اكتشفت الباحثة الإسرائيلية رونة سيلع (48 عامًا) صورًا، لأول مصوّر عربي في فلسطين، فأخذت تبحث عن الرواية التاريخية المختبئة خلفَ هذا الموروث الفوتوغرافي، وبعد عشر سنوات من البحث أصدرت كتابًا عن المصوّر رعد، ونظّمت معرضًا لصوره بالأبيض والأسود، تحت عنوان: صفحات منسيّة من تاريخ فلسطين.

ذاكرة الباحثة

ورغم انشغالها، بالبحوث، وليس آخرها، بحثها عن تفاصيل تاريخية في المدن المختلطة عكا، يافا، حيفا، اللد والرملة، إلا أنّ الباحثة رونة سيلع اهتمّت بلقائنا في حيفا، التي تربطها بها ذكريات مهمّة، فهي لن تنسى ما حدث معها في العام 2009، عندما شغِلت منصب مديرة المتحف البلدي للمدينة، وبعد عِدة شهورٍ من عملها، عندما كانت تُحضِر لمعرضِ رسومات وصورٍ تحكي قصة المدينة قبل عام 1948، ولمّا كانت عناوين وتفاصيلُ المعرض تتطرق إلى نكبة الفلسطينيين، رفضت بلدية حيفا وآخرين إقامة المعرض، وفي حينه استُدعيْت للقاء مع رئيس ومسؤولين في بلدية حيفا، للتفاوض بشأن المعرض، ولمّا أصرّت على موقفها، فُصلت مِن عملها، ومنذ ذلك الحين صارَ وجود رونة في المتاحف البلدية أمرٌ يثيرُ القلق.

قررت اختراق مجال البحوث لاستكشاف المزيد من الصور والوثائق والحقائق حول ما جرى قبل العام 1948، أي قبل وبعد النكبة، وكانت على مدار السنوات الماضية، توثّق صورًا مِن خلال إقامة معارض (كونها أمينة معارض وباحثة مختصة في الوثائق النظرية والبصرية المتعلقة بتاريخ الصراع الفلسطيني الاسرائيلي قبل النكبة). إضافة إلى إصدار كُتبٍ في نفس الموضوع، ناقلةً بذلك الرواية الفلسطينية التاريخية، التي لم يعرفها الكثير مِن اليهود، وفي بعض الأحيانِ أيضًا العرب.

آخرُ كتابٍ صدر للباحثة حمل اسم "خليل رعد – صور فوتوغرافية (1891- 1948)" وهو أولُ كتابٍ تُعرض فيه أعمال المصوّر اللبناني الأصل خليل رعد، كما أقامت معرضًا لأعمال المصوّر في متحف (غوتمان للفنون) في تل أبيب، علمًا أن كتابها أنجز بعد خمس سنوات من العمل البحثي".

10 سنوات مِن البحث!

منذ اللحظة الأولى التي اكتشفت فيها الباحثة رونة سيلع وجود ألبوم صورٍ يخص المصوّر اللبناني الأصل خليل رعد – شُغِفت بالفكرة والصور، والتقت ذلك الشخص، الذي حافظ على الصور التي تزيد عن ألفي صورة. وكانت رونة في كل مرة تزورُ المكان ترتبط أكثر بالصور التذكارية، وبالقصص التي تختبئ خلفَ هذا الموروث الفوتوغرافي، واستطاعت بعد عشرِ سنواتٍ إقناع الشخص المؤتمِن على أرشيفِ خليل رعد أنّ البحث الذي أجرته حول ما وراء الصور، قد اكتمَل وأنّ الكِتاب صارَ بيْن يديها.

مَن هو خليل رعد؟!

بعد وفاة أنيس رعد قررت أرملته سعدى أن تنتقل مع ولديْها خليل (المولود عام 1869)، وشقيقته سارة إلى القدس، كي يتتلمذا في إحدى المدارس المقدسيّة الخاصة، فتركت بيتهم في مدينة بحمدون (شمال بيروت)، لتستقر معهما في المدينة المقدّسة.

تعلّم خليل التصوير صدفةً، بعد ترجمته لمخطوطاتٍ تاريخية مصوّرة، وبعدها تعلّم التصوير لدى المصوّر الأرمني جاربيد كريكوريان، ثم سافر إلى مدية بازل السويسرية لمتابعة دراسة التصوير، وهناك تزوج من آن مولير السويسرية، وعندما أنهى دراسته عاد إلى فلسطين، وأقام في حيّ الطالبية في مدينة القدس، وهناك لقي ترحيبًا كبيرًا مِن قبل الأهالي، وعُين رئيسًا للمجلس البلدي، ودُعي بـ"مختار الحيّ". وفي العام 1841 باعت عائلة خليل البيت في الطالبية واشترت بيتًا في الحي اليوناني في القدس.

وفي العام 1891، بدأ خليل يمارس مهنة التصوير بصورة فعلية، حيثُ افتتح استوديو في شارع يافا، عام 1895، خارج أسوار مدينة القدس، وانشغل خلال عمله بالحياة الفلسطينية بما فيها من مبانٍ وصورٍ عائلية ومشاهد حياتية يومية مِن المدينة وأحيائها وسائر فلسطين، وبعد أن اختير كمصورٍ رسميٍ للعثمانيين، صارَ يهتم أيضًا بتوثيق الحرب العالمية الأولى، فوثّق الحياة الاجتماعية والثقافية والتجارية في المدن والقرى الفلسطينية إضافة إلى الاحداث والشخصيات السياسية، وفي تلك الفترة كان مقربًا من الحاكم العسكري العثماني جمال باشا الأمر الذي مكّنه من التنقل بسهولة بين مصر وسوريا ولبنان وفلسطين فصوّر في حياته ما يقارب 1230 صورة زجاجية عكست جوانب مختلفة من حياة الناس، إضافة إلى صورٍ أخرى عادية، تصل إلى ألفي صورة باللونين الأبيض والأسود.

