رحل عنا في الآونة الأخيرة في بلدي يانوح الجليلية شيوخ أعزاء ومُميّزون : المرحوم الشيخ أبوحسين عامر عامر 90 عاما ( رحل في - 15.9.2014), والمرحوم الشيخ أبوكمال يوسف بركات 94 عاما ( رحل في - 16.10.2014), وآخرهم وأكبرهم سنا المرحوم الشيخ أبو احمد علي حبقة 101 عاما ( رحل في - 25.10.2014), تاركين وراءهم الكثير الكثير من البصمات الطيبة, الاجتماعية والسياسية والدينية وغيرها.
رأيت من الواجب الاجتماعي العام, ولهذا الاعتبار بالأساس, أن اسلط الضوء على بعض مميزات هؤلاء الشيوخ المميزين, متوخيا أن يكون ذكر هذه الصفات والمميزات محفزا لأجيالنا الغارقة في .. وتحت وطأة الثقافة والحضارة الاستهلاكية الغربية الدخيلة, لنسترشد ويسترشدوا بهذه الصفات, نحو حياة فيها يتغلب الخير على الشر والمفيد على المُضِر, خاصة وأن شعوبنا وأمتينا العربية والاسلامية يمرون في أصعب الحالات, والتي فيها وتحت اسم الدين, يتم نفي قِيَم الدين, وباسم الوطنية تُدَك وتمزق الأوطان, وبالتالي الشعوب ومصالحها ووجودها , لتتحول أوطاننا الى حظائر سايكس-بيكوية مشرذمة وهزيلة أكثر مما كانت حالها حتى اليوم.

لن أتوسع بذكر كل مناقب هؤلاء الأحبة, لأنها كثيرة وهي جزء طبيعي من مميزات أهلنا المسنين الفلاحين القرويين في كل قرية وقرية من قرانا العربية, والمليئة بطيبة الفلاح العربي الفلسطيني, وهي غير غائبة لا عن الوعي ولا عن الوجدان لدى الجميع, هذا بشكل عام, ومن هذا العام أنتقل لخاصة الخاص لكل من هؤلاء الراحلين , للإيجاز وللتركيز على ما يوحي اليه عنوان المقالة هذه.

المرحوم الشيخ أبو حسين عامر عامر والذي تسنّم مناصب قيادية محلية عديدة , منها نائب رئيس مجلسنا الاقليمي مركز الجليل وواعظ في مجالس الذِكِر وغيرها , كان أول من رأى أن الأعراس وكما تطورت العادات والتقاليد ذات الصلة, هي بالفعل تشكل عِبئا على المجتمع ويجب أن نغير معاملتنا معها , وكان هو أول من جاهر في الحديث الصريح عن هذه الحاجة , لا بل اتخذ الخطوة الأولى والجريئة المطلوبة, وفي سبعينيات القرن الماضي, لكي تعود الأعراس لحقيقتها الأولية وفي صلبها تحويلها الى رافعة وداعمة لحياة الأسرة المستقبلية وليس عبئا عليها وفي أولى خطواتها, وكانت بالفعل خطوته ليست فقط أنها جريئة وابداعية, وإنما السواد الأعظم من الناس اعتبرها في حينه, بعكس ما يعتبرها اليوم السواد الأعظم من الناس, بأنها معضلة يجب وضروري حلحلتها وحلها. وفي مجالات أخرى وعديدة وذات وزن مشابه, كان لهذا الشيخ حضور ورأي وموقف, كان ما يقوله .., يعمله ويمارسه, ورزقه على الله, كما يقولون, وهذه الرؤيا والممارسة العامة المفيدة والرائدة ما هي إلا حاجة ماسة لنا جميعا في كل ظرف وزمان ومكان, لأن الحسم الذي تحويه والذي ميز هذا الشيخ المُميز الحاسم ما هو إلا أمر وحاجة يذكران عنه .. وله.

