لا أزال أعتقد بأن خيار المقاطعة الجماعي للانتخابات التشريعية في إسرائيل، ينبغي أن يكون خيارا ضمن الخيارات الاستراتيجية للأقلية العربية الفلسطينية في إسرائيل ـ كما هو خيار المشاركة. وقد شهدنا في نضالات مجموعات معينة في التاريخ الحديث كيف أنه تم تطوير المقاطعة إلى عصيان مدني. إلا أننا بشأن حالة مشاركة فاعلة اختارت النُخب العربية الفلسطينية هنا اعتمادها. وليس صدفة. لم تنشأ حتى الآن ـ رغم كل توصيف يُمكن أن نعطيه للمنظومة السياسية المركبة التي نعيش وسطها ـ شروط توجب اعتماد هذا الخيار جماعيا أو بقرار من النُخب القيادية.

ومع هذا، هناك دعوة للمقاطعة وهناك مقاطعة فعلية من أوساط بيننا لها مسوغاتها. ينتمي المقاطعون إلى أربع مجموعات بارزة، الأولى ـ مجموعات تعتقد لأيديولوجيتها أن المشاركة إنما هي شرْعنة اللاشرعي وتواطؤا مع المحتلّ. الثانية ـ مجموعات ذات عقيدة إسلامية تقضي بعدم جواز المشاركة في انتخابات تشريعية وإن أجازت المشاركة في انتخابات محلية. ثالثا ـ مجموعات تعتقد أن القيادات العربية هنا تفرّقت أو اجتمعت ـ كما الآن غير جديرة بالثقة. الرابعة ـ أفراد يقاطعون لموقف أخلاقي متعدد المستويات يتصل بالدولة أو واقع سياسي أو موقف محدد لجهة بعينها. وقد تكون المقاطعة هنا انتقائية ـ لمرة واحدة وليس شاملة.

كل الدوافع للمقاطعة مشروعة. فأن يقول أحدهم أنه يقاطع ويسوق أحد المسوّغات الآنفة الذكر أمر مفهوم لنا وإن كنا على نقاش معه. لكن أن تسوق إحداهن كل هذه المسوغات دفعة واحدة للدفاع عن موقفها المقاطع فهو امر مشبوه أو مهموز النسب كما قالت العرب. فإذا قاطعت أيديولوجيا مثلا (رفضا للاحتلال وشرعَنَتَه) ـ فإنك لن تكون معنيا بالتفاصيل ـ تركيبة القائمة، حملة القائمة، موقع أحد مركباتها أو ما شابه. وإذا كانت المقاطعة ضميرية لأن اثنين من المرشحين في القائمة متزوجين من أكثر من زوجة، فلن تخوض في العقيدة ولن تنظّر علينا عن رفض التعاون مع الكنيست بوصفها نتاج صهيوني مئة بالمئة. أما إذا قاطعت لأنك غير راض عن أداء الأحزاب العربية مجتمعة، فلن تشغلنا بادعاءات مكرورة عن وطنجية مارقة. لكن أكثرية النقاش من أنصار المقاطعة يتضمن كل الادعاءات دفعة واحدة. أو أنه يتضمن ادعاءات تفصيلية ليس لها أي علاقة بالتسويغ العقائدي للمقاطعة.

لم تبق الأمور عند هذا الحدّ بل انزلق الكثير من أنصار المقاطعة إلى مواقف صبيانية مثل اتهام القائمة المشتركة مثلا وفي إطار سجالات عقيمة تماما بالتنازل عن حق العودة بينما المقاطعون حُماة هذا الحقّ! أو أنهم ـ أنصار المقاطعة ـ لا يدافعون عن موقفهم ولا يشرحونه بل يشنون هجوما تلو هجوم على القائمة المشتركة حدّ اتهامها بالتواطؤ أو التعاون مع المحتلّ. وهناك استراتيجية أخرى وهي الانقضاض على نقاط ضعف في القائمة ـ وفيها كهذه ـ كأن يتمحوروا في مهاجمة حنين زعبي أو أحمد طيبي أو غيرهما أو تكرار الادعاء بأن التحالف قام على أساس تدارك رفع نسبة الحسم، أو رفض القائمة لأي مناظرة مع أنصار المقاطعة. ومن هنا يصير الطريق قصيرا إلى تشويهات وأضاليل وجزئيات لا علاقة لها بأمر المقاطعة أو المشاركة. طبعا ـ لا يتأخر الردّ من أنصار القائمة فيشنون هجوما مضادا باللغة ذاتها. أما النتيجة فتلاسُن ينتهي عادة بتشنجات وعصبيات. كأننا عندما ارتحنا من تناحر الأحزاب والأطر الفاعلة مع قيام القائمة جاءنا التلاسن مع أنصار المقاطعة ليُهدر طاقات حيوية على أمر كان ينبغي أن ينتهي بالقول ـ "قاطعوا هذا حقّكم" و "شاركوا ـ نتمنى لكم النجاح".

