بعد تصريحات نتنياهو في حملته الانتخابية تجاه الجماهير العربية وتصريحه الرافض للدولة الفلسطينية، حين قال: إنّه "لن تقام دولة فلسطينية ما دام هو رئيس للحكومة"، وعقّب الرئيس أوباما قائلا: "إنّ عدم قيام دولة فلسطينية أمر لا تستطيع الولايات المتحدة قبوله" مضيفًا أنه نتيجة لذلك سيدرس أفضل طريقة لإدارة العلاقات الإسرائيلية الفلسطينية على مدى الفترة الباقية من ولايته".

والسؤال الذي يطرح هو علام يقوم الخلاف بين أوباما ونتنياهو؟ هل هو خلاف على القضية الفلسطينية وتطبيع العلاقات بين إسرائيل والفلسطينيين؟

إن الاختلاف بين أوباما ونتنياهو ليس خلافًا بين شخصين، بل خلافًا بين نهجين وربما أكثر.

النهج الأمريكي أصبح ينظر إلى الشرق الأوسط بطريقة مختلفة عما ينظر إليها نتنياهو، إذ أدرك أوباما أن سياسة اجتياح البلدان الشرق أوسطية واحتلالها قد أضعف الولايات المتحدة، واستنزف من قوّتها وهيبتها؛ فبدأ بالبحث عن نهج جديد عليه اعتماده، ومنه تحسين العلاقة مع إيران وهذا مؤشر جيد، فإذا كانت العلاقة مع إيران تسمح لأمريكا بالكفّ عن الاعتماد على إسرائيل والسعودية، وتعزيز علاقاتها بها أي بإيران، فقد بدأ يظهر نهج مختلف في التعامل مع إسرائيل بغض النظر عمن يتبوّأ منصب رئيس الحكومة. هذه الرؤيا الجديدة هي التي تلعب دورًا في التوتر الحاصل بين أمريكيا وإسرائيل. وليس التوتر الشخصي بين أوباما ونتنياهو إلا مؤشرًا على ذلك، لكنّ القضية أعمق بكثير.

إن الاعتماد المفرط لأمريكيا على إسرائيل والسعودية أدى إلى الكثير من الكوارث لأمريكا، وفي واشنطن يدركون أن ذلك لم يعد مجديا، وعليهم الاعتماد على خيار آخر قد يسمح بتحسّن الوضع، وخاصة بتحسين العلاقة مع إيران، وبالذات سماع رأي إيران بما يخصّ القضية الفلسطينية.
إن الموقف المصطدم مع نتنياهو أصبح واضحًا، وما نسمعه اليوم، ولم نكن نسمعه في الماضي، هو محاولة تطويع الإدارة الأمريكية لمصلحة المواقف الإسرائيلية. أمريكيا متفاجئة من المواقف الإسرائيلية، نتنياهو يحاول القضاء على حلّ القضية الفلسطينية، بل وإلغائها؛ ولذلك يقوم الصدام اليوم مع الولايات المتحدة بمبادرة نتنياهو الذي حاول اللعب في الملعب الداخلي الأمريكي واستفزاز الإدارة الأمريكيّة بزيارته للكونجرس واستعمال الجمهوريين لتأليبهم عليها.

