نازلاً كنت..

على سلم أحزان الهزيمة

نازلاً..

يمتصني موت بطيء

صارخاً في وجه أحزاني القديمة:

أحرقيني!.. أحرقيني لأضيء

هكذا يصرخ شاعر المقاومة، في وجه الحزن والهزيمة، حتى وهو يذوب في الموت.

سميح القاسم لم يكن مجرد شاعر عابر، يمتطي اللغة ليبهر جمهوره ببلاغة الأكروبات الشعري، أو جرأة الموقف العنيد في وجه المحو والاحتلال.

سميح كان حفنة من تراب في أرض فلسطين، إذا غادرها صار غبارا تذروه ريح، وإذا بقى صار الوطن، حتى لو وطن جريح.

ذات صباح ستيني (قبيل نكسة 67) وصلت سميح رسالة من جاره وصديق طفولته "فؤاد" التي غادر إلى بيروت، فاشتعلت في رأسه الذكريات، وكتب قصيدة "إليك هـناك حيث تمـوت":

أخي الغالي

كتبت اليَّ مزهواً

‍‍‍‍‍‍‍‍‍(أخي الغالي)!.. تحـياتي وأشـواقي

تطير إليك من بيروت/ إليك هناك .. حيث تموت

أخي الغالي :

لماذا أنت لاتأتي إلى بيروت/ وتترك جرحك الممقوت

وتهجر وجهك المغموس في الوحل/ وتنسى عيشة الذل

ويرد القاسم في القصيدة التي روج الكثير من النقاد خطأ، أن سميح كان يقصد بها معايرة صديقه محمود درويش!:

رسالتك التي حطت على بابي .. جناح ملاك

أتعلم؟

حين فضتها يداي تنفضت أشواك

على وجهي .. وفي قلبي :

أخي الغالي:

إليك هناك.. حيث تموت/ كزنبقة بلا جذر

كنهر ضَيع المنبع/ كأغنية بلا مطلع

كعاصفة بلا عمر

إليك هناك حيث تموت كالشمس الخريفية

بأكفان ٍ حريرية

إليك هناك.. يا جرحي ويا عاري/ ويا ساكب ماء الوجه في ناري

إليك إليك من قلبي المقاوم جائعا عاري

تحياتي وأشواقي/ ولعنة بيتك الباقي!

ظل ابن الرامة قابضا على تراب الوطن، يحارب معركته بالكلمة، ويرفض المساومة

"يا عدو الشمس لن أساوم/ ولآخر نبض في عروقي سأقاوم"

ذات صباح ثمانيني (خريف 1988) اتصل بي صديقي العزيز مجدي حسنين الصحفي النشط، والقاص الموهوب (رحمة الله عليه) وكان يعمل معي محررا ثقافيا، وأكد لي خبر وصول سميح القاسم إلى القاهرة لأول مرة.

قبلها بشهور كانت ضجة غبية قد أثيرت حول التطبيع الثقافي، لأن أحدهم تنطع واتهم الأديب والصديق العزيز يوسف القعيد بمراسلة مجلة تصدر في "إسرائيل"، وكان المقصود هو مجلة "الجديد" التي يترأس تحريرها القاسم.

رد القعيد بقوة في صحيفة "الأهالي"، وثارت زوبعة اختلطت فيها الأوراق، وأظهر بعض المتنطعين القضية، وكأن التعاون مع القاسم تطبيعا، وكان الاتهام نفسه قد طال محمود درويش بعد قصيدته "عابرون في كلام عابر"!!

لهذا كنت حريصا على استقبال القاسم في اتحاد الفنانين العرب، ومنه إلى الفندق حيث يطل هوديني الفلسطيني على النيل لأول مرة في حياته.

أجريت أول حوار مع القاسم، وصارت بيننا صداقة سمحت لي بتصويره في الزيارة المقبلة بالفيديو لمدة تزيد على الساعة، خرجنا فيها إلى النيل، وتحدثنا فيها عن حياته وتطلعاته، وفي حوار تليفزيوني أجرته الزميلة هبة الله يوسف تحدث عن الشعر والفن وقضايا العرب، وعرض الحوار في سهرة السبت بقناة المشرق اللبنانية التي توقفت بعد قانون تنظيم الإعلام في التسعينات.

