بعدما تسلّم ستيفان دي ميستورا منصبه خلفاً للسيد الإبراهيمي، بدأت ترشح إلى العلن إشارات تدعو إلى إنضاج حل سياسي. فكانت روسيا سباقة في التحضير والدعوة إلى مؤتمر»موسكو 1» كمقدمة إلى «جنيف 3»، وذلك في محاولة لبث الحياة في بعض من بنود «جنيف 1»، إضافة إلى اشتغالها على إشراك أطراف من المعارضة التي تم إقصاؤها عن «جنيف 2».

ويتزامن الحراك الروسي مع جولة المبعوث الأممي دي مستورا، ويتقاطع مع ما يحمله من أهداف عملياتية يرى أنه من خلالها يمكن ضبط الصراع وفتح آفاق الحوار السياسي، علماً بأنه أشار إلى أن ما يحمله يحظى بموافقة أميركية، وأكد على الحاجة إلى البناء على بعض نقاط بيان «جنيف 1»، وعلى أن تجميد الصراع في مناطق محددة، وبشكل خاص في مدينة حلب، يمكن أن يساهم في تحجيم رقعة الصراع وأن يكون مدخلاً إلى حل سياسي وإنساني. ومن المعلوم أن مدينة حلب تُشكل بيضة القبّان.

ومن يسيطر عليها سيكون له دور كبير في رسم معالم سوريا السياسية والجغرافية في المستقبل. من هذا المنطلق يمكننا فهم موقف أنقرة وإصرارها على تمكين الأطراف التابعة لها من السيطرة على حلب، والمناطق التي تقطنها غالبية كردية، وبشكل خاص الشريط الحدودي، كرد على تقدم الجيش السوري في ريف العاصمة. من ناحية ثانية، ما زالت الولايات المتحدة وحلفاؤها في المنطقة، يعزفون على وتر «المعارضة المعتدلة» ويصرّون على تسليحها وتدريبها إضافة إلى مجموعات أخرى. هذا في وقت ما زالت فيه «داعش» تُحرز تقدماً ميدانياً واضحاً برغم غارات التحالف. فيما «جبهة النصرة» تعلن حربها على من يسميهم «أصدقاء سوريا» «معارضة معتدلة» «حركة حزم»، و»ثوار سوريا»، ويتجلى هذا من خلال سيطرتها على المزيد من مقرّات هذه المجموعات في ريف إدلب.

وقد بات واضحاً أن التباين بين أهداف ومصالح وآليات الدول الداعمة للصراع، يصل إلى حدود التناقض. وهذا يتجلّى بداهة في مواقف أدواتهم المسلحة الذي يترك تكاثرها وتبايناتها وتناقضاتها آثاراً كارثية على السوريين الذين باتوا يجمعون بشكل كامل، على أولوية مكافحة الإرهاب وصولاً إلى إنهاء الصراع كمخرج من الكارثة الوطنية. وهذا يشكًل بالنسبة إلى السوريين مدخلاً إلى تمكين دور الدولة وإطلاق عجلة الحل السياسي.

بالتزامن مع ذلك، يشهد الائتلاف تحللاً وفشلاً يتجليان في آليات عمله السياسي والعسكري. ومع ذلك، ما زال قادته يصرون على إسقاط النظام كمدخل إلى الحل السياسي. وبات من الواضح أن هذا الخيار الذي تزامن طيلة سنوات الصراع مع تعدد الولاءات ومصادر التمويل والفساد والتناقض داخل مكوناته السياسية وأدواته العسكرية، يثير جملة من التباينات في مواقف الدول الداعمة له، ويساهم في ذات الوقت في افتقاده المصداقية وتلاشي تأثيره السياسي.

بناءً على ما تقدم، فإن الأوراق التي راهنت عليها قوى الخارج، الإقليمية والدولية، لإسقاط النظام، قد أُحرقت. لكن الدول التي تقود تحالفها المعادي ضد سوريا حققت أكثر من ذلك. ونعني بالضبط تدمير البنى الاقتصادية والاجتماعية، وتشكيل مناخ يمكّنهم من التلاعب بالتنوع الديموغرافي والخريطة الجيو ـ سياسية، إضافة إلى إغلاق آفاق مستقبل سوريا الديموقراطي. هذا في وقت لم تزل فيه «معارضة الداخل» تعاني من التفكك والضعف، ما يجعل من مشاركتها في بناء سوريا سياسياً وثقافياً واجتماعياً واقتصادياً، أمراً هامشياً وظاهرياً، كونها تفتقد الحوامل الاجتماعية.

إن اختلاف المشهد السوري بين ربيع 2011 وشتاء 2014 يجب أن يكون حاضراً على جدول المؤتمرات القادمة. وإلا فإن أي مفاوضات ستكون كالدوران في حلقة مفرغة. فتمسّك الائتلاف بشعاراته «المقدّسة» وكذلك الفصائل الجهادية، وأيضاً تجاهل الحكومة للمتغيرات الطارئة وضرورات التغيير السياسي، يعنيان فتح سوريا على مزيد من الكوارث والدمار.

