عندما دمعَ يراعُ الدسوقي على فلسطينَ شعرا لم أكن قد ولدت، وعندما أطلق ديوانَه الثالث: "موكبُ الأحرار" (1963) وأخافَ الموكبُ الحكم العسكريَّ وصودر الديوان واعتقل الدسوقي وضُرب وما زالت أجزاءُ من جسدِه الشاهدَ الحيّ حسب شهادتِه، كنّا ما زلنا أطفالا نُلقَن نشيدَ:
"بعيد استقلال بلادي قلبي فرحان ----- غرّد الطير الشادي بكل البلدان".

في ربيع العام الفائتِ وعندما أطلقنا المؤتمرَ التأسيسي لاتحاد الكرمل للأدباء الفلسطينيين يومَ ال-19 من حزيران 2014، كان طيفُ الدسوقي معنا حين شرّفنا أن بارك خطوتَنا وشرّفنا أن انضمّ إلى الاتحاد رغم ظروفه الصحيّة.



وعندما قرّرت الأمانة العامة تكريمَه، انطلقت من قناعتها أن "محمود" من الشعراء الذين غُمط حقُّهم وفقط لأنه شبّ وترعرع وأبدع كقوميٍّ عربيّ، ولأنّ حركتَنا الأدبيّة مارست في فترات من عمرِها وما زالت في بعضِها تمارس "الشلليّة"، وسياسةَ "حك لي أحك لك" أو في لغة العصر الفيسبوكيّة "ليّكلي حتى أليّكلك"، فيكفي أن تحازبَني أو تشاركَني انتماء أو "تشاللَني" لتصير فارسَ الكلمة الذي لا يُشقّ لك غبار، حتى لو كنت تعيدُ الحياةَ وعظامُها رميم للمدرسة البرناسيّة (الأدب للأدب) ليبقى الوطنُ وهمومُ أهلِه من كلمتِك براء.

ولعلّ هذا التحزّبَ قد نازع روحَ شاعرِنا فتقمّص في قوله:
يا إخوتي في ربوع العلم آن لنا ----- نبذُ الخلافات لا حزبٌ ولا طُرقُ
المكرِّمون الأعزاء...

الحركةُ الثقافيةُ، كلّ حركة ثقافيّة، بأدبِها وفكرِها وفنّها لدى كلّ شعب يرنو العلا، تتقدّم الصفوف بخطواتٍ، وكلما كانت هذه الخطواتُ واسعةً كلّما كانت الشعوبُ إلى رُقيّ، ففي تاريخِنا نحن، وعندما نخرّ السوسُ حياةَ دولتنا السياسيّة ظلّت حركتُنا الثقافيّة في انطلاق لأنها تقدّمتها بخطوات، ولنا في القرون الثاني عشر وحتى الخامسِ عشر الدليلُ، وقبل أن يحشرَها العثمانيّون ولأربعةِ قرون بعدها في ذيولِ الصفوف هذا إن أبقت على صفوف، إلى أن انطلق روّادُها باعثين الحياةَ فيها في خضم بحرٍ من الأعداء وألدُّهم من بين ظهرانينا.

لم تتخلّف عن الركبِ المنطلقِ حركتنا الثقافيّة الفلسطينيّة ولكنها تعرضّت عامَ النكبة 1948 لعمليّة بترٍ ألدَّ وفي عزّ فتوتِها، إلا أنه قام من بين الرماد روادٌ ك-"محمود الدسوقي" فأشعلوا نارَها رمضاء، ولكن البعضَ أراد لحركتِنا الثقافيّة أن تخطوَ حسب إيقاع طبولِ الصفوف التي ولّدتها النكبة رُعبا عند البعض من الغزاةِ الجدد وبندقةَ "أدلجةٍ" عند البعض الآخر تزلفا للغزاة الجدد، ولأن "محمود" أرادها "مواكبَ أحرار" لا رُعبَ ولا تزلّف، ظلّ أو جُعِل أن يظلّ في الظلّ، وبُزّغَتْ شمسُ آخرين بعضُهم بحقّ وبعضُهم دون وجهِ حقّ.

اتخذ الرعبُ اليومّ عند ذاك البعضِ أشكالاً أخرى لا تقل خطورة على حركتنا الثقافية تجللها الانتهازيّة، وعند البعض الآخر اتخذت الأدلجةُ ألوانا أخرى تكللها الفئويّة وما زال أصحابُها يصنِّفون الكلمةَ حسب أحرفها والعَلم لا حسبَ جوهرها والقلم.