"استطاع رعد أن يؤثِر على حركة التصوير المحلية، مخلّفًا أعمالاً رائعة، حيثُ خرجت صوره عن المألوف ناقلةً البصر إلى عوالم تجمع بين الواقع والخيال". تقول سيلع: "في أوائل أيار عام 1948 عندما بدأت الحرب تبسط جناحها على فلسطين، قرّر خليل رعد وزوجته الهروب إلى أريحا، ثم الى لبنان حتى وافته المنية عام 1957.

خلال نكبة 1948، تعرّض استوديو التصوير التابع لرعد للهدم، ونجحت ابنته روز رعد مشبك وزوجها روبرت بالعثور على ارشيف النيجاتيف في الغرفة المظلمة، وقيل أنّ إنقاذ الارشيف تمّ بمساعدة صديق والدها، ايطالي الجنسية، عمل في دكان كتب لدى بولس سعيد، وهي قريبة من استوديو رعد بالقدس. ونجح الصديق بدخول المنطقة عدة مرات عند توقف اطلاق النار، ونقل الأرشيف الى روز، فتبرعت ابنته بالأرشيف لمؤسسة تعليمية فلسطينية، بعد وفاة والدها، وتشمل المحفوظات التاريخية: 3000 نيجاتيف.

خليل رعد: الأول في فلسطين والأبرز في الشرق الأوسط!

يُعد خليل رعد من أبرز المصورين العرب في الشرق الأوسط، ومن أوائل المصورين الذين عملوا في البلاد، بل هو الأول من بينهم. تميّز أيضًا بإتقانه لفن الخطوط، بينما ظهر اسم خليل صابونجي، بعد أعوامٍ اشتهر فيها رعد بفن التصوير، كما عُرف في تلك الحقبة أيضًا باحث نصراوي يدعى فضيل سابا من الناصرة، سارَ على درب خليل في التصوير، لكن البحث حول اعمال الأخير كانت بدائية، إلا إذا اتضحت تفاصيل أخرى في المستقبل.

وأول مدرسة لتعليم التصوير الضوئي في القدس، قام بتأسيسها الأسقف يساي غرابيديان في خمسينيات القرن التاسع عشر، وصار هذا الأسقف بطريركاً للأرمن سنة 1865، وعلى يديه تتلمذ أهم المصوّرين في فلسطين، مثل: كيفورك كريكوريان وخليل رعد، كما برز برز لويس وداود وجورج وعيسى الصوابيني. وظلت حرفة التصوير مقتصرة على الرجال حتى كسرت المصوّرة النصراوية كريمة عبود، القاعدة.

رونة سيلع: مهمتي هي الكشف والتمحيص!

منذ بداية عملها في الأبحاث، صارت سيلع، تستكشف المعلومات والتفاصيل، وتكتسب مفاهيم جديدة حول الرواية الفلسطينية التاريخية، التي يُنكرها كثيرون مِن الإسرائيليين واليهود. ترى سيلع في البحوث انكشافًا مُهمًا على الحضارات الأخرى والتاريخ، فرغم أنّ هذا الجهد يحتاجُ لوقتٍ طويل، لكنّها لا تملُ مِن مواصلة مسيرتها. وخلال بحثها الممتد لأكثر مِن 15 عامًا، اكتشفت سيلع السرقات التي تقوم بها "المؤسسات الإسرائيلية والمكتبات سواء كان كُتُبًا أو صُوَرًا أو حتى تزييف تاريخٍ كامل لشعبٍ مرّ بالنكبة".

ولا تلوم الباحثة الفلسطينيين لأن كتبًا وصورًا وتفاصيل كثيرة تركوها خلفهم، "فالتهجير، كان أكبر مِن هذه التفاصيل، حيثُ الخطر المحدِق كانت يتربص بهم، جعلهم عاجزين عن اكتشاف حجم المأساة". تقول سيلع: "ماذا كان بوسعهم أن يفعلوا في ظل الاحتلال، أنا مثلاً لديّ مكتبة ضخمة، وعندما أفكر في نفسي وإذا لا سمح الله حصل لي مكروه، ما الذي باستطاعتي أن أفعله، أولُ شيء أفعله سأحتضن أبنائي وأهرب، ولن أستطيع أخذ مكتبتي أو صوري وأوراقي أو حتى ملابسي، وهكذا تصرّف الفلسطينيون أيضًا، وتشير سيلع أنّها نجحت لأنها يهودية بالاطلاع على الأرشيف العسكري فاكتشفت تفاصيل تاريخية هامة، وصورًا تجسّد حياة ثقافية واجتماعية عظيمة للفلسطينيين قبل النكبة، الأمر الذ1ي لا يستطيع العربي أن يفعله". تضيف: "هناك عدد كبير من الصور التي تركها المصوّر خليل رعد خلفه في بيروت، وفي القدس، لكن اللبنانيون لم يفعلوا شيئًا لجمع هذا التراث، وأما الأهمية البارزة خلف الأبحاث ويتم عرضها أو نشرُ تفاصيلها في معاهد تعليمية، فهي تأكيدٌ على الرواية والوجود الفلسطيني فوق هذه الأرض قبل وبعد النكبة".

استعمال المضامين بموجب بند 27 أ لقانون الحقوق الأدبية لسنة 2007، يرجى ارسال رسالة الى:
[email protected]