طالما احتاج الفنان إلى مصدر الهام لإبداعه الفني، غير أن الحروب الإسرائيلية المتتالية على قطاع غزة بدءً من عام 2008 وما تلاها من حروب واعتداءات، هي من شكلت إلهاماً لقنان تشكيلي فلسطيني، اختار لنفسه طريقا خاصا وفريدا، بتحويل مخلفات قوات الاحتلال “الإسرائيلي” إلى لوحات فنية مميزة.

يمضي محمد الزمر ( 31 عاما)، ساعات طويلة وهو يبحث بين الأنقاض، وفي ركام البيوت المهدمة، عن بقايا من صواريخ الطائرات، وقذائف المدفعية، و قنابل الغاز السامة، وفوارغ الأعيرة النارية المختلفة لاستخدامها في أعماله الفنية.

البحث عن الموت

رحلة البحث عن الشظايا والمخلفات هي أصعب مرحلة في العمل، وفقا للزمر، فلا يترك مكانا استهدف من قبل دون زيارته باحثا عما تبقى هناك من هذه الآثار، مما يعني تحمله مشقة الانتقال إلى مناطق ربما لم يزرها من قبل.

وعن هذه الرحلة يقول محمد: تعد هذه المرحلة هي الأصعب خلال عملي، لما تحمله من مشقه وخطورة في آن واحد، فالتنقل بين البيوت المدمرة ليس بالأمر الهين، خصوصا إذا كانت هناك صواريخ لم تنفجر والاقتراب منها يشكل تهديدا حقيقا على النفس، أو البحث في ركام منازل تعتبر على خط المواجهة الأول، أو أن تحتوي هذه المخلفات على مواد مشعة مثلا، كلها أسباب تعني إما أن تعود ميتا ا وان تعود بلوحة فنية.

غير أن هذا وفر له فرصة سماع شهادات حية من المواطنين الذين تعرضوا للاعتداءات بشكل مباشر وقد ساعده هذا الأمر في إيجاد أفكار لتحفه ولوحاته.

رسالة حب وسلام

يحضر ما يجمعه إلى فناء خلفي في منزله بمخيم البريج للاجئين وسط قطاع غزة، خصصه لهذا العمل، ويبدأ في تصنيفها ويختار لكل منها لونا خاصا، لتخرج من بين يديه تحفه فنية رائعة، تعبر عن إبداع حقيقي من وسط الدمار.

شهرة واسعة حققها الزمر في الفترة الأخيرة، خصوصا بعد افتتاحه معرضه الصغير بمنزله وسط مخيم البريج للاجئين الفلسطينيين وسط قطاع غزة.

الزمر لا يحول مخلفات الاحتلال إلى لوحات عبثا، وإنما هي رسالة " حب وحياة وسلام " إلى العالم، كما يصفها، تنقل معاناة الشعب الفلسطيني وتجسد صورته الحقيقية المحبة للحياة، وبان غزة التي تتعرض لعدوان متواصل هي مساحة للأمل، تقاوم جرائم المحتل بالفن والإبداع.

ويصف محمد شعوره وهو يحاول الخروج بلوحة فنية من أدوات صنعت للموت قائلا: يبدو ضربا من جنون أن تحاول رسم الحياة من هذه الأدوات التي ألقيت علينا بغرض قتلنا، وكم هو مؤلم تخيل أن هذه الصواريخ والقذائف قد سلبت أرواحا بريئة، وقطعت أطراف صغيرة لأطفال كانت تحلم بحياة طبيعية كبقية أطفال العالم.

ألوان وأشكال

بتجميع الشظايا على بعضها يحاول محمد الخروج بخارطة فلسطين أو طائر العنقاء الأسطوري الذي ينهض من وسط الركام معبرا عن القوة والجمال، لتبقى أداة الجريمة شاهده على فضائع الاحتلال.

التعبير عن الانتماء وحب الوطن له أشكال متعددة، كان الفن التشكيلي الذي يمارسه محمد واحدا منها، لينقش خلال عمله على قذيفة مدفعية " على هذه الأرض ما يستحق الحياة" للشاعر الفلسطيني الراحل محمود درويش المحفورة كلماته في ذاكرة الشعب الفلسطيني، فخلافاً للتلوين المخلفات بالألوان الزاهية يقوم الزمر بكتابة عبارات مأثورة لكبار الشعراء والكتاب الفلسطينيين، أمثال محمود درويش وسميح القاسم وتوفيق زّياد، تعكس صمود الشعب العربي على أرضه، ومقاومته للمحتل الغاصب، وفق تعبير الزمر.

النوتة الموسيقية التي تحتوي على ريشة رسم ومفتاح العودة وقلم الخط العربي مع فوارغ الأسلحة النارية الثقيلة، شكلت سويا " سيمفونية البقاء" كما يسميها محمد، ترمز إلى الجمع بين النقيضين حيث تعبر الموسيقى عن الحياة والمفتاح بالعودة وريشة الرسم بالإبداع.

رسالة محمد إلى العدو الإسرائيلي تتلخص في قوله: "أننا باقون ولن نرحل عن هذه الأرض وسننتزع منكم حقنا مهما بلغت قوتكم، ولنا عودة".

طموح وصعوبات

لم يلتحق الزمر بكلية الفنون الجميلة كما كان يحلم، بسبب الظروف المادية الصعبة، ولكنه بالرغم من ذلك يستقطع من أجره البسيط في عمله كعامل بطالة مؤقتة؛ لشراء الألوان والأدوات اللازمة والتي تشهد أسعارها ارتفاعا كبيرا بسبب الحصار الخانق المفروض على القطاع، مكملا الدور الذي بدأه عبر الهواية التي يحبها ويرتبط بها كثيرا.

رحلة فنان طريقها صعب ومرهق، أصعبها قدرته على توفير المواد اللازمة لانجاز لوحاته، وعدم قدرته على إقامة معرضا لتلك اللوحات التي ضاقت بها الساحة الخلفية لمنزله، فما ينتجه يحتاج إلى مكان يبرز أهمية ما يقوم به لتصل الرسالة حقا إلى العالم كما يريدها محمد.

ويطمح الفنان الشاب أن يجد مؤسسة تتبنى فكرة إقامته معرضه الدائم، وافتتاحه أمام الجمهور سواء المحلي أو الخارجي عبر الوفود العربية والأجنبية الزائرة للقطاع، لفضح جرائم الاحتلال وكشف حقيقة ادعاءاته الباطلة بحق السكان المدنيين، الواقعين جميعا في دائرة استهداف الآلة الحربية الإسرائيلية، وان كل ذنبهم أنهم شعب طامح للعيش بحرية وكرامة.

إبداعات شبابية تعبر عن الصمود رغم الظروف لاقت أعماله استحسان حكومي من قبل الشرطة الفلسطينية في غزة، مما فتح باب التعاون بينه وبين قسم هندسة المتفجرات، والتي زودته بعدد من المخلفات لتحويلها إلى لوحات فنية، ويعكف بالتعاون معها حاليا على إقامة معرض مشترك لكل الأعمال الفنية التي أنجزها.

استعمال المضامين بموجب بند 27 أ لقانون الحقوق الأدبية لسنة 2007، يرجى ارسال رسالة الى:
[email protected]