مع هذا الاقتراب تجلت أمامي المشتركات والاختلافات بين شطري البرتقالة (القاسم/درويش)، لك تكون الصورة كما رسمها حيالنا، لكنها كانت أجمل بمنافساتها، وتكاملها، والمشاعر الثرية التي تتضمنها العلاقة بين نجمي الشعر والشهرة في فلسطين.

كان سميح يستطيب أن يستمر في العلاقة (الأخ الأكبر والصديق الأنضج)، وكان درويش يهبط حينذاك من مأذنة المقاومة الحماسية إلى الفضاء الإنساني الأوسع والأعمق في العاطفة، مرة يتأثر درويش بسميح فيكتب عن الثرى بالطريقة "السميحية": "وأبي قال لي مرة/ الذي ماله وطن/ ماله في الثرى ضريح/ ونهاني عن السفر"، ومرة يتأثر سميح بدرويش فيبدع تجليات الفلسطيني التائه في قصيدة "شخص غير مرغوب فيه".

هكذا كانت المنافسة حاضرة، لكنها لا تعكر الحب، والتأثر مباح ويكشف عن إعجاب خفي، لهذا أكد لي سميح بعد إصرار مني أنه لم يقصد درويش عندما كتب "إليك في بيروت"، لأنه ببساطة كتبها قبل خروج درويش بثلاث سنوات، وحكى لي قصته المفجعة مع قريبه، والرسالة التي دفعته لكتابة هذه القصيدة.

بعد موت درويش، كنت أنتظر موتا ما لسميح القاسم، فالطائر لا يعيش طويلا بجناح واحد، وكنت أتلمس اقتراب الموت في عقل سميح، بل تمنيه أحيانا، فهو الذي كتب معاتبا معين بسيسو لأنه ذهب مع الموت زحيدا: يا صاحبي/ يا أيها النهم البخيل/ في النعش متسع لجثتين/ فكيف مضيت وحدك دون صاحبك القتيل"، فما بالنا بتاثير موت درويش عليه:

لماذا تَخلَيتَ عن وزر حزني/ ووزر حياتي

وحمَّلتَني وزر موتك

أنت تركت الحصان وحيداً.. لماذا؟

أجبني. أجبني.. لماذا؟."

سميح لم يهزمه سرطان الكبد، هزمته الهزائم في حياة لم تعد حياة

ألم يقل:

"يا أيها الموتى بلا موت/ تعبت من الحياة بلا حياة

وتعبت من صمتي/ ومن صوتي

تعبت من الرواية والرواة"

ألم يقل أيضا:

"من عاش يخسر سر الحياة

ومن مات بات علي الموت حرا وحيا

وما كان بالأمس عارا محالا

هو اليوم شأن صغير وجائز

فحاذر. وحاذر

زمانك وغدى وغادر

تنح. وغادر"

لقد كان في سنواته الأخيرة، أشد من الماء حزنا، كأنه زيتونة باتت وحيدة في مستوطنة صهيوينة، يكتوي بعذاب غزة، وضياع البروة والرامة من خريطة البلاد، وتلون العلم الفلسطيني بألوان الفصائل والقلاقل..

أليس الموت حلا جميلا؟!

إذن

"فليُسعفني العالم

بنشيد آخر للحُب

وأنا أقضم تفاحة موتي

وأغني .. في فرحٍ وشهيَّه!"

لقد أراد موتا كبيرا، لكن من أين هذا الموت الأسطوري في زمن الهزائم والانشطارات؟!

يكفيك ياطائر الرعد، يا ابن الزلازل أن تنام حفنة من تراب في حضن الوطن، فستظل كلماتك عالية تقاوم، وأحلامك تسطع في مواكب الشمس، حتى يحصد القادمون من جهات الروح، ما زرعت، وما اشتهيت.

استعمال المضامين بموجب بند 27 أ لقانون الحقوق الأدبية لسنة 2007، يرجى ارسال رسالة الى:
[email protected]