كثرت في السنوات الأخيرة الهجرة السرية أو ما شاع تسميتها بغير الشرعية من دول فقيرة وتعيش أوضاعاً صعبة إلى أخرى متقدمة وآمنة، في الوقت الذي نشطت فيه تجارة رائجة يقودها سماسرة ومافيات لتهريب المهاجرين خارج بلادهم.

موضوع الهجرة سواء بشكل سري وعبر التهريب أو عن طريق الإجراءات القانونية، ليس جديداً على العالم الذي خبره منذ قديم الزمان، حتى أن دولاً تألفت بواسطة الهجرات الشرعية وغير الشرعية، كما هو الحال مع الولايات المتحدة الأميركية.

في عالمنا العربي بدأت ظاهرة الهجرة السرية تتنامى بشكل كبير في السنوات الثلاث الأخيرة، خصوصاً بعد ما يسمى بثورات "الربيع العربي" وما رافقها من موجات عنف وتدهور في مختلف الأحوال السياسية والاقتصادية والاجتماعية.

ومع أن فلسطين لم تنعد من الربيع العربي، إلا أنها سبقت هذا الربيع بانقسام ملعون أطاحها أرضاً وصعّب من قدرتها على النهوض، ليس في تصريف شؤونها الداخلية فحسب، وإنما في مقارعتها للاحتلال الصهيوني.

هذا الانقسام الصعب، يضاف إليه احتلال بشع بكل المقاييس والاعتبارات، أنتجا حالة من الاختناق والتخبط الفلسطيني على كافة النواحي، فليس الحديث منسحباً فقط على صعوبة الوضع الاقتصادي، إنما السياسي والاجتماعي لا يختلفان كثيراً عن الواقع الاقتصادي.

جميع هذه العوامل فعّلت وحفزت الشباب الفلسطيني على ركوب المخاطر والمجازفة بالقفز للمجهول، نحو هجرة إلى دول أوروبية واسكندنافية، هرباً من أوضاع مزرية لم تصب عصب الشباب فحسب، إنما امتدت إلى كافة الفلسطينيين ومن مختلف الفئات العمرية.

العوامل المطروحة تجيب على سؤال بحث الفلسطينيين عن أي هجرة تجنبهم البقاء في بلادهم، مع العلم أن تفكيك هذه العوامل لا يقدم عذراً لهؤلاء المهاجرين على هذا العمل وفي نفس الوقت لا يجرمهم عليه، بقدر ما أنه يحمل المسؤولية للاحتلال الصهيوني وللمسؤول الفلسطيني وأصحاب الانقسام.

في قطاع غزة الذي يتجاور مع مصر بالجغرافيا، وتشكل فرص الهرب منه قدراً عالياً مقارنةً بالضفة الغربية، هذا القطاع شهد طوال سنوات الانقسام الذي حصل منتصف حزيران العام 2007، خروجاً وهجرة لآلاف مؤلفة من الشباب وغير الشباب الفلسطيني.

ولأنه من الصعب الاسترشاد بإحصائيات حول النزيف الديموغرافي، إلا أن قراءة الواقع الفلسطيني تقول إن الهجرة الشرعية وكذلك السرية هي في ازدياد ملحوظ، وإن القطاع لو فتح على غاربه للشباب، لخرج الكثير منهم بحثاً عن الأمن والطمأنينة والحياة المريحة.

وفي تشخيص الواقع المعاش، لنا أن نتخيل حياة الفلسطينيين في القطاع بعد الانقسام، في ظل حصار شديد وخانق وحياة اقتصادية مؤلمة للغاية، ومعدلات بطالة مرتفعة بلغت حوالي 39% في قطاع غزة، مع تجاوز عدد العاطلين عن العمل إلى ما يزيد على 160 ألف فلسطيني، حسب إحصائيات جهاز الإحصاء الفلسطيني.

هذا الجيش الهائل من العاطلين عن العمل يعيشون في بيئة لا يتوفر فيها الحد الأدنى من متطلبات المعيشة، وعلى سبيل المثال الكهرباء التي تعتبر اليوم مصدراً إنسانياً وخدماتياً ملحاً وضرورياً لحياة الناس وتسيير أمورهم، هذه الكهرباء تنقطع عن غزة ساعات طويلة وتعمل في أقصى طاقتها وفق نظام القطع لست أو ثماني ساعات ومعاودة الربط بنفس مقدار القطع.

