هنالك أناس يرسمون لمجرد الهواية وحب الرسم، وفي المقابل هنالك مبدعون يكرّسون جلّ حياتهم وهم ينتهجون مسارَ خطّهم معتمدين على البحث والتنقيب والاجتهاد والتجريب وتطوير فلسفة خاصة بهم ومدرسة مضمونية وشكلية وتشكيلية غير مقلِّدة، بل هي تشبههم في عمق تفكيرهم ونهج أدواتهم وطريقة بحثهم، فتصبح جزءً من شخصيتهم. هؤلاء هم ملح الأرض وخالدو الإبداع.

زرتُه في مَرْسَمِه في منطقة هادئة على أطراف رام الله اسمها "سطوح مرحبا". إنّه "تيسير بركات" الفنان الفلسطيني التشكيلي المتوقّد ابن مخيم جباليا والمهجَّر من قريته الفلسطينية "المجدل" التي سرقتها واحتلتها مستوطنة "أشكلون" الإسرائيلية. يُعتبر تيسير من المبدعين ذوي النَّفَس الطّويل وأحد الفنانين التشكيليين المؤسّسين لمرحلة مهمّة من الفن التشكيلي الفلسطيني الذي وصل الى العالمية، ومن الذين اجتهدوا طوال سنوات حياتهم لكي يجدوا هويتهم الإبداعية والفكرية وشخصياتهم الخاصة، وعندما أتمعّن في لوحاتهم أكتشف كم أنّ لكل منهم عالمه الخاص الذي يميزه.

لم تكن إجاباته على تساؤلاتي وحب استطلاعي تقليدية، بل فضّل أنْ ينقلها إليّ عمّا حدّده لنفسه في لحظة صفاء وعزلة، لأنّ تلخيص مسيرته الْمُضنِية والبحثيّة والإبداعية لا يمكن أن تُكتَب بجرّة قلم عادية او بكلام عابر. استطاع تيسير بركات أن يترجم أحاسيسه وفلسفته التي يستقي منها روح أعماله بالرسم وبالكلمات. التعبير بالكلمات والكتابة إبداعياً مسألة صعبة ولكنّ الأصعب منهما هو ترجمة ذلك الى عالم الرسم والفن التشكيلي:

أنا نحن

"أنا نحن، انا شعب لم يولد بعد، أرغب في أن أكون في الماضي او في زمن آخر. سأقيم المعارض الجماعية في كواكب عدة، منها المشتري وزحل وعطارد. أفكر في ثلاثة معارض شخصية في المريخ وبلوتو وكوكب الأرض..لا اسم لي ولا شكل..لا قيمة لي في هذا الزمن. يمكن أن تجدوني ميتا في نَفَق على الحدود المصرية، او متَسوِّلاً في أحد شوارع نواكشوط، او في حاوية قمامة في مخيم جباليا، او في كيس اسمنت في أبو ديس، او في برعم وردة على شواطيء الهادي، او غريقاً مختنقاً بالهجرة والملح على أوّل الدردنيل، او طائرا مبلَّلاً بالبترول على شواطيء الخليج العربي. أنا أخوكم، أنا لا شيء، أنا صُدفة، أنا نَفَق، أنا دبابة، أنا كيس طحين، أنا بيت مهدوم، أنا جرح نازف، أنا جَرَّة غاز، أنا ديكٌ أعرج، أنا سيارة إسعاف، أنا جدار ينتظر الهدم، أنا علبة صفيح، أنا شجرة يقطعون مني كل يوم غُصناً ليطبخوا طعام أطفالهم، أنا رصيفٌ مُهشَّم في غزّة هاشم. ربما أنا فاسد، ربما شجاع، ربما طيب، ربما غلبان..انا تعبان"

قارات فلسطين

إنسانيته كامنة في إيمانه بأنّ فلسطين هي العالم وهي الكون الذي ينتمي اليه، فقضيتنا بإنسانها وبجغرافيتها وبهويتها وبتضاريسها هي صورة مصغّرة عن العالم. بلادنا كانت ولا زالت محطّة لتلاقي ولتصادُم العابرين منها والمستقرين فيها. ألهمّ الإنساني فيها ينطلق من الأنا الى العائلة الى الحارة الى المخيّم الى القطاع الى فلسطين الى العالم. خلطتنا عالمية وكونية. لدينا كل شيء موجود في العالم. نحن قارة مصغَّرة فيها برد وحَرٌّ ورطوبة وصحراء ومطر وشمس حارقة ويابسة وسهل وجبل ومياه وبحر وبحيرة وأخفض منخفض وأعلى مُرتَفَع. فلسطين مخيم جباليا مجبولة بكل تجارب البشرية، لذلك فهي عالمية بصفاتها وبتركيبتها وبتجاربها.