فالتحضير لـ»موسكو 1» أو «جنيف 3» سيكون من الأهمية بمكان. لكن بشرط أن يكون مبنياً على أسس واضحة ومحددة، وبعيداً عن اللغة الديبلوماسية المضللة. فحاجة السوريين إلى حراك دولي يعتمد معايير تُعبر عن مصالحهم الحقيقية، ويضمن وحدة سوريا ويحمي المجتمع من التفتت والتشظي، بات أمراً ملحّاً.

إن ازدياد حدة الصراع وتداخل مكوناته، وتغوّل المجموعات الإرهابية، تدلل على ضرورة البحث في مخارج جدية لتجاوز الأزمة. وهذا يستوجب موقفاً دولياً موحّداً يلحظ أهمية المستوى السياسي ومحاربة الإرهاب بتجلياته وتداعياته كافة في آن. لكنّ عدم الجدية في محاربة الإرهاب والاستمرار في دعمه، يعنيان استمرار الصراع وتعميق الكارثة الوطنية وتفّريخ حركات جهادية أكثر تطرفاً. فالأطراف المشاركة في الصراع، إضافة إلى عجزها عن تقديم حلول سياسية ناجعة، ترفض المشاركة في حوار سياسي مفتوح وبنّاء، وهذا يدلل على دورها في تعميق الأزمة.

بهذا المعنى، فإن نجاح المؤتمرات القادمة أمر مشكوك فيه. وهذا يعني انفتاح سوريا وجوارها على كارثة أكثر تعقيداً وعمقاً. والأمر هذا يتعلق بجملة من الأسباب: أولها، تواري الإرادة الدولية خلف مصالح دول وأنظمة بعينها. وثانيها استمرار المجموعات الجهادية في تنفيذ أجندات إقليمية ودولية تهدف إلى تدمير المجتمع السوري وكيانية دولته. وثالثها انتظار القوى السياسية أن تأتي الحلول من الخارج، هذا في وقت تفتقد فيه ابسط المقومات للمبادرة السياسية. أما رابعها فإغفال الحكومة مصالح الفقراء، وتجاهلها أهمية إنضاج حل سياسي داخلي، والأكثر دلالة هو ملاحقة الناشطين والمثقفين حتى اللحظة، في وقت بات واضحاً فيه أن من يتحكم بحياة المواطنين هم ثلة من تجار الأزمات وأمراء الحرب. وهؤلاء يرون أن استمرار الأزمة يضمن لهم مصادر الثراء.

أخيراً نتساءل عن قدرة موسكو على فتح ثغرة في جدار الأزمة، ووضع أسس حل سياسي شامل وعميق في مناخ سياسي بالغ الخطورة والتعقيد والتراكب. وهل ستكون قادرة في سياق تواصلها مع الحكومة، وبعض رموز المعارضة السلمية التي ترفض التدخل الخارجي والعنف والطائفية والتقسيم والارتهان للخارج، على توفير مناخ ملائم للبدء في حوار سياسي؟ هل تمتلك معارضة الداخل القدرة على ضبط آليات الصراع في حال توصلت مع الحكومة إلى توافق بخصوص الصراع المسلح؟ وإن لم تكن قادرة على ذلك، وهو حالها، ألا يعني هذا إن الائتلاف وفصائله المسلحة، أي «الجيش الحر» والمجموعات الجهادية، هي المعنية بشكل مباشر بأي توافق يتعلق بالقتال الدائر؟ أليست الأطراف الدولية والإقليمية القادرة على ضبط هذه الأطراف، هي ذاتها التي تغذي الإرهاب وتموّل المجموعات المقاتلة؟ هل توجد مؤشرات على أن الدول الداعمة لتلك المجموعات والتنظيمات توصّلت إلى قناعة ولو نسبية، بأن الصراع بأشكاله الحالية أصبح كارثة إقليمية ودولية؟ في حال لم يكن ذلك، ألا يعني هذا إصرار تلك الدول على مواصلة القتال بأدوات سورية وغير سورية، حتى يتم تدمير مقومات الدولة بشكل كامل؟ أما المجموعات الجهادية، فهي إضافة إلى أنها شوّهت المشهد السوري، فإنها تُجهض أي تحول ديموقراطي، وتغلق أبواب الحل السياسي. وهذا يتزامن مع بؤس آليات عمل المؤتمرات السابقة، وتراكب عوامل الأزمة، إضافة إلى العهر السياسي الذي تمارسه بعض الأطراف.

هذه العوامل ساهمت في فقدان الأمل بأي حل سياسي قريب. وإن كانت بعض التجليات تدلل على بوادر إطلاق عجلة العملية السياسية، فإن دونها الكثير من الصعوبات التي تهدد جدياً نجاح أي جهد سياسي.

استعمال المضامين بموجب بند 27 أ لقانون الحقوق الأدبية لسنة 2007، يرجى ارسال رسالة الى:
[email protected]