عندما غادر محمد اللوباني الكبير وأمه واخته الأصغر وما جاوز العشرَ من عمره، البيت في لوبية قبل سبع وستين سنة، كانت أمه زهراء اللوباني الكبيرة، دسّت في جيب سرواله مفتاح البيت وقد أقفلت باب البيت رغم الكوة التي أحدثتها قذيفة في حائطه الغربيّ، قائلة وفي عينيها نظرة لم يعهدها سابقا منها ظلّت مطبوعة في عينيه إلى أن مسحتها دموع المفتاح في اليرموك: "دير بالك عليه... شو ما صار".

لم ينبس بكلمة وقد عقدت قذائف مدفعيّة اليهود الألسن خوفا ورعبا، وهي تتساقط على البيوت في لوبية منطلقة عن بُعدٍ إذ عجزت عن تخطّي رجال الحامية على مشارف القرية، ولكنه هزّ رأسه إيجابا عازما أن يحفظ وصيّة امه ومهما صار، وظلّ المفتاح يزيّن واجهة البيت الصغير في شارع لوبية في مخيّم اليرموك، إلى أن بكته دما زهراء اللوباني الصغيرة.

يوم وقف محمد اللوبانيّ الكبير حين وصلت الدار زهراء اللوباني الصغيرة ابنةُ اخته عروسُ بكره عليّ، الحامل اسم جدّه قائد الحامية الذي ظلّ دمه وكثرٍ من رجاله على حجارة لوبية، وقف ولم تهدأ بعد ال-"زغاريد" وال-"آويهات"، استقبالا لزهراء، على درجات الدار، وقبل أن تلصق العروس الخميرة، رافعا ذراعيه علامة طلب الهدوء والسمع.

لم يخطر يومها على بال القوم إلا أن محمد اللوبانيّ الكبير يريد أن يشكر لهم أفضالهم وقد شاركوه فرحته بعليّ والذي كان اسما على مسمّى، إلا أنه وبعد أن هدأ القوم وانصبت أنظارهم عليه، مدّ يده إلى داخل عبّ "قنبازه الخَلعة" التي كان خلعها عليه عليّ وزهراء احتفاء بالمناسبة ومن أحسن قماش سوق الحميديّة في الشام، مخرجا منديلا أبيض فاردا جناحيه عن مفتاح رافعا إياه في الفضاء، وما لبثت أن تهاوت ذراعاه على أكتاف عليّ الذي ضمّه بقوة ليتوسدّ رأساهما كلّ كتف الآخر تسقيهما عيونهما دموعا حرّى، وتهاوت زهراء اللوباني الصغيرة على صدر أم عليّ ليختلط بكاؤها المرّ يقطع نياط القلوب.

أطبق على القوم وَجْمٌ مزقّ وجهه هنا وهناك إجهاش وآهات وهلّت دموع مدرارة لم تفرّق بين رجل وامرأة ممّن صار للدموع في مآقيهم معان أخرى، وهدأ الصغار تباعا مشاركا بعضُهم الدموع متنازلين هكذا غريزيّا ودون أن يفقهوا الحاصل حولهم، عن فرحهم.

قاست حنجرة محمد اللوباني الكبير كثيرا قبل أن تقوى على قول ما نوى أن يقول، فخرجت الكلمات مجروحة تحمل المفتاح لعليّ، كلمات جدته زهراء اللوباني الكبيرة لحظة دسّت المفتاح في جيبه يوم خرجا من لوبية: "دير بالك عليه... شو ما صار".

قبّل عليّ المفتاح وعاد وقبّله مرّات دون أن ينبس ببنت شفة، فشقّت الفضاء "زغرودة" تلتها أخرى وأخرى علت من بين الجموع كان لا بد منها، ومن يومها صارت هديّة أهل شارع لوبية في مخيّم اليرموك وباقي أهل المخيم للأبكار من "عُرسانهم" يوم فرحهم، مفاتيح الدور التي هُجّرت معهم من فلسطين.