لدى تيسير ميلٌ جارف الى ربط ما خزّنه بداخله من تقنيات وصور من الماضي والحاضر، وامتداد لأشكال من حضاراتنا القريبة منا جغرافيا والبعيدة زمنياً كالفرعونية والكنعانية والسريانية والآشورية، وصولاً الى شرق آسيا وحتى ثقافات الإنكا. يبحث بشكل دؤوب عن النفس البشرية المنتشرة على سطح الكرة الأرضية، ولكن كينونتها النائية التي تشكل نتاجه النهائي كامنة فيه هو الفرد الفنان المعبّأ بفلسفته الخاصة المنطلقة من باطن مخزونه الفردي الإبداعي الخاص الى الظاهر المرئي أمامنا على شكل لوحة تبدو في معظم ما أنتجه وكأنّها رقيم (أثريّ)، وحتى وإن احتوت على حَيَواتٍ من الحاضر الحي فهي تبدو للناظر وكأنّما هي نتاج تنقيب عن أحفوريات لمخلوقات رحلت عن عالمنا، فإما أنّها استقرت في الأرض بأشكالها المتحولة من حالتها الجسدية المكوَّنة من لحم ودم الى حالات تختلط فيها أشكال مدفونة مكشوفٍ عنها، مع أشكال لأرواح طائرة هائمة "مُتَمَرْفِزة"(متحولة)، وخيالات و"سيلويتات"(خيال الظل)، تنبئك بأنّ هذا الباطن المتخبّط المرتبك المهموم القلِق الحالِم الباحث ناتجٌ عن سرّ علقتنا منذ لحظة انطلاق هذه الكينونة البشرية بين دفّتي الولادة والموت، وكأنما يريد أن يقول لنا بأنّه ليس متأكدا بأننا سننشطر في النهاية الى حالتين إحداهما أرضية مدفونة وأخرى سمائية سابحة في الفضاء. تبدو خيالاته الرقيمية وكأنما هي انشطار كلي للروح عن الجسد. إنّها لوحات على شكل شطحاتِ ريشةِ فنّانٍ حالم، وعلى الرغم من أنّك لأول وهلة تجد فيها العفوية وبراءة الأطفال إلا أنّها نابعة من عمق الوعي والنضوج.
رحلوا الى داخلنا.

يحب تيسير في لوحاته أن يحكي قصص الذين رحلوا بالأمس واختلطت رفاتهم وأرواحهم مع من رحلوا منذ الأزل، ولكنه يخاطبهم ويخاطبونه وكأنما هم لا زالوا خالدين وأحياء، ساكنين فيه وهو مسكون بهم، وكأنّما هو يرفض فكرة الموت، ولكنّ تصويره لهم بالرسم لا يخفي عنّا بأنّ ما يطرحه أمامنا هي أشكال وصور وتحركات لا تشبه الأحياء لا في اللون ولا في الملامح ولا في المقاييس والأحجام المتعارف عليها، بل هي تشبه عالمه هو القابع في مخيلته الجامحة وكأنمّا هو يُحْيِيهِم فيه من جديد.