يسمح بعض أنصار المقاطعة أن يقولوا عن القائمة المشتركة كل شيء وأن يسوقوا كل ادعاء، منطقي وغير منطقي، الهام والصبياني، الجدّي والتافه ـ لكننا عندما نناقشهم ونشير إلى التافه في ادعاءاتهم وإلى سلوكهم غير النزيه في النقاش وإلى مماحكاتهم البائخة وقولهم الكلام جزافا، فإنهم يرفعون عقيرتهم متمسكنين مطالبين ألا نُقصيهم. كأن الحق في الرأي أولوية لهم أو أنهم "أصحاب الحظوة الأخلاقية" أحق من غيرهم في القول! وقد بلغ ببعضهم أن تقمّص شخصية نبيّ غضب يُقيم الدنيا ضد القائمة المشتركة ورموزها كأنهم مسؤولين عن الفحشاء والاحتلال وموبقات العصر كلها!

الحديث الدرامتيكي عن القائمة نُصرة لها أو هجوما عليها هو حديث باطل فاقد لمعناه. القائمة المشتركة وما يُمكن أن ينتج عنها جدير بالاهتمام وبالتأييد كما بالمعارضة. كذلك الانتخابات التشريعية، يُمكن أن نقاطعها لأسبابنا التي معنا ويُمكن أن نشارك فيها دون أن يتحول الفاعل في الحالتين إلى شيطان رجيم أو عدوّ شعبه. تنشأ المشكلة عندما يعتقد أحدهم أن للمجتمع حقيقة واحدة وضمير واحد ورأي واحد وحقيقة واحدة، وأنه دون خلق الله كُلّف بالتجسيد والتمثيل والحل والربط. أو عندما يفترض أنه التجسيد الأمثل لهذا الضمير وكل ما عداه تشويه وضرب من الخيانة أو العمالة مع العدو! أقول هذا القول بالاتجاهين وإن تميّز به في هذه المرحلة قسم من أنصار المُقاطعة الذين ما ارتدّت ألسنتهم إلى حلوقهم في ذمّ إقامة القائمة المشتركة! علما بأنهم لا يُقاطعون في العادة شيئا تقريبا في إسرائيل و"نِعمها" طيلة أيام السنة. لكن ما أن تتحرك الماكنة الانتخابية حتى ينتفخون من شدة الأهمية الذاتية وتبدأ ماكناتهم هم بالعمل ضد المشاركة ومع المقاطعة بفيض من كلام أفقد المقاطعة معناها وجديتها كخيار في المستقبل وأساء لكل مُقاطع من موقف مسؤول بما يُمكن قبوله والتفكير فيه كتسويغ. حتى ليخيّل إليك إنهم يعتقدون بنوع من العناد الطفولي أن عدم الانصياع لوجهة نظرهم ـ المقاطعة ـ يعني إغلاق باب التاريخ وانتهاءه هنا وإن الفرد مِنّا يُختزل إلى ثنائية مصيرية ـ إما أن تُقاطع فأنت حي ووطني ومع شعبك، وإما أن تقترع لصالح المشتركة فتسقط ميتا في الهوة السحيقة لفخّ الصهيونية!

في هذا السِجال كما في غيره ـ تبدو الثقافة الراهنة عاجزة عن تبيّن مواقف وإمكانية نشوء حوارات بانية للمعرفة وممكّنة للمجتمع. وعاجزة عن إرساء قواعد اللعبة وأهمها الشفافية في تسويغ الموقف مع أو ضد أو تحديد نقاط الالتباس أو الارتباك. وأعتقد أن كل فرد فينا قادر أن يفعل وأن يُحدد موقفا مع القائمة أو مع المقاطعة أو أي موقف آخر يصل حد التصويت لحزب غير القائمة المشتركة. وأعتقد أن مجتمعنا ليس بحاجة إلى أوصياء ولا إلى أنبياء غضب ولا إلى آلهات كلام وبائعات أخلاق صار حضورهن دبِقا ولزجا وثقيلا غير مهضوم. كل ما يحتاجه الناس منّا هو أن نكون مخلصين ومستقيمين في القول، عقلانيين إذا ناصرنا وعقلانيين إذا قاطعنا وامتنعنا. هناك ما يكفي من مسلسلات دراما تركية وسورية، ولا حاجة بنا إلى سجالات من هذا النوع حتى يظلّ للسياسة معنى.
 

استعمال المضامين بموجب بند 27 أ لقانون الحقوق الأدبية لسنة 2007، يرجى ارسال رسالة الى:
[email protected]