"الموسيقى لغة الشعوب ولا علاقة بينها وبين السياسة"، جملة لطالما سمعناها ورددها عددٌ من الموسيقيين لأسباب غير واضحة، على الأقل بالنسبة لي، أخذًا بعين الاعتبار أن الفنان، بغض النظر عن هويته، هو إنسان متفاعل مع الثقافة السياسية السائدة في المجتمع، وأكثر من هذا، مع العوامل والمتغيرات الدوليّة وانعكاساتها على الساحة المحليّة.

وبقدر قناعتي التامة أن هنالك علاقة قوية بين السياسة والفن، كل انواع الفن وليس فقط الفن الملتزم، فعلى سبيل المثال لا الحصر الفنانة الشهيرة تحية كاريوكا استطاعت أن تجمع ما بين الرقص الشرقي والنشاط في "الحزب الشيوعي" و- "صف النساء التقدميّات"، انا على قناعة أن الفن ليس هروبًا من الواقع إلى عالم الغيبيات والـ ما ورائيات، وهي مقولة أخرى تلاقى قاعدة شعبية واسعة، إنما هو اشتباك مع الواقع وتعبير عنه ونقد له وتمرد عليه، حيث يفترض بالفن ان لا يهبط على الواقع هذا بقدر ما يصدر عنه.

جوقة "شيرانا"...فن وسياسة!

ولأن الفن غير منعزل عن الجدالات السياسية، نختار في هذا التقرير أن نتحوّل من "فن السياسة" إلى "سياسة الفن" لنسلط الضوء على جوقة "شيرانا"، والتي تنشط مع المركز اليهودي العربي في يافا، خاصةً بعد أن أصدرت الجوقة أغنية جديدة قبل اسبوع حملت الاسم "ما ربيت ابني ليكون جنديا".

وتقول الأغنية التي تقدمها 10 مغنيات، فلسطينيات وإسرائيليات، مسلمات ومسيحيات ويهوديات، باللغات العربية، العبرية والأنجليزية: ما ربيت ابني ليكون جنديًا، ربيته ليكون أنسان، من يجرؤ ليعطيه بندقية، ليقتل فيها ابنًا غاليًا، يكفي إرهاب...يكفي عذاب..

من الصعب أن لا تجد نفسك متماهيًا مع الأغنية، خاصة وأن معظم عضوات الجوقة هنّ أمهات، وعادةً نداءات الأم تكون معبرة وصادقة، لكن الأغنية تطرح عدة تساؤلات لا بد من التعامل معها، ومنها؛ إلى أيَّ مدى تؤثر هذه الأغنية على المناخ السياسيّ السائد، خاصة وأن كل بيت إسرائيل فيه على الأقل مجنّد واحد، وإلى أيَّ مدى صوت الأم مسموع؟! وعلى أية فرضيات واقع سياسية مبنية تلك الأغنية؟! وهل الشراكات الفلسطينية (داخل الـ 48) واليهودية لا زالت ممكنه في الوقت التي تتنامى فيه العنصرية وتتسع أكثر دوائر التمييز والتهميش؟!

بدرية، سهراب ووالدتهما علياء...الغناء حتى الوصول إلى تسوية

بدرية بخاري، مربية أجيال وأم، وعضو في الجوقة هي ووالدتها علياء وأختها سهراب قالت لـ "بكرا" معقبة على بعض التساؤلات: بداية بودي الحديث عن الجوقة، فـ "شيرانا" بدأت مشوارها قبل 8 سنوات تقريبًا في المركز اليهودي العربي في يافا. أذكر حينها أني قرأت الإعلان في الصحيفة عن البحث عن أعضاء جوقة، وفكرت في الموضوع مليًا. من ناحية صوتيّ جميل جدًا ومن ناحية أخرى مبادرات عربية إسرائيلية كانت ليست موضع ثقة بالنسبة لي، خاصة وأن الوضع السياسيّ يزداد سواءً، اضف إلى ذلك، أنني عربية في مجتمع يعد محافظ بعض الشيء، والمشاركة في جوقة غنائية لم يكن قرار سهل ومقبول، ومع كل التحفظات والمعيقات قررت أن أقدم للمشاركة في الجوقة وطبعا قُبلت ولاحقُا انضمت لي سهراب (أختي) ووالدتي التي تبلغ من العمر اليوم 63 عامًا، ولكم أن تتخيلوا سيدة في هذا الجيل تقف على منصة وتقدّم أغان تهدف من خلالها إلى رأب الصدع السياسيّ الموجود، بغض النظر عن النجاح وعدم النجاح في تلك المهمة.