الخلاف الإسرائيلي- الأمريكي الحادّ والمتعلّق بموضوع المفاوضات النووية بين إيران والدول الخمس الكبرى والتي تبنتها الولايات المتحدة الأمريكية (بعد ان تواصلت بصورة سرية مع الحكومة الجديدة في إيران لمدة ستّة أشهر قبل إعلانها الدخول بصورة مكشوفة في المفاوضات التي جرت بوساطة عُمانية)- دفع نتنياهو أكثر الرافضين لفكرة المفاوضات مع إيران، إضافة الى السعودية، إلى شنّ حملة دبلوماسية وسياسية واسعة، بدأها بالتهديد بضرب المفاعلات النووية داخل ايران وصولا إلى اتهام ايران بالكذب وتشبيه الرئيس الإصلاحي حسن روحاني بـ"الذئب في ملابس حمل"، فيما لم يدخر أي جهد في اتهام الإدارة الامريكية بالضعف والتردد والسماح لإيران بخداع الولايات المتحدة الامريكية. وقد كسب "نتنياهو"، بمحاولاته الاستفزازية، غالبيّة الجمهوريين داخل الكونغرس الأمريكي، حتى أنّ دعوة الجمهوريين لنتنياهو بإلقاء خطابه داخل أروقة الكونغرس الأمريكي كانت قد تجاوزت جميع البروتوكولات الرئاسية المتّبعة بين الدول، بعد أن مرّت من دون موافقة أو حتّى علم الرئيس الأمريكي والبيت الأبيض، ما حدا بأوباما في المقابل إلى رفض استقبال نتنياهو معتبرا أنّ الامر لا يعدو كونه من باب "الدعاية الحزبية".

في الماضي كانت إسرائيل تمتنع عن التصادم مع احد الحزبين: الديمقراطي والجمهوري لتحافظ على دعمهما لإسرائيل وقضاياها الاستراتيجية. إن اختراق هذه المعادلة كان بمبادرة نتنياهو الذي اعتقد أن الفرصة سانحة نتيجة الأحداث الشرق أوسطية كي يتنصل من أي التزام أمام الإدارة الأمريكية تجاه القضية الفلسطينية وقبول الحلّ السياسي مع إيران. نتنياهو تجرأ، عمليًا، على الإدارة الأمريكية، ولعب دورًا مخرّبًا للمشروع الأمريكي الجديد، وهذا مصدر الصدام، وليس التحوّل في السياسة الأمريكية.

على الولايات المتحدة الأمريكية أن تعزّز دورها القانوني الدولي وخاصة بما يتعلق بالقضية الفلسطينية، وهنالك إمكانية أن يعمل الجميع في العالم مع أوباما لتطبيق القوانين الدولية في الشرق الأوسط، ويتضح ذلك من خلال الوثيقة المقدمة من الممثليّات الأوربية في القدس، وهي التي عُرفت بـ "وثيقة الأربعين" والتي نصّت على أنّ ذلك ممكن، بدل تعزيز قوتها العسكرية، وهو ما دأبت الولايات المتحدة على فعله، وما كان يدفعها للاستفادة من إسرائيل.

الآن بدأ الأمر يتغير؛ فإسرائيل ما زالت تحاول إضعاف جيرانها، وأمريكيا تفكر أنه لربما يجب تغيير هذا التوجّه. إن احتلال أفغانستان والعراق والتدخّل في ليبيا وسوريا كانا كارثيّين على أمريكيا؛ لذلك عليها أن تجرب مناهج جديدة، وهو ما لعب دورًا في تعزيز الهوة بينها وبين إسرائيل. والسؤال الذي يسأل: "هل سيخفّف أوباما من الاعتماد على إسرائيل والسعودية خلال فترة رئاسته/ قيادته، أي حتى عام 2016؟

ربما يستطيع أوباما التقرّب من إيران والفلسطينيين، وسيعطيه ذلك إرثًا كبيرًا في المنطقة، لكن لن تبقى إسرائيل صامته فاللوبي الصهيونيّ والإدارة الإسرائيلية يشعران بالإحباط؛ ولذلك يحاولان التدخل في السياسة الأمريكية، ويعملان مع أعضاء الكونجرس من الجمهوريين من أجل الاعتراض على قرارات الرئيس أوباما، أي سرقة الإرادة والمواقف الأمريكية وإيصالها لأعضاء الكونجرس الجمهوريين مما يدلّ على سعي إسرائيل المميت دون الحؤول لتغيير السياسات الأمريكية في الشرق الأوسط، مما دعى نتنياهو إلى استجداء الدور الفرنسي لتأثير على المباحثات الأمريكية الإيرانية، وسوف يقاومان حتى اللحظة الأخيرة. إمّا أوباما فبإمكانه، إذا تحلّى بالإرادة القوية، أن يغير علاقاته مع إيران كما عمل نيكسون مع شرق أسيا إذ ساعد ذلك في تعزيز العلاقات مع الصين وغيرها، نكسون تجاهل ما يقوله السعوديون والإسرائيليون. وإذا تمكن أوباما من بناء علاقات متينة مع إيران فسيكون لذلك، دون شكّ، دور إيجابي ينعكس على أميركا والشرق الأوسط.

