من الخطأ الجسيم اعتبار أن رفع نسبة الحسم هي الدافع الرئيس أو الوحيد الذي جعل القوى السياسية العربية تتحد في قائمة انتخابية واحدة. لأن هذا الاعتقاد يقلل من أهمية الحدث، ولأنه أيضًا يتجاهل المقدمات والرغبة الشعبية الدافعة وراء هذا الحدث، كما لا يستشرف التفاعلات المتوقعة على المستوى السياسي والشعبي.

ومن الخطأ أيضًا القول أنه لا يستفيد من هذه القائمة سوى الأحزاب السياسية التي تخوض الانتخابات، أو أعضاء الكنيست فقط. نعم في السياسة أمور كثيرة لا نحبها، ومنها مظاهر الشخصنة والذاتية التي تتسع، بتأثير المتغيرات العالمية وعلى الساحة السياسية الإسرائيلية. ولكن لا مجتمع حديث بدون سياسة. السياسة هي السعي لامتلاك القوة، والتأثير في آراء وحياة الناس وفي إدارة المجتمع والدولة. والأحزاب السياسية هي الأدوات الحديثة التي يشترك من خلالها المواطن في السياسة، في اختيار من يُمثله، ومن يُعبّر عن صوته وعن حاجاته وهويته. كما أن التحالفات السياسية والانتخابية تفترض التنازلات للوصول إلى قاسم مشترك وغالبًا ما يخرج طرف أو أكثر أو ربما كل الأطراف بشعور أنهم قدموا تنازلات.

لا يمكن لشعب، أو لأقلية قومية، تعيش تحت الاضطهاد وخاضعة لمنظومة قهر عنصري، أن تنأى بنفسها عن السياسة، عن الشأن العام. إن النأي بالنفس هو بمثابة تكريس للاستعباد.

نعم لقد كان لرفع نسبة الحسم دور مركزي في توحيد القوائم، ولكن حتى مع هذه النسبة كان واردًا جدًا أن يخوض المواطنون العرب الانتخابات بقائمتين لو قبل التجمع هذا الخيار. وهو ما أصرّ التجمع على رفضه.. وهذه حقيقة يعرفها الجميع. هناك قوى أخرى كانت دائمًا مع قائمة واحدة، ولكنها كانت يائسة من إمكانية تحقيق ذلك، ولذلك هي لم تبذل جهدًا كافيًا. وكانت مسلمات كالانغلاق القومي، وكالإيمان بعدم إمكانية التقاء الشيوعي مع الإسلامي في تحالف واسع واحد ضد نظام اضطهاد من المعيقات التاريخية لدى البعض.

في الظاهر كان البعض يرفض بشدة القائمة الواحدة، ولكن تحت السطح، كانت فكرة القبول بالقائمة الواحدة تنضج. فالفكرة الوحدوية، على أساس قومي، سواء بخصوص إعادة بناء وانتخاب لجنة المتابعة أو بخصوص خوض الانتخابات بقائمة واحدة، حتى عندما كانت نسبة الحسم 2%، كانت قد دخلت مجال النقاش العام، والنخبوي، منذ أكثر من 15 عامًا. وليس صدفة أن أحد قادة الجبهة، وهو رئيس بلدية الناصرة السابق، السيّد رامز جرايسي، أعلن قبوله هذه الفكرة، قبل الانتخابات السابقة 2013 وتبعه الدكتور حنا سويد، وإن رأيا فيها كتلة تقنية لا أكثر – أي لأهداف انتخابية محصنة.

في مقال كتبته أواخر عام 2012، عشية الانتخابات السابقة، وبعد محاولات لم تتكلل بالنجاح بإقامة قائمة واحدة وكنت أنا شخصيًا موكلاً في المفاوضات (بسبب رفض الجبهة) توقعت، أو استشرفت أن يكون لذلك ثمار في المستقبل.

وكتبت: "لقد عمل التجمع كل ما بوسعه، وبصدق متناهٍ ومبدئية مثابرة باتجاه التوحيد، ولكن إن لم تتحقق الفكرة الآن فإننا نكون قد وضعنا مدماكًا حقيقيًا لإمكانية تحقيق ذلك في المرحلة القادمة".

وجاء أيضًا: "نعم يكون التجمع عبر هذا الجهد قد أوصل الفكرة وأوصل أهمية التعامل الوطني والمسؤول إلى أوسع شرائح شعبنا الذي بالتأكيد سيقطف ثماره قريبًا".

نعم لم تعد المسألة انعزالاً قوميًا، أو انغلاقًا شوفينيًا، بل تعزيز الانتماء لإطار قومي وتجميع عناصر القوة الداخلية، وانفتاح إنساني وديمقراطي. وهذا الانفتاح هو أيضًا عنصر قوة وليس ضعفًا إذا ما وضعناها في إطار الفهم السليم والممارسة السليمة.

أما بخصوص الفائدة للجميع. نعم كل شعبنا يستفيد من هذه الخطوة النوعية، ويوفر له فرصة هامة لاكتساب الحصانة في مواجهة الاستضعاف والشرذمة وحملات الكراهية والعداء والتهديد.

إن البطش السلطوي الإسرائيلي المترافق مع سياسات الإغراء والاحتواء، يُضعف المجتمع ويُفرغه من قوته عندما لا يكون منظمًا وموحدًا. فالأفراد في هذه الحالة يلوذون بالصمت، أو بالهروب من المواجهة والفعل. ويبقى في الساحة مجموعات منظمة قليلة تتحمل المسؤولية ولكن بدون تأثير حاسم. إن كل الناس، وكل القوى السياسية والأطر الأهلية، حتى المقاطعة منها للانتخابات، هي جزء فاعل في المجتمع، المجتمع الذي تشارك في الدفاع عنه وإسماع صوته وحماية أبنائه وبناته، وتنهمك في بناء المؤسسات الخيرية لمساعدته على الصمود. فهذه الوحدة الانتخابية تُسهل على جميع القوى التخاطب والتواصل مع الناس واستقطابهم للعمل السياسي والنضالي في الميدان.