وتضيف بخاري إلى "بكرا قائلة: لن أقول أن المشاركة في الجوقة كان سهلا، على العكس، ففي بداية الطريق كان يُطلب منا غناء أغاني لطالما رددناها بنمط معيّن لكن الآن علينا أن ندخل إليها ترجمات بالعبرية، كأغنية لفيروز مثلا، حالة من الاغتراب كانت تصيبني في حينه ولم أعد أشعر أن هذا الأغنية تحاكي هويتي. لاحقًا ومع مرور الأيام بدأت بالاستيعاب أننا جوقة من نمط آخر، تلك التي لا تؤمن أن الفن هو صوت وكلمة بقدر ما هو رسالة ساميّة قادرة على التأثير، والعلاقات القوية والمتينة التي جمعت بيننا في الفرقة ساهمت كثيرًا في تخطي حالة الاغتراب نحو تبني المقولة "دعونا نحاول، ويكفي شرف المحاولة".

وتقول بخاري لـ "بكرا" عن الفرضيات السياسية المبنية عليها الفرقة: من المهم التشديد على أن فلسطينية ابنة يافا، وهذا موضوع لا اناقشه فهو مفهوم ضمنًا. ولسؤالك، شخصيًا لا أفضل استعمال كلمة "تعايش"، فكلمة "تعايش" هي ترسيخ للواقع الحاليّ ومحاولة للتعامل معه. برأيي، في جوقة "شيرانا" نهدف إلى تغيير الوضع، وليس تذويته، تقبله ومحاولة التعايش معه. مع كامل التحفظ المجتمعي على مبادرات مماثلة، خاصة من المجتمع العربي الذي قل ما يصل إلى مشاركتنا في العروض، إلا أن الجوقة مبنية على فرضيات سياسية متفق عليها، سقفها ضرورة الوصول إلى تسوية سياسية بين الجانبين الفلسطيني والإسرائيلي وفي أسرع وقت ممكن، ووقف كافة انواع التمييز والتهميش التي تتعرض لها الأقلية العربية.

أما في ما يتعلق بقدرة الجوقة على التأثير على المناخ السياسي السائد قالت بدرية: لا اعرف إذا ما كنا قادرات على التأثير على المناخ العام، لكننا مستمرات في المحاولة. أحيانًا المناخ السياسي يؤثر علينا لكن سرعان ما نتجاوز ذلك. أذكر أنه وفي العام الفائت أحداث غزة أثرت علينا كثيرًا في الفرقة، خاصةً لما لحقها من تضييقات وملاحقات للعمال العرب، لكن الزميلات في الفرقة تداركن الوضع وبدأنا بالعمل نحو تعزيز لغة الحوار في يافا والدعوة إلى وقف المجازر في غزة حالا.

ميكي اورن: لو عاد لي الزمن لربما ..

بدورها قالت ميكي أورن، وهي أيضًا مربية أجيال وعضو في الجوقة لـ "بكرا" عن تأثير "شيرانا" على الجو السياسيّ العام: من الصعب فعلا أن نحدد مدى التأثير، لكن المس التقبل والدعم من قبل الجمهور الذي نعرض أمامه. لربما جمهورنا خاص وداعم ويرغب بالتوصل إلى السلام، لكن بكل الأحوال لم أسمع إلى اليوم ومنذ بدأت الغناء بالفرقة عن معارضة وهجوم لنا، لا من عربيّ ولا من يهوديّ.

وردًا على سؤالنا إلى ما كانت الأغنية هي "تعزيز لرفض الخدمة العسكريّة الإسرائيلية" قالت اورن: لا أعتقد ذلك، فكل بيت إسرائيلي هنالك مجند واحد على الأقل، وهذا نوع من الحلم الذي برأيي ولواقعيتي من الصعب تحقيقه. شخصيًا، لي ولدين وقد مرا في الخدمة العسكرية، هما في أجيال 33 عامًا و- 27 عامًا، لا أعرف، ربما لو عاد بي الزمن إلى فترة ما قبل تجندهما كنت قد فكرت مليًا في الموضوع، فأنا لا أريد خسارتهما.

وعن تقيمها للوضع السياسيّ قالت اورن لـ "بكرا": من حظنا على أن العلاقات في يافا بين المجتمعين العربي واليهودي خاصةً جدًا. لكن كما ذكرت زميلتي بدرية؛ ابان عملية الجرف الصامد ساءت العلاقات نوعًا ما وتداركنا الوضع سريعًا وبدأنا بالنشاط والعمل نحو رأب الصدع والمطالبة بوقف العمليات في غزة.

واختتمت اورن قائلة لـ "بكرا": لا يهم كيف وماذا يفكر المجتمع، برأيي علينا أن نستمر بالغناء املا في ان يتم الوصول إلى تسوية وإنهاء الاحتلال، مع التشديد اننا نغني أغاني تحمل مقولات سياسية لكن في ذات الوقت نغني اغاني تحمل رسائل مجتمعيّة، وبلغات متعددة منها؛ العربية، العبرية، الانجليزية والفرنسية. 

استعمال المضامين بموجب بند 27 أ لقانون الحقوق الأدبية لسنة 2007، يرجى ارسال رسالة الى:
[email protected]