إن فشل مشاريع أمريكا في المنطقة: في العراق وسوريا، وتهاوي المؤامرة على سوريا لم يترك في أيدي أميركا الكثير من الأدوات؛ وعليها، لذلك، البحث عن مخارج لمصالحها في المنطقة.

ينبع التناقض بين السياسة الأمريكية والسياسة الإسرائيلية من هذا الفشل، فإسرائيل تحاول أن تناور على التحولات في الشرق الأوسط، ونتنياهو يحاول أن يبني تحالفًا مع دول خليجية مثل السعودية لمقاومة التحول الأمريكي للتقرّب من إيران وإيجاد حلول جديدة في المنطقة، فكلما عمّقت إسرائيل هذه السياسة فهي ستلعب دورًا أكبر في تعميق التناقض مع السياسة الأمريكية، وهذا ما يجعل السعودية تعلن الحرب على اليمن لأنها ما زالت تفشل في المحافظة على دورها بعد فشل سياستها في العراق وسوريا، فهي كانت دائمًا تعرف كيف تدخل في مغامراتها، لكنّها لا تعرف كيفية الخروج منها؛ ما قادها من فشل إلى فشل آخر وهي تصارع اليوم من خلال اليمن للمحافظة على دورها الذي بدأت إيران بأخذه منها شيئًا فشيئًا، وهدف الحرب على اليمن ما هو إلى للتحريض على ايران بهدف افشال الاتفاق.

إن ما يحدث الآن هو تمرّد إسرائيل على المشروع الأمريكي، وهي تتمرّد على المصلحة الأمريكية المباشرة النابعة من فشل المشاريع الأمريكية المذكورة، وهذه الحالة باتت فرصة لنتنياهو في عدم الالتقاء بالمشروع الأمريكي الذي يبحث عن منافذ نتيجة فشله في المنطقة، ومنها الوصول إلى تسوية سياسية لحل القضية الفلسطينية والوصول إلى دولة فلسطينية مستقلة.

وهذه فرصة هامة للفلسطينيين يجب استغلالها في القضية الجوهرية لأن الأدوات التي تقلص الفرص للتعاون قد تقلصت؛ فعليهم العمل على تعميق هذا التناقض بين السياسة الإسرائيلية والسياسة الأمريكية ومطالبتها بترجمة هذا الموقف لمصلحة القضية الفلسطينية.

في السنة والنصف القادمتين ستزداد التضاربات بين مصالح إسرائيل ومصالح أمريكيا، فإسرائيل تريد أن تبقي على هيمنتها العسكرية للمنطقة، في المقابل تحاول أمريكيا اعتماد سياسة مختلفة. إن ما يحاول أوباما فعله هو التفكير بالاعتماد على سياسة جديدة وذلك ممكن، سياسة تعتمد على الابتعاد عن الهيمنة العسكرية، وهذا لن يتحقّق دون تحسين علاقاتها مع إيران، إن ما يلعب دورًا بالتفكير في تغيير سياسة أمريكيا هو مصالحها التي بدأت تتأثر بالأوضاع الراهنة في المنطقة.