اغتيال المواليد

إنّ قوة وعالمية لوحات ورسومات تيسير بركات تكمن في مقدرته على تجيير السهل الطفولي العشوائي التجريبي الى فلسفة صعوبة السهل الممتنع. إنّ عملية البحث التي ينتهجها ملفتة للانتباه وتشكل أسلوب عمله على امتداد مسيرته البحثية والإبداعية. هي عملية مختبرية تجريبية مضنية تتطلب الكثير من اليوغا الروحانية. عندما يقرر عمل لوحة فنية فهو لا يحضّر مسودّة مسبقة. إنّه "يغتال" الكثير من مخلوقات إبداعه في الطريق، وفجأة وبلحظة ما وعند نهاية البحث والتنقيب الذي قد يستغرق أياما- وقد يترك لوحته لأسابيع او لأشهُر ويباشر بغيرها ويعود الى سابقتها من جديد- الى أن يرى أن اللوحة أمامه قد وصلت الى شكل مولوده الذي ترتاح له روحه، علما بأنّه لم يكن يدرك بالضبط أنّ هذا الشكل هو الذي كان يخطّط له مسبقاً وبأنّه سيصل اليه على الشكل الذي نتج في الحقيقة. إنّه غموض شكل المولود الى حين ظهوره الحقيقي في نهاية المخاض العسير. عندما بدأتُ رحلة التأمل في لوحاته ظننتُ لأول وهلة بأنها ناجمة عن تخطيط مسبق وعن مسودّة حضّرها مسبقا قبل أن يحوّلها الى شكلها الذي وصلت اليه وهي بين ناظريّ، ولكنّ تيسير أكّد لي عكس ذلك مؤكّدا أنّها ناجمة عن فوضى متراكمة في خياله. إنّها لواعج مبدع مهموم تتحوّل بالتدريج الى شيء منظّم. تفاجأتُ حقاً عندما عرفت حقيقتها، فهي نتاج عملية تجريب وتمزيق وحرق واختبار تكاد لا تنتهي، وبعد أن تكتمل عملية الولادة وقد تصل الى شهرها التاسع فإنّه يرى فجأة مولوده الأحب الى روحه والمختمِر يتجسّد أمامه، فيقرِّر أنّ ما يراه الآن وفي هذه اللحظة هو ما كان يبحث عنه.

قاريء الفنجان

اختصر تيسير وصفه لطريقة عمله بتشبيه كل هذه العملية الخلقية الإبداعية بقراءة الفنجان. إنّ قاريء الفنجان يقلِّبه بكل الاتجاهات لكي يحاول رسم مصير وغيبيات وأسرار وتجليّات وتوهّمات وتفاصيل قصة صاحبه من بقايا القهوة السوداء المترسِّبة فيه، فتنطلق المادة السوداء المتجولة على سطحه الداخلي لبناء صورة ووصف مرتبك أحيانا وواثق أحيانا أخرى من قِبَل قارئ الصورة والمتجوّل في الفنجان، فيخترع ويرتجل أشكالا يقودها هو وتقوده هي، الى أن تتشكَّل القصة المتخيَّلة، ولكنّ ملامحها وخيالاتها وشخصياتها تبدو وكأنها تشبه ما يحب الإنسان أن يصوغه من جديد في مخيلته وليس ما مَلَّهُ وأدركه بيسر من حياة واقعه اليومي العادي الروتيني. هي ليست لعبة مع الواقع بل هي لعبة مع الخيال المتوَهَّم من الواقع، ومع ما يدور داخل الدماغ من هذيانات وإيحاءات تكوّن مع الوقت زُبدة فلسفته الإنسانية العامة.

من العراء الى اللوحة

وأما ما يسمو به تيسير في فنّه الذي يبتعد عن مستوى القراءة بالفنجان فهو ممارسته للعبته الإبداعية بأقصى ما وصلت روحه ووعيه من نضوج وممارسة وموهبة ودراسة، فَيَغْرفُ من أعماقه ويقذف بها الى سطح لوحته العارية، فيُلبِسها من الباطن ما يملأ الظاهر وسطح اللوحة جزءا من لواعجه وجمالياته الْمُتقَنة. في نهايتها تبدو عملية مخطَّطاً لها مسبقا وقد تخدعك بأنّها كذلك لأول وهلة، ولكنها في الحقيقة ارتجالات ومخاض طويل الأمد لا يعرف الفنان أين سيوصله إلّا إذا صادف في الطريق ضالَّته فيرتاح لها ولاكتشافه لها ولوجودها النهائي، ولذلك فإنّ ما يلازمه في مسيرته ويستحوذ على روحه هاجس البحث عن الباطني المتخيل وليس الواقع كما هو.

ألوانه وبقاؤه في حدودها الهادئة التي تتشبّث بمعظمها بالأسود والأبيض والكامن بينهما مع إضافات ناعمة لألوان أخرى تبتعد عن الصاخب، تكاد تكون هي القاسم المشترك بين جميع لوحاته، وإذا رتَّبَها بشكل عشوائي الواحدة الى جانب الأخرى- كما يحلو له فِعْل ذلك بالفعل كما لاحظت- بدت لي وكأنما هي جدارية واحدة تدور أحداثها وتركيبتها الشكلية عن الجمالية ذاتها والهم ذاته، وكم أتمنى أن تتحول يوما ما الى رسومات على "الغرانيت" او الخزف يزيّن بها الناس جدران بيوتهم ومؤسساتهم ومعاهدهم ومدارسهم لكي تكون جزءً يوميا من المناظر التي تريح الأعين وتثير التأمل والتساؤل والمتعة.

