النزاع اليوم بين دينين. دين يدعو للحياة والتسامح والمحبة والحكمة، ودين يريد تحويل الأرض إلى مسرح للذبح والسبي والانتقام والطقوس الجامدة. الدين الأول يعدّ الإنسان للاعتراف بأخيه الآخر، يرشده للتعاون معه، يعلّمه كيف يتجاوز الأخطاء والمشاكل، يُكسبه فضائل وصفات خلقية حميدة. والدين الثاني يعدّ الإنسان لنبذ أخيه الآخر وتكفيره، يؤكد على مبدأ القطيعة معه، يعزز فيه منطق العدوان والتسلط، يشجعه على الكراهية، والتوهم أنّ هذا الطريق يوصل إلى الجنة الموعودة! النتائج المنطقية للدين الأول انتشار السلام والأمن والطمأنينة والعلم والحضارة بأبعادها المختلفة، أما نتائج الدين الثاني فستكون كارثية على الإنسان والحياة. وهذا الذي نراه اليوم من صراعات تعكس حركة البشر في تغليب دين من الدينين أو بعبارة الاستراتيجيين تعديل جوهري وجذري في خرائط المنطقة لمصلحة فريق على آخر. في عرسال وجرودها على سبيل المثال صراع يجري مجرى الصراعات الكبرى في المنطقة. إرادتا طرفين تتواجهان لتعديل مقادير القوة في العقيدة كما في السياسة والأمن. غير أنّ طرفاً آخر وهو الدولة اللبنانية التي يجب أن تكون حاضرة لتحافظ على بلد عرف بالتسامح والحرية والتآخي والتعايش بين مختلف مكوناته تبدو غائبة بفعل التجاذب الذي يحكم جوانبها وهي تعرف أنّ نأيّها بنفسها عما يحدث في عرسال يعني استقالة كاملة عن دورها الوطني لحساب النخبة الطائفية المرتبطة بالتوجهات السعودية والتركية والقطرية.

فلنسأل: لماذا تتحرك المواقف الطائفية على أعتاب كل استحقاق وطني يُراد منه الحفاظ على أمن اللبنانيين واستقرارهم وانتظام مؤسساتهم وبقاء كيانهم؟ هكذا هي الحال عند مقاربة الملف الرئاسي والقادة العسكريين، وهكذا هي الحال أيضاً عند مقاربة ملف عرسال. حيث نسمع أصواتاً عالية تريد أن تمنع إجراء عملية جراحية لاستئصال الإرهابيين المنتشرين في عرسال وجرودها. ولكن لماذا هذا المنع طالما أن النخبة الطائفية تعترف أن هؤلاء يشكلون تهديداً مباشراً على أمن البقاع وأمن لبنان. وأنهم يخططون لإقامة منطقة عازلة أو إمارة خاصة تكون امتداداً للدولة الإسلامية المزعومة في العراق والشام، وأنهم يسعون للوصول إلى بيروت، وأنهم لا يؤمنون بوجود وإيمان معظم الطوائف اللبنانية.
فإذا كان هؤلاء الإرهابيون على هذا المستوى من الخطورة. فلماذا لا تتحرك الدولة بكل مؤسساتها السياسة والأمنية لتدافع عن نفسها. وإذا كان منطق هذه النخبة ترك الإرهابيين يقاتلون في سورية لإسقاط الدولة في سورية، فهل تقبل بالمنطق نفسه لهؤلاء وترضى عن ممارساتهم لإسقاط الدولة في لبنان.

إن الإرهابيين التكفيريين لا يفرقون بين حكم وحكم وبلد وبلد فكل أرض يستطيعون الوصول إليها سيقيمون فيها حكمهم الضال والشاذ.
من هنا ننبه بعض القيادات في لبنان أن لا يستمرّوا في الخطأ، ويحولوا عملية تحرير جرود عرسال من الإرهابيين إلى قضية طائفية. إن من يمتنع عن مساعدة الجيش عن القيام بواجبه في تلك المنطقة هو من يعمل على تكريس منطق الدواعش وهو من يحضّر لهم البيئة لإسقاط الدولة في لبنان.

فحذار حذار من هذه اللعبة. لقد تخلت الطبقة السياسية عن الجيش عندما احتلت «إسرائيل» لبنان فسقط الجنوب وسقطت معه بيروت.
فهل من المعقول أن تقع هذه النخبة في الخطأ نفسه فتتخلى عن الجيش ليحتل الدواعش بقاعنا الحبيب وصولاً إلى العاصمة بيروت! وإذا لم يتحرك الجيش سيتحرك أهل النخوة من العشائر وحزب الله، لأنّ أحداً من الشرفاء في هذا البلد لن يقبل أن تُداس الأرض التي حُررت بالدماء من الصهاينة أن يعاد احتلالها من الدواعش!

استعمال المضامين بموجب بند 27 أ لقانون الحقوق الأدبية لسنة 2007، يرجى ارسال رسالة الى:
[email protected]