هل تتمكن إسرائيل من تعطيل سياسة أمريكيا بالتعاون مع الجمهوريين؟ لذلك كانت زيارة رئيس الكونجرس المؤيد لسياسة نتنياهو؛ فالجمهوريون يرفضون تغيير سياسة أمريكيا في الشرق الأوسط.

نتنياهو هو الذي بادر إلى إجراء الانتخابات الأخيرة، وهو الذي بادر اعتمادًا على التحولات في المنطقة، إلى تغيير معادلة الحلّ بهدف تغييب القضية الفلسطينية، وحاول إبراز أن القضية الأساسية هي الملف الإيراني ويجب شنّ حرب لتدمير المفاعلات الإيرانية، وإذا لم تكن الولايات المتحدة قادرة فإسرائيل جاهزة لذلك. والقضية الثانية والمهمة هي يهودية الدولة وليست حقّ الشعب الفلسطيني في إقامة دولته المستقلة وعاصمتها القدس.

المعركة بالنسبة لنتنياهو لا تتمثّل بالقضية الفلسطينية، بل بالقضاء على النظام السوريّ، وعدم السماح لإيران بالحصول على القنبلة النووية، فحسب رأيه لقد تغيرت المنطقة، والقضية الفلسطينية غير قابلة للحل في الزمن المنظور.

وإذا أرادت أمريكيا إجراء تغيير جدي في استراتيجيتها في المنطقة فلا بد من صدام استراتيجي مع الاستراتيجية والمواقف الإسرائيلية، وإذا كان أوباما غير قادر على تحقيق ذلك فحتمًا سيؤدي ذلك إلى تطويع الموقف الأمريكي، والحقيقة أنه منذ أن خسرت إسرائيل الحرب مع حزب الله سنة 2006 وبعدما فشلت في تحقيق أهدافها في اعتداءاتها المتكرّرة على الشعب الفلسطيني في غزة وعدم تحقيق أي من أهدافها الاستراتيجية من هذه الحروب، بدأ بأوباما بالبحث عن تغيير استراتيجي في العلاقة مع السعودية وإسرائيل ما يعني أن إسرائيل والسعودية قد خسرتا من وزنهما الاستراتيجي أمام استراتيجية الولايات المتحدة، وهذا ما دفع الولايات المتحدة الخاسرة في حروب المنطقة إلى البحث عن منافذ جديدة وعلاقات جديدة في المنطقة؛ وهذا ما يثير الموقف الإسرائيلي ويزيد الصدام بين السياستين الأمريكية والإسرائيلية.

ما أدركته الولايات المتحدة هو أنّ فشل إسرائيل والسعودية لم يعد مفيدًا للمصالح الأمريكية، فالتغيير المطلوب استراتيجي وليس تكتيكيًا؛ ما يفسّر محاولات إسرائيل الحثيثة في تقويض سياسات أوباما ومحاولته للتغيير، من ناحية ثانية إذا استطاعت أميركا تغيير علاقاتها مع إيران ومع الفلسطينيين فقد يكون التغيير فعليّا، لذلك على أمريكيا أن تطرح أفكارا جديدة وقد بدأ ذلك فعلا. وإذا كان هذا التغيير ضمن الوقت المحدود فيمكن أن يكون التغيير التكتيكي أكثر فعالية أيضًا في هذه الحالة، ومن ملامحه تدخّل أمريكي في تشكيل حكومة وحدة وطنية، وتسريبات البيت الأبيض حيال عدم تعطيل واشنطن استعمال حقّ الفيتو، في أي قرار من قِبل مجلس الأمن الذي يدين إسرائيل لإنشائها مستوطنات جديدة، ولن تمانع كذلك في محكمة العدل الدولية النظر في سوء معاملة إسرائيل للفلسطينيين في الضفة الغربية وقطاع غزة.

استعمال المضامين بموجب بند 27 أ لقانون الحقوق الأدبية لسنة 2007، يرجى ارسال رسالة الى:
[email protected]