المرحوم الشيخ أبوكمال يوسف بركات كان أول "معلم عمار" كما كانوا يعتبرون البنائين في البلد, وأول من مكنن ببور الزيت والمطحنة والجاروشة فيه, ولكن الصفة الأكثر تميزا والمسيطرة في سيرته وصيرورته, ليست انها الحسنة فقط وإنما المثالية أيضا, أنه حوّلَ بيته الى "فندق" .. مجاني لكل من دخل البلد, خاصة في زمن القِلة, حيث بيته يقع في مدخل البلد , ولم يحصل أن رأى ضيفا" , أو قاصدا" ووافدا" اليه وفيه .. إلا و"تعربشه" .. بهدف تضييفه وتقديم الواجب له, وبغض النظر كان يقدم له الأكل والشرب ويوفر له النوم , حتى لو استغرق هذا الأمر شهورا" من هذا العطاء والكرم الحاتميّ الكبير .. وكانت أمثلة كثيرة كهذه . الأمر الذي حول هذا الشيخ لعنوان لكل وافدٌ ووضعه في مصاف الناس الكرام وذوي الكرامة والمُميزين وبحق , وبهذا العمل رفيع المستوى رفع اسم بلده وشعبه ومجتمعه عاليا , وكانت النتيجة الطبيعية لهذا الكرم الحاتمي هي تمتين أواصر المحبة بين أبناء شعبنا وقرانا , وفي ظل وعلى خلفية ما يجري اليوم وبعكس هذا العطاء والكرم, ان كانت مشاريع الفتن والتكفير والقتل والتخريب للأوطان وزرع الكراهية بين الناس , والتي لا طائل منها سوى تكريس ظلم الظالمين وتمكينهم من أخذ شعوبنا وناسنا الى جحيم هؤلاء المعتدين الظالمين, يبقى هذا الشيخ الكريم, وأمثاله في كل قرانا ليسوا قِلّة , القدوة والمثل للكرم والجود المُميّز لأصالتنا كعرب ومسلمين.

المرحوم الشيخ أبو احمد علي حبقة , هذا الفلاح الفلاح , والقروي القروي والذي مارس الفلاحة والحياة القروية بشكلها الحقيقي حتى آخر شهور من حياته, والذي أيضا كان نائب رئيس لمجلسنا الاقليمي مركز الجليل, والذي كان له مع باقي أهلنا اليوانحة حضور مُميز في معارك عام 1948 لا مجال لذكره الآن, كان انسانا أكثر ما يميزه المحافظة على الصديق والثبات على الصداقة والاستقامة, مهما كلف الأمر , وعلاقاته وثباته مع رفاقه وأصدقائه جلب له ولبلده ولشعبه المزيد من الوحدة والتآلف والمحبة والخير.. أوليست استقامته هذه عملة صعبة ونادرة هذه الأيام؟.
قبل أن أشمل وألخص هذا العرض السريع والضروري والصادق والدقيق عن هؤلاء الشيوخ المُعمرين, أود أن أسجل انتقادا" ذاتيا" , حيث أنه كان من واجبي وآخرين تسليط الضوء على سيرة شخصيات محلية أخرى فارقتنا, عملت الكثير من اعمال الخير النافعة للناس, وكانت تستاهل ان نذكر مناقبها وفاتنا هذا الأمر , واما الأمر الآخر في هذا السياق أنه في كل قرانا العربية (نقولها بثقة) يوجد الكثيرين من أهلنا فيها هم من أمثال هؤلاء المرحومين, ممن يتحلون بصفات الخير والبر والتقوى والعمل الذي يصب في مصلحة الناس والوطن, ولكني وكما ذكرت قصدت أن أشمل هذه الوجوه الطيبة , مستغلا" رحيلهم عنا بتزامن قريب, مع هذه الصفات الطيبة لنقدمها امامكم ايها الطيبين, متوخين أن تأتي لنا بالنتيجة الطيبة, انشاء الله, وهي ذكر حسنات موتانا كواجب تجاههم ولصالح الباقين الى حين قدوم الآتي لا محالة.

للراحلين عنا بمن فيهم هؤلاء المميزين الرحمة, ولذويهم ولكم طول العمر والبقاء ولتبقى ذكراهم وأعمالهم وسيرتهم نورا" ومنارة تُضيء لنا الطريق والحياة.

(يانوح)

استعمال المضامين بموجب بند 27 أ لقانون الحقوق الأدبية لسنة 2007، يرجى ارسال رسالة الى:
[email protected]