لوحات من عوامل الطبيعة

لا يقيِّد تيسير مختبره بمادة معينة بعينها فهو يتنقل في عمله من "الأكريليك" الى بَرَادَة الحديد الى الخشب والخشب المحروق، الى جبلات وخلطات لمواد متلاحمة ومتناقضة ومواد لاصقة، وكل ذلك رهنٌ للاختبار والتجريب، الى أن يصل الى مبتغاه الأسمى المتمثل بلوحته المؤطّرة والجاهزة للعرض. لديه من الثقة بالنفس بتطويع الحديد والخشب والدهانات والقماش وتعريضها للحرارة والبرودة والتذويب والتلصيق الى أن يصل الى اكتشافه او اختراعه الذي أَستقبلُه أنا كَمُتَلَقٍّ على شكلِ إبداعٍ إيحائيٍّ محبَّب وباعث للتأمل والتفكير والمتعة والإعجاب. يجعل لوحته المؤسَّسة على جماد تنبعث الى الحياة فتتأثّر من بيئتها كما تتأثّر المخلوقات الحيّة. إنّه يجيّر عوامل الطبيعة في بَرْدها وحرِّها وتقلُّباتها لكي يصوغ شكل وألوان مخلوقه المنطلق الى الحياة على نار هادئة وبنَفَسٍ طويل.

كما هي حالة العفوية المتنقلة من التجريب والبحث بشكل يبدأ من العشوائي وينتهي بالاكتشاف، كذلك فهو لا يقيد نفسه بأحجام معينة، فالنتيجة بالنسبة له ليست مقيّدة بمساحة او بحجم او بالطول او بالعرض، فاللوحة عنده ليست بحجمها او بمساحتها وإنما بكثافة شخصيتها الإبداعية، فقد تكون مُنَمنَمة وقد تكون لوحة صغيرة 10سم×10سم وقد تكون بالأمتار وقد تكون مجموعة من اللوحات في لوحة واحدة تشكل جدارية متناسقة فيما بينها.

من المخيّم الى الأسطورة

يكاد القاسم المشترك بين غالبية لوحاته وجود مخلوقات برية وبحرية وجوية وأسطورية بأشكالها التي تكاد تبدو تكرارية الأحجام الجسدية وبساطة التجسيم القريب من رسومات الأطفال. هل أشكالُ آدميّيه وأسماكه وحيواناته وطيوره وحشراته مستوحاة من مخيم جباليا وشواطيء غزّة، أم أنّ هذه البيئة المحشورة في قطاع جغرافي صغير هي التي أوحت اليه بامتداده الإنساني العابر للحدود والمخترق للجدران، منبسطاً بحرية على مساحة الكرة الأرضية والكون بكل اتساعه؟

لم يغادر تيسير بركات مدرسته او مذهبه في الشكل والمضمون منذ بدايات طريقه في الرسم. بقي متشبثا في فلسفته الخاصة باحثاً عن تقنياته من مواد وأدوات جديدة ومتجددة يستعملها لكي يحقِّق فلسفته التي تميزه بشكل واضح عن غيره. له شخصية فنية تجعلني حين أرى لوحة ما لا أشك للحظة بأنّها من نتاجه هو فقط فأقول بدون تردّد: "هذه اللوحة لتيسير بركات". تَتبّعتُ نتائج مختبره منذ بداية تَعرُّفي عليه في ثمانينات القرن الفائت بعد أن سمح لي باختيار إحدى لوحاته غلافاً لروايتي "الجراد يحب البطيخ" التي دارت أحداث رحى الانتفاضة الأولى حولها في مخيّمه مسقط رأسه مخيم جباليا الصامد، فاكتشفت أنّه الى الآن بقي متشبثا بأسلوبه الخاصة وباجتهادة المستميت الذي لا يعرف الكَلَل لكي يطوِّر مذهبه وفلسفته وشكله ولونه الخاص. تيسير بركات أحد أعمدة الفن التشكيلي في فلسطين ونحن نفتخر به.
*****
*راضي د. شحادة: مسرحي وكاتب فلسطيني من الجليل.

استعمال المضامين بموجب بند 27 أ لقانون الحقوق الأدبية لسنة 2007، يرجى ارسال رسالة الى:
[email protected]