عندما خرج عليّ من المخيم حاملا بندقيّته ولم يعد، كان لم يتجاوز عمْرُ محمد اللوباني الصغير عمْرَ جدّه محمد اللوباني الكبير يوم خرج من لوبية والمفتاح في جيبه، لا هو عرف حينها ولا زهراء اللوبانيّ الصغيرة ولا محمد اللوباني الصغير عرفا لماذا قال باسما مشيرا إلى المفتاح المعلّق في صدر البيت: "دير بالك يا محمد على المفتاح... شو ما صار"، فياما خرج دون أن يقول مثل هكذا قول، وعاد.

تحملّت زهراء اللوباني الصغيرة بقاء دم عليّ كما دم جدّه على حجارة في فلسطين وإن لم تعرف مكانها، قاطعة على نفسها أن تصونها كما صانت جدتها زهراء اللوبانيّ الكبيرة دم جدها علي الذي بقي على حجارة لوبية، وتحمّلت الفقر وتحمّلت القهر، حفاظا على الدار الصغيرة في شارع لوبية في مخيّم اليرموك صونا للعهد الذي تناقل من جيل إلى جيل، ألا يترك أحد شارع لوبية إلا إلى لوبية في فلسطين، وحفاظا على المفتاح الذي ظلّ معلّقا في صدر البيت لم يقو عليه لا صدأ الحديد ولا صدأ الأيام.

كانت القذائف التي أمطر بها اليهود لوبية جزء من حياة زهراء اللوباني الصغيرة، وإن لم تعايشها جسدا فعايشتها عقلا في خالها محمد اللوباني الكبير وفي جدتها زهراء اللوباني الكبيرة، لكن تلك القذائف وبعد أن كبرت عادت في السنوات الأخيرة وأشدّ ضراوة مما كانت سمعت عن أصولها في لوبية، ورغم ذلك عايشتها حفاظا على دم عليّ وعليّ وعلى العهد وعلى المفتاح.

كان الليل في ذلك اليوم من بدايات ربيع هذا العام حالكا وقد فارقت أنوار الليل المخيّم منذ زمن، ولكنه كان هادئا إلا من أصوات طلقات وانفجار قذائف بعيدة، فنامت ومحمد في حضنها تحميه من برد هذا الليل الربيعيّ بما تبقى من دفء جسدها في ومن شتاءات اليرموك في هذه الأعوام التي خلت.


ظنّت نفسها لوهلة أنها تحلم حين اهتزت الأرض تحت جسدها من وقع قذائف قريبة، تلتها أخرى أقرب وإذ بجدار البيت ينبلج عن نور أول الفجر وكان محمد قد استوى في حضنها فجأة، وأمام أنين جدران البيت خرجت مسرعة تجر "محمد" راكضة قدر استطاعتها كما كثّر من سكان شارع لوبية، إلى لا مكان.

توقف محمد فجأة وصرخ: "المفتاح"، محررا يده من يدها عائدا نحو البيت فلحقت به صارخة بكل قوة استطاعت أن تستجمعها، لكن محمد اللوباني الصغير الأسرع، كان قد تخطى الجموع ودخل البيت وظلّ هو والمفتاح تحت ركامٍ فاتحٍ الطريق إلى لوبية ومنها إلى القدس، وفي الأيام التي تلت كان يُرى عن بعد على ركام بيوت شارع لوبية في مخيم اليرموك علم أسود.

لم تعرف زهراء وقد دأبت ويوميّا أن تزوّد ركام البيت بدمع عينيها وإن عن بعد، قاطعة واعدة نفسها بعودة لتلملم أشلاء محمد والمفتاح، لماذا كان يتراءى لها من بين دموعها، ركام لوبية المطبوع في ذهنها من روايات جدتها زهراء اللوباني الكبيرة وأمها وخالها محمد اللوباني الكبير، وقد علاه علم أزرق وأبيض.
 

استعمال المضامين بموجب بند 27 أ لقانون الحقوق الأدبية لسنة 2007، يرجى ارسال رسالة الى:
[email protected]