نعم، لننظر إليها، ونتعامل معها كمعركة سياسية هامة، وتاريخية، في ظل تغول الأعداء وتوحشهم، وفي ظل الانقسامات العميقة في الحركة الوطنية الفلسطينية والوطن العربي. أنت تحشد الناس، أصحاب الوطن، وراء حملة سياسية تثقيفية موجهة كلها إلى العدو وليس إلى داخلها. من خلالها تتلقى الأجيال الشابة الصاعدة جرعات مكثفة من السياسة والحوافز على اقتحام ساحات التأثير.

لا يجوز اختزال المسألة في تحقيق أكبر عدد من المقاعد، أو عزل هذا الهدف الهام عن معانيه السياسية والاجتماعية والاستراتيجية. نعم زيادة الوزن السياسي للفلسطينيين وإسرائيل هو هدف رئيس، ليس للتأثير في الرأي العام الإسرائيلي فحسب، بل في الأساس في التأثير والتحكم بمسيرة تطور هذا الجزء من شعبنا.

المطلوب في هذه المعركة

المطلوب استنفار المواطنين العرب للنزول الى الصناديق، وأن يشارك المواطنون العرب أنفسهم في عملية الاستنفار والتعبئة والتشجيع المتبادل للخروج من البيوت. يُنتظر أن يظهر أناس مبادرون كثيرون، ومتطوعون يناشدون بعضهم البعض، ويذهبون جماعات جماعات من مختلف المشارب الفكرية والاجتماعية والسياسية إلى الصناديق، وسيظهر هذا السلوك الجماعي كتجربة احتفالية وحدوية لافتة، لأنهم سيحتفون برسائل موحدة، وخطاب موحد، وطواقم موحدة في مواجهة التحريض اليميني الصهيوني الذي سيتصاعد. هي تجربة فريدة وأولى في تاريخ هذا الجزء من شعبنا الفلسطيني التي هي تجربة تدعمها الغالبية الساحقة من فصائل منظمة التحرير الفلسطينية ومن خارجها، كحركة حماس. وقد يُجادل ناشط، أو مثقف، في صحة هذا الموقف، ولكن هذا الموقف الفلسطيني شبه الإجماعي ينطلق من إدراكهم لواقع الحال، ومن رغبتهم في رؤية هذا الجزء من شعبنا الذي اكتشفوا قوته وموقعه الاستراتيجي في الصراع متأخرًا، يتحد ويكتسب أوراق قوة جديدة. نعم هناك أوساط في السلطة الفلسطينية ترى في هذا الجسم الانتخابي الجديد كتلة مانعة تـُسهل عليها المفاوضات في المستقبل مع حكومة أقل تطرفًا، أكثر مما ترى فيها تعزيز للموقع الاستراتيجي لفلسطينيي الداخل الذي من المفروض أن يكون جزءًا من معادلة القوة ضد الصهيونية، وجزءًا من استراتيجية إسقاط النظام الكولونيالي الصهيوني. ليفكر هؤلاء كما يشاؤون لكن ديناميكية الحدث وتفاعلاته ستتجاوز هذه الرؤية الاختزالية.

الأمر الثاني: إن خوض معركة الانتخابات في طواقم موحدة على مدار أسابيع، فرصة لتخفيف التوترات بين الأحزاب، وفرصة للتعارف، فرصة للتفاعل بين التوجهات المختلفة. لن تزيل هذه المعركة المشتركة الاختلافات والفروقات الفكرية والأيديولوجية، وليس مطلوب إلغاؤها فهي من المفروض، في مجتمع صحي، أن تكون مصدر غنًى وإثراء للتجربة السياسية المشتركة التي تخوضها الأقلية القومية الفلسطينية داخل الخط الأخضر. المطلوب هو تحقيق أكبر قدر من التفاعل الاجتماعي والتعود على العمل المشترك. ليس هناك مستقبل حقيقي لأي جماعة قومية تخضع لنظام كولونيالي عنصري بدون ترسيخ عقد اجتماعي فيما بينها، ويترجم في مؤسسات قومية جامعة منتخبة. إذا تحقق هذا التعاون وأزيل الكثير من الخصومات والتوترات، فإننا نكون قد وضعنا المدماك الجديد الأول لمرحلة أكثر أهمية نحتاجها في صراعنا من أجل التطور وضمان المستقبل لأبنائنا وأحفادنا.

لقد دقت ساعة العمل؛ القائمة أصبحت ملك الناس، حتى لو لم يشاركوا في تركيبها. فهي جاءت استجابة لرغبتهم وشوقهم ولحاجتهم لوحدتنا/وحدتهم. هم بفطرتهم، وبغريزتهم، التي أحيانًا تصدق أكثر من رؤية السياسيين، يرون الفكرة الكبرى في الأساس، خاصة في هذه المرحلة ولا يتوقفوا كثيرًا عند التفاصيل. تعالوا نسجّل نصرًا.. تعالوا نحرر أنفسنا من مسلمات تآكلت ومن قيود قديمة .. تعالوا نفتح طريقًا جديدًا نحو أفق جديد أرحب.
 

استعمال المضامين بموجب بند 27 أ لقانون الحقوق الأدبية لسنة 2007، يرجى ارسال رسالة الى:
[email protected]