وإلا فكيف للمنشد...
"أنا عربيٌّ فلسطيني
رغم قساوة المأساة ليس البعدُ يُنسيني
بيعُ البُهم باعوني
أمليمٌ يساويني ؟!"
أن تجهلَه بعضُ ربوع فلسطينَ ؟!
تابعتُ تقريرا أعده موقعُ "الطيبة نت" فيه سُئلت رفيقةُ درب الشاعر: "ماذا تقولين لأهل الطيبة؟".
فأجابت: "هذا ابن بلدكو... لازم يظهر... لازم شعره يدرسوه في المدارس"...
أيتها الكريمة... محمودٌ ابنُ العربِ وفلسطينَ كلِّها، أليس هو القائلَ: "أنا عربي فلسطيني"، لم يقل أنا فلسطيني قال أنا عربي فلسطيني، فبلاد العربِ بلدُه وفلسطينُ بيتُه وإن أخطأوا في حقّه تحزّبا أو جهلا.
وكلُّهم مدينون أن يُظهروه وأن يُدرّسوا شعرَه وليس فقط الطيبة.

وهو القائلُ:
"سل التراث وما كتب... سل خالدا... وسل أبو عبيدةّ... وسل صلاحَ الدين...
سل ناصرا يوم القناة فقد تسجّل بالذهب
قد حطّم الأسد الجسور ففرّ مقطوع الذنب
واليومُ نحن فلا تراثَ ولا جدودَ ولا نسب
ونَلَظُّ في حضن الغريب فلا حياءَ ولا عتب
يا نائمين على الخنا ظهر المسيحُ المرتقب
أفتيتموا إلحادَه في شعابِ مكةَ في رجب
وصلبتموه على الطريق على هلال من خشب
عرّج على أرض العرب
واجمع كثيرا من حطب
واحرق بها الشعبَ الخنوع ودعْه يأكلُه اللهب"
لا أعرف متى قلت هذا، وما أودُّ أن أقولَ لك يا سنديانة فلسطينيّة...

الظلّ بعد النكبة واليومَ قابضا على عروبته وقوميّته ووطنيّته وكم بالحري في زمننا "زمن وطنيّة الرفاه"، كان وما زال كالقابض على الجمر، بدء في وجه حاكم عسكريّ فاشيّ، واليومَ في وجه خائف متحزّب أو جزوع "شلليّ" أو راجفٍ رفاهيّ من لظى ووهج الجمرات، فلا تستغربنّ أن مثلَ هكذا قولٍ ومثلَ هكذا قائلٍ تُذرى فوقَهما الرمالُ.
كلُّ الشعوبِ والأقليّاتِ منها حصرا، ترقى وتتخلّف طبقا لأساسين اثنين، حراكِها السياسيّ الاجتماعيّ وحراكِها الحضاريّ الثقافيّ، ويتناسب رقيُّها طرديّا وسلبيّا مع هذين الأساسين. حراكُنا السياسي الاجتماعي نحن الأقليّةِ العربيّةِ الفلسطينيّة في وطننا مأزومٌ، وحراكُنا الحضاري الثقافيّ وإن تخطّى بأمثال محمود هجماتٍ كبرى وعلى الغالب من أعدائِه، إلا أنه يتعرّض اليوم لهجمات لا تقلّ خطورةً ومن أصحابِه.
المهددُ اليوم هو ليس وجودُنا الجسديُّ في وطنِنا، المهدّدُ هو شكلُ هذا الوجود، فإما وجودٌ يقوم وفي صلبِه الانتماء العربيّ المشترك المتنوّر، أو وجودّ ظلاميّ مشوهٌ في صلبه الانتماءات الثانويّة طائفيّا ومذهبيّا وفئويّا انتهازيّا، في الأول بقاؤُنا وأما في الثاني فاندثارُنا.
هذا هو التحدّي الأساس أمام حركتنا الثقافيّة وهذا دورُها، وحتى تحملَ هذا التحدّي وتقومَ بهذا الدور، يجبُ أن تُنظّم وحدويّا وعلى أساس هذه البوصلة حفاظا على جوهرِ وجودِنا ورقيِّه.

وهذه هي البوصلةُ التي اعتمدها "اتحاد الكرمل للأدباء الفلسطينيّين" في انطلاقته، البوصلة التي أردتَها يا محمودُ لشعبك، ونأمل أن لا تضلَّ عقاربُها عن كوكب الشمال مهما ادلهّم الليل، وكي لا تضلّ لا بدّ أن نعمل كذلك على عزل "الرمّالين" ونفضِ الرمالِ التي ذروها عن كلّ جمرة (كلمة) أدخلت الدفء لخيمة طفل فلسطيني يوم كان حتى المقرورُ في ربوعِنا يخاف القربَ من الجمر، واليومَ حين صار الجمرُ (القول) بلا دفء.

كلماتُك جمراتُ دفء كانت وما زالت وستبقى رغم الرمال ورغم "الرّمّالين"... فدمت لنا.
واسمح لي أن أتدخّل في بيت شعرك الآنف:
"عرّج على أرض العرب
واجمع كثيرا من حطب
واحرق بها الشعبَ الخنوع ودعْه يأكلُه اللهب"
ليصيرَ:
"واحرق بها الرهط الخنوع ودعه يأكله اللهب"





استعمال المضامين بموجب بند 27 أ لقانون الحقوق الأدبية لسنة 2007، يرجى ارسال رسالة الى:
[email protected]