هذا الوضع المأزوم ينعكس سلباً بطبيعة الحال على الجانب الاجتماعي، دون أن نغفل السياسي الذي مزق الفصائل والنسيج الاجتماعي حتى بين الأسرة الواحدة، في ظل وجود احتلال يسعى بكل قوة من أجل محاصرة القطاع وإضافة أعباء على كاهله.

ثم إن العدوانات المتكررة على غزة أسهمت هي الأخرى في استنزاف إرادة الفلسطينيين الذين كانوا يعتقدون أن صمودهم أمام الاحتلال سيمكنهم من متابعة حياتهم بهذا القدر الحتمي عليهم، إلا أن مخلفات الانقسام الداخلي أضعفت من هذه العزيمة.

لكل ذلك، يجازف الفلسطينيون ويدفعون أموالهم طائلة طلباً للهجرة، اللهم أن يخرجوا من المحنة والضائقة التي يعيشونها، في ظل انعدام الثقة بالقيادة الفلسطينية وفي ظل انتظار وقت طويل من الزمن حتى تتغير الأحوال، دون أن يضيف أو يغير اتفاق فتح وحماس للمصالحة شيئاً ملموساً.

صحيح أن الاحتلال الصهيوني يتحمل المسؤولية الأولى والمباشرة عن انعدام الأمن وعن تدهور حالنا المعيش، ولا يفترض أن نعتقد بأن الاحتلال جميل وسيقدم لنا ورداً في يوم من الأيام، إنما القيادة الفلسطينية والفصائل جميعها تتحمل جزءاً من مسؤولية هذا المصير المجهول.

السلطة الفلسطينية مقصرة وتتحمل المسؤولية عن عدم تمكين الوحدة الوطنية، والمقصود بذلك القائمين على أمر السلطة، وكذلك الحال بالنسبة لفصائل الانقسام وباقي الفصائل الأخرى التي لم تتمكن من استثمار الحالة الشعبية وتعبئتها لجهة فرض المصالحة بالقوة على فصائل الانقسام.

ثمة من يقول: وما علاقة هجرة الشباب بالوحدة الفلسطينية؟ الجواب مردود عليه بأن تماسك النسيج الاجتماعي يعتبر مقوماً رئيساً لتوفر الأمن والأمان الاجتماعي، وهذا يشكل حلقة ضمن حلقات السياسة والاقتصاد التي يمكنها هي الأخرى أن توفر سبلاً معيشية معقولة وتتجاوز الحد الأدنى.

أما أن تغيب جميع الحلقات فهذه كارثة حقيقية وهي لا تضرب فقط وحدة النسيج الاجتماعي، بقدر ما أنها تضعف المناعة الفلسطينية للتصدي لكل أشكال الاحتلال، والدليل أن الانقسام الفلسطيني الداخلي وفر الذريعة للاحتلال حتى يتغول في الضفة الغربية ويحرثها بالعربدة والاستيطان، ولم تكن الأصوات الفلسطينية حينها عالية، لأنها منقسمة أفقياً وعمودياً على نفسها ومنشغلة في برامجها وأجنداتها الخاصة.

نعم، إن الانقسام آفة من آفات هذا الزمن، وحالياً لا يوجد أفق واضح ومحدد لعودة السلطة الفلسطينية إلى غزة لممارسة مهامها، في حين يلاحظ وجود حلول لترتيبات مرحلية ومسكنات تسبق الهم الأكبر حالياً والمتصل برفع الحصار عن قطاع غزة.

إن المغادرة الفعلية عن الانقسام والتمسك بالوحدة الوطنية مطلب أساسي، يمثل صمام الأمان للشعب الفلسطيني ويفرمل إلى حد كبير هجرة الشباب وغيرهم إلى الدول المتقدمة، ولمعالجة هذا النزيف الديموغرافي ينبغي أن يكون هذا المطلب أولوية مهمة في أجندة القيادة الفلسطينية.

لا يمكن معالجة هذا الداء بشكل تام، لكن بالعمل الوطني الخالص يمكن تجنب نضوب الخزان البشري الفلسطيني عبر تضافر كافة الجهود وتوفير الحد المقبول من متطلبات الحياة وإيجاد مناخات إيجابية داخلية تعتبر المواطن أغلى استثمار وأساس التنمية المستدامة.

استعمال المضامين بموجب بند 27 أ لقانون الحقوق الأدبية لسنة 2007، يرجى ارسال رسالة الى:
[email protected]