سماء الوطن العربي الواحد تحت راية الرئيس والزعيم القومي جمال عبد الناصر.

ونظرا لشدة جرائم وبشاعة أعمال التنظيمات المتطرفة ومن أشدها تطرفا ووحشية "داعش" و"النصرة" وغيرهما، لم يتنصل منها ومن أعمالها ودعواتها المسلمون المتزنون والعقلاء ومعهم القوميون بالطبع، انما الحركات الاسلامية المعروفة لم تتحمل وزر أعمال حركات كتلك المتطرفة والتي لا تعرف معنى للانسانية أو الدين. لكن أكثر ما يثير السخرية أن يدعي بعض أتباع الحركات الاسلامية – من باب التنصل من الحركات التكفيرية وعدم مواجهتها- أن "داعش" هي صنيعة الأنظمة العربية وخاصة النظام السوري. أجل سمعنا ونسمع مثل هذا الكلام، لكن أين المنطق الذي يحتويه؟ هل من مصلحة النظام السوري أو غيره أن يخسر أجزاء من موطنه لتقوم عليها دولة متطرفة لا تعرف قانونا أو نظاما؟ هل من مصلحة النظام أن يخلق حركات متطرفة تقتل مواطنين موالين له ومتعايشين معه من منطلق حصولهم على حقوقهم؟ ان المسيحيين السوريين كانوا وما زالوا بغالبيتهم يؤيدون النظام السوري، وهل سمع أحد عن معارضة مسيحية واسعة للنظام، كي يلجأ الأخير لتشكيل جماعات متطرفة تعمل باسم الاسلام، كي يعيدوا المسيحيين لتأييد النظام؟ أي هذر ذلك وأي كلام يلقى على عواهنه؟ إن المسيحيين والدروز والعلويين وكل أبناء الأقليات الدينية في سوريا، يستغيثون ويرفعون صلواتهم لحماية النظام وثباته وعودة الحياة كما كانت عليه في سوريا قبل الفوضى الحالية التي زرعها الغرباء والخبثاء وأولياء المال. لا يتحدث أحد اليوم عن الديمقراطية وحرية الأحزاب، انما كل ما يريدونه هو العودة للحياة الطبيعية الآمنة الشريفة في ظل نظام قومي لا يتعامل مع الانسان حسب انتمائه الديني أو الطائفي، ولا يحكم عليه بموجب طريقة أدائه للشعائر الدينية، انما يتعامل معه كمواطن يؤدي واجباته ويحافظ على وطنه ويعيش مع أبنائه بتوافق واتفاق.

ستبقى القومية كما كانت الحصن المنيع أمام التشرذمات والانقسامات الطائفية الكريهة والتي خلقها الاستعمار كي يفرقنا عن بعض ويسودنا بحكمه البغيض، وكانت القومية وستبقى الرد المانع الواضح ضد كل المتعصبين دينيا والذين يسيئون لدياناتهم ويشوهوا الدين ومقوماته من تسامح ومحبة وأخوة وتعارف وتآلف، الى تبرير قيم الشر والعدوان والقتل باسم الدين عنوة وقوة، وقد نبه القائد عبد الناصر من تلك الفئات المتعصبة التي تسيء للدين وتنفذ سياسة المستعمر والمتآمر على الأمة العربية وأبنائها حيث قال "وبأقول لكم فيه متعصبين مسلمين وفيه متعصبين مسيحيين ولكن المتعصب المسلم لا يمثل اتجاه المسلمين أبدا، والمتعصب المسيحي لا يمثل اتجاه المسيحيين أبدا، كل دول شواذ." فالمتعصب المسلم يهدف الى تفريغ الشرق من المسيحيين بل من كل من يخالفه المعتقد والرأي، والمتعصب المسيحي يستغل هذه المواقف والأعمال للاشارة إالى أن الاسلام دين عنف وسيف، وكي يساهم بتنفيذ مخططات المستعمرين الهادفة الى فصل المسيحيين عن أبناء قوميتهم واخوتهم المسلمين. ويستغل المتعصبون المسيحيون في اسرائيل تلك الآفات لرفع صوتهم من أجل التجند في جيش الاحتلال والعدوان الاسرائيلي. وبذلك تكتمل الدائرة ويلتقي المتعصبون المسلمون والمتعصبون المسيحيون في هدفهم بتفريق أبناء الشعب الواحد وأبناء القومية الواحدة، والالتقاء بالتالي مع مخططات المستعمرين والأنظمة المعادية للعرب وحقوقهم. فهل يساهم العرب والمسلمون منهم خاصة بصمتهم وابعادهم عن المواجهة، هل يساهمون من حيث يدرون أو لا يدرون بتنفيذ مخططات أعداء الأمة العربية؟

لقد ثبت أن البديل عن النظام القومي والفكر القومي والوحدة القومية، هو الكيانات المذهبية المتعصبة والمنغلقة والكارهة لكل ما هو آخر، الى حد أن تقوم جماعة "داعش" بالدوس على العلم الفلسطيني وإهانة كل انسان عربي يرفع العلم ذا الألوان الأربعة. إن القومية العربية تبقى وبعد المحنة التي يمر فيها الوطن العربي، الطريق الوحيد الذي يجمع أبناء الأمة العربية دون تفرقة دينة أو مذهبية مصطنعة، "فهذا هو سبيلنا، وهذا هو طريقنا.. لا رجعية ولا تبعية، لا أعوان ولا عملاء، بل .. قومية عربية" كما قال المعلم جمال عبد الناصر، ونضيف هنا لا تعصب ولا تحزب .. لا مذهبية ولا فئوية بل وحدة قومية عربية.

(شفاعمرو/ الجليل)

استعمال المضامين بموجب بند 27 أ لقانون الحقوق الأدبية لسنة 2007، يرجى ارسال رسالة الى:
[email protected]