يمتاز الإنسان الفلسطيني، بارتباطه بالأرض وتشبثه بجذوره، فرغم اقتلاعه من أرضه- قريته/ مدينته- ووطنه، وتهجيره قسرًا منهم خلال " الهجاج"- (" النكبة")، إلا أن الحنين يدغدعه للعودة إليها، أو لزيارتها مرة كل سنة على الأقل.

ذاكرات الهجاج، الراسخة في أذهان من ورثوا النكبة، تتجدد مع مرور كل ذكرى لسقوط قرية أو مدينة، وتحيا مُجددًا مع إحياء يوم سَرقة الأرض والوطن ( يوم استقلالهم )- من كل عام. وتُصبح هذه الذكريات صدمة في وجدان من قصد المكان بزيارة، حين ترصد عينيه ما تبقى من ركام، أو منازل، أو ما تبقى من " أشلاء " الثقافة المعمارية العربية الفلسطينية، فيعتصر فؤادك حزنًا على من تركها، ويختلجك الحزن حين ترى أن من سكن الدار ليس من أهلها، ليس أكثر من دخيل تطفل على سكانه، ومن بين هذه البلدات العربية التي تم تهجيرها، وما زالت تحتفظ على بقايا معالم وملامح عربية، مدينة طبرية، أو بحر الجليل، التي يعود تاريخها إلى حقبات تاريخية مهمة تدل على أصالتها، من خلال ما سُجل ووصلنا عنها عبر كتب التاريخ وما بقي من مبانٍ ومعالم تدل على ذلك.

طبرية بقعة خصبة منسوجة بالحقول الملونة وزرقة البحيرة

صادف  الأحد (19 نيسان) الذكرى السابعة والستين، لاحتلال وسقوط مدينة طبرية، كانت زيارتي الأخيرة للمدينة، ضمن جولة خاصة بمشروع ( عُدنا ) - لتصور العودة إلى القرى والمدن المهجرة، غنية جدًا بثقافة البلد والحقبات التاريخية التي مرت بها.

قام بتنظيم الجولة إلى مدينة طبرية المؤسسة العربية لحقوق الإنسان، بمشاركة مع جمعية بلدنا الشبابية وجمعية ذاكرات- زوخروت، بمرافقة مركزي المشروع، أحمد خليفة من قبل المؤسسة العربية، ونورا علاء الدين من قبل جمعية بلدنا وعُمر الغباري وهو مركز مشروع العودة في زوخروت- ذاكرات ومُرشد الجولة الذي وفر المعلومات الوافية عن المدينة للمشاركين، شملتها وحضارتها.

وكانت الانطلاقة من باحة المسجد الكبير الذي بناه ظاهر العمر الزيداني في القرن الثامن عشر الميلادي، والذي يحمل اسمه أيضًا، ويقع في الحي الشمالي من طبرية.

وتحدث الغباري عن التاريخ العمراني المميز للمدينة، الذي شهدته مع مرور الحقبات التاريخية، بدءً من أيام الكنعانيين، مرورًا بالرومان، والصليبيين والعثمانيين والظاهر عُمر، والحكم العثماني مجددًا، والاستعمار البريطاني، وصولاً إلى الاحتلال الإسرائيلي إلى يومنا هذا.

ويمكن ملاحظة ملامح هذه الحقبات التاريخية على ما تبقى من آثار ومعالم في المدينة، التي كانت زاخرة بالعمران وخاصة عند بناء القلعة بالقرب من البحيرة والحمامات في عهد هيرودس، وكان للمدينة مكانة وأهمية كبيرة في كل العهود.

ويعود أصل تسمية المدينة بطبرية، نسبة للأمبراطور الروماني طيباريوس القيصر الأول، حيث التصق اسم طبرية فيها، وحين يقصدها المرء، لا تعرف اذا قصد المدينة أم يقصد بحيرتها، التي ذكرها المتنبي بشعره حين وصف الوَرْد الذي وَرَدَ بحيرتها شاربًا من مائها.

وتُعد طبرية مدينة خصبة بزراعتها وكانت تعتاش أيضًا على صيد الأسماك، ومعروفة بسمك " المشط "، الذي كانت تتميز به.

كما وتحدث المرشد عمر الغباري عن محاولة بناء الدولة الفلسطينية الأولى بعهد الظاهر عُمر، الذي حاول الاستقلال عن السيادة العثمانية، حيث شهدت فلسطيني خلال فترة حكمه ازدهارا اقتصاديًا معماريًا وتسامح ديني، وهي مدينة معروفة بأهمية الدينية للطائفتين اليهودية والمسيحية.

عرب ويهود طبرية..

وأشار الغباري، أن أوائل اليهود الذين تدفقوا إلى طبرية تعود أصولهم إلى اسبانيا " الاندلس"، في القرن السادس عشرة، وبدأت أعدادهم تتزايد مع مرور الأيام وخاصة إبان الانتداب البريطاني للبلاد، وكانت اللغة الرسمية فيها العربية، ويعيش سكانها العرب واليهود بتناغم ومودة، إلى ما قبل عام 48.

ومع دخول الانتداب البريطاني، وجه اليهود أنظارهم إلى طبريا وبدأت أفواج المهاجرين تتدفق إليها مستقرين فيها. كانت طبرية مدينة مختلطة شكل العرب المسلمون نصف سكانها بينما شكل اليهود نصفها الآخر.

وسلم البريطانيون طبرية لليهود، قبل إعلان " استقلال" دولة إسرائيل بشهر تقريبًا، وكانت من أوائل المدن الفلسطينية التي تم اقتلاع سكانها منها، 19 نيسان 1948، يوم سقوط طبرية، هُجر منها سكانها العرب الأصليين، وتحولت طبرية إلى مدينة يهودية ممسوحة من العرب، مع العمل على مسح ملامحها العربية وهويتها ولم يبق منها سوى ركام حجار وبيوت ترك أصحابها، وجوامع مهدمة وكنائس متروكة.

بقايا منازل وأحجار مقابر...

من بعد تركنا باحة الجامع الكبير، الذي شيده الظاهر عمر، تجولنا في أحياء المدينة، صعدنا إلى سفح التلة التي يرقد فيها الموتى في المقبرة الإسلامية، لم يبق منها سوى مقام لأحد الأولياء المسلمين الذي كتب على مدخله هنا قبر راحيل. وركام حجارة ولحدين صامدين، ليذكر الأموات الأحياء منا، أن ثمة عربي سكن هذه الأرض.

وبعد مغادرتنا للمقبرة المطلة على البحيرة، استمرينا بالتجول في أحياء المدينة، حيثُ كانت تبحث أعيننا خلالها عن ما تبقى من آثار عربية، إذ طمس الاحتلال جزءً كبيرًا منها، وكل ما تبقى هوية مشوهة للمكان، بالكاد تحافظ مبانيه على أصالتها المتجسدة معماريًا، بحجارتها البازلتية السوداء التي تشتهر فيها المدينة. قلة هي المباني التي صمدتْ بوجه الاحتلال، فسكنها الأغراب، ومنازل أخرى سكنتها " الأشباح" خالية من السكان دون أبواب ونوافذ، تتساءل عن أصحاب البيوت، وترد بسؤال آخر، كيف كان بإمكانهم ترك هذه المنازل العامرة، لماذا تركوها؟

ولماذا لم يقدم لهم رئيس البلدية التي قمنا بزيارة المبنى الخاص بها- وهو يهودي، بحمايتهم؟ لماذا تخاذل اليهود الفلسطينيون مع جيرانهم العرب؟ وهذا السؤال نفسه قمنا بطرحه حين تطفل علينا يهودي من أصول عراقية يتقن اللغة العربية خلال الجولة، وكان رده لنا أن العرب تركوا المكان من حالهم، نافيًا ترهيبهم وقتل الكثيرين منهم! مصرًا على أن أجداده قدموا إلى البلاد منذ 300 عام!

كان حال المقبرة المسيحية أفضل حال من الإسلامية، فهي محددة بأسوار وبوابة، وسلمت فيها معظم المدافن.

لكن لم يسلم السوق القديم في طبرية ولم تسلم حديقته التي اشتهرت فيها المدينة من خلال مشاركتها بمسابقة أجمل حدائق فلسطين وفوزها عدة مرات فيها، هدمت الحديقة ولم يبق منها غير الذاكرة، وتغيرت ملاح السوق وتبدل أصحابه، وأصبحوا في طيات حكم أملاك الغائبين، لكن منهن من سعى وراء حقه ونال القليل منها، ونخص بالذكر هنا عائلة طبري، التي نجحت في استرجاع بعض أملاكها.

ختام الجولة...

اختتمنا جولتنا في طبرية، عند مرورنا بجانب جامع البحر، الذي بقي منه مئذنة وقسم من غرفه، وركام حجارة وحول إلى ملهى، وأغلق بعد الاعتراض من قبل المواطنين المسلمين أمام السلطات الإسرائيلية، مرورًا بالمتنزه الأشهر في طبريا المعروف باسم " البوند"، الذي يحتضن ميناء المدينة، ومطاعمها.

67 عامًا على طبرية، لم تمح بعض ما تبقى من الملامح العربية الشرقية لطبرية، لم تهدم مئذنتها، ولم تسد كنيستها، 67 عامًا على هجاج أهل طبرية، وحلم العودة يشرق كل يوم من جديد في وجدان ونبض مهجريها.

ربما تكون العودة بعيدة، لكنها حتمًا آتية، وحتمًا سيعود اللاجئين والمهجرين إلى قريتهم، لكن كيف؟ سؤال طُرح على المشاركين في مشروع تصور العودة " عُدنا"، كيف يتصورون العودة إلى قرية طبرية، معلول، وصفورية، ومجدل عسقلان، والبروة، والمجيدل، والغابسية، وميعار، وإقرث التي هي أقربهم إليها.

أحببت الخبر ؟ شارك اصحابك
استعمال المضامين بموجب بند 27 أ لقانون الحقوق الأدبية لسنة 2007، يرجى ارسال رسالة